الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المجلس الثالث عشر

حديث الغار  

حدثنا محمد بن نوح بن عبد الله المعروف بالجنديسابوري، إملاء في يوم السبت لليلتين خلتا من المحرم سنة عشرين وثلثمائة، قال: حدثنا علي بن حرب الجنديسابوري قال: حدثنا عثمان بن أبي مقسم، عن نافع، أن ابن عمر أخبره أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: "أن ثلاثة نفر انطلقوا يتماشون فأصابهم المطر فأووا إلى غار في جبل، فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله أن يفرج عنا فرجة نرى منها السماء، فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان وكان لي امرأة وصبوة، وكنت أرعى عليهما فإذا مشيت حلبت لهما في إنائهما ثم سقيتهما، وإني جئت ذات ليلة وقد دنا السحر وقد ناما، وكنت قد حلبت لهما في إنائهما فقمت على رؤوسهما والصبوان يتضاغون عند رجلي أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبوان قبلهما، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك من مخافتك فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، قال: فأفرجت منها فرجة رأوا منها السماء.

قال: وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم وإني راودتها عن نفسها فأبت علي حتى أتيتها بمائة دينار، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تكسر الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركته لها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك مخافتك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، فأفرجت فرجة أخرى فرأوا منها السماء.

قال: وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيرا يعمل لي في فرق من زيت، فلما عمل أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى هذا الفرق الزيت فخذه، فرغبت عنه نفسه، فعدت إليه، فجمعته فبعت منه حتى كان بقرا ورعاتها، فأتاني فقال: يا عبد الله اتق الله وأعطني أجرتي، فقلت: املك هذه البقرات ورعاتها. فاستاقها، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك مخافتك فافرج عنا الحجر، فأفرج عنهم الحجر، فخرجوا يتماشون إلى أهاليهم".


التعليق على الحديث

قال القاضي: حديث الغار هذا معروف عند أهل العلم، وقد ورد الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه، وكتبناه من طرق شتى عن الشيوخ، وأتينا بهذا لأنه حضرنا في هذا الوقت دون غيره.

وفيه ما يدعو إلى فعل الخير واصطناع المعروف والإشفاق من الظلم، والحذر من وخيم مغبته وسوء عاقبته، وفيه بيان أن أكثر فعل البر عدة لصاحبه، وذخر يورثه النجاة من المخوفات، ويعطيه الإغاثة عند اللزبات.

وقد حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي، قال: حدثنا محمد ابن العباس بن [ ص: 94 ] النصير التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، وأكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة".

كثير من أصحاب الحديث لا يضبط اللغة

وروى لنا الجنديسابوري هذا الخبر، فقال فيه: الصبوة والصبوان كأن اللافظ اعتبر فيه لفظ الصبوة. وقولهم: صبا يصبو، والسائر في كلام العرب الصبية في جمع صبي والصبيان، وأصحاب الحديث لا يضبط كثير منهم مثل ذلك فيحيله ولا يضبطه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وكلامه جار على أوضح الإعراب، وأعلى مراتب الصواب.

إعراب المفعول له  

وقول من حكى عنه في هذا الخبر: إنما فعلت ذلك مخافتك، المعني به لمخافتك ومن مخافتك ولأجل مخافتك، وهذا الذي ينتصب عند النحاة لأنه مفعول له، يقال: دنوت ابتغاء الخير، ونأيت حذار الشر، قال الله عز وجل: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت أي لحذر الموت، أو من حذره، وقد قيل إن المعنى، أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر الموت، وأن حذر الموت منصوب لأنه مفعول ثان، فقولك: جعلت مالك في بيتك عدة لزمانك، وسلاحك في رحلك جنة من عدوك، ومن هذا النحو، قول الشاعر:


وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن ذنب اللئيم تكرما

التالي السابق


الخدمات العلمية