باب التوبة
قال الله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون
أخبرنا قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك أحمد بن محمود بن خراز قال حدثنا محمد بن فضل بن جابر قال حدثنا سعيد بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن زكريا قال حدثني أبي قال: سمعت يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: أنس بن مالك إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، قيل: يا رسول الله، وما علامة التوبة؟ قال: " الندامة". التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب، ثم تلا
أخبرنا قال: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبيد الصفار محمد بن الفضل بن جابر أخبرنا قال حدثنا الحكم بن موسى غسان بن عبيد عن أبي عاتكة طريف بن سليمان، عن أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنس بن مالك " ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب".
التوبة أول منزلة من منازل السالكين وأول مقام من مقامات الطالبين وحقيقة التوبة في لغة العرب الرجوع يقال تاب أي رجع فالتوبة الرجوع عما كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأرباب الأصول من أهل السنة قالوا: شرط التوبة حتى تصح ثلاثة أشياء: [ ص: 208 ] الندم التوبة
الندم على ما عمل من المخالفات، وترك الزلة في الحال، والعزم على أن لا يعود إلى مثل ما عمل من المعاصي فهذه الأركان لا بد منها حتى تصح توبته قال هؤلاء: وما في الخبر أن إنما نص على معظمه كما قال صلى الله عليه وسلم الحج "الندم توبة" عرفة أي معظم أركانه عرفة أي الوقوف بها لا أنه لا ركن في الحج سوى الوقوف بعرفات ولكن معظم أركانه الوقوف بها كذلك قوله: أي معظم أركانها الندم ومن أهل التحقيق من قال: يكفي الندم في تحقيق ذلك، لأن الندم يستتبع الركنين الآخرين فإنه يستحيل تقدير أن يكون نادما على ما هو مصر على مثله أو عازم على الإتيان بمثله وهذا معنى التوبة على جهة التحديد والإجمال. الندم توبة
فأما على جهة الشرح والإبانة فإن للتوبة أسبابا وترتيبا وأقساما فأول ذلك انتباه القلب عن رقدة الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة ويصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق سبحانه بسمع قلبه، فإنه جاء في الخبر وفي الخبر "واعظ الله في قلب كل امرئ مسلم" فإذا فكر بقلبه في سوء ما يصنعه وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال سنح في قلبه إرادة التوبة والإقلاع عن قبيح المعاملة فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة والأخذ في جميل الرجعى والتأهب لأسباب التوبة. "إن في البدن لمضغة إذا صلحت صلح جميع الجسد وإذا فسدت فسد جميع البدن ألا وهي القلب"
فأول ذلك: [ ص: 209 ] هجران إخوان السوء فإنهم هم الذين يحملون على رد هذا القصد ويشوشون عليه صحة هذا العزم ولا يتم ذلك إلا بالمواظبة على المشاهدة التي تزيد رغبته في التوبة وتوفر دواعيه على إتمام ما عزم عليه مما يقوي خوفه ورجاءه فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الأفعال فيقف عن تعاطي المحظورات ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات فيفارق الزلة في الحال ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال فإن مضى على موجب قصده ونفذ بمقتضى عزمه فهو الموفق صدقا. وإن نقض التوبة مرة أو مرات وتحمله إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا أيضا كثيرا فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء فإن لكل أجل كتابا.
حكي عن أبي سليمان الدارني أنه قال: اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي كلامه في قلبي في الطريق ثم زال ثم عدت ثالثا فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق فحكى هذه الحكاية فقال: عصفور اصطاد كركيا أراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركي ليحيى بن معاذ أبا سليمان الداراني.
ويحكى عن أبي حفص الحداد أنه قال: تركت العمل كذا وكذا مرة فعدت إليه ثم تركني العمل فلم أعد بعد إليه.
وقيل: إن أبا عمرو بن نجيد في ابتداء أمره اختلف إلى مجلس فأثر في قلبه كلامه فتاب ثم إنه وقعت له فترة فكان يهرب من أبي عثمان إذا رآه ويتأخر عن مجلسه فاستقبله أبي عثمان يوما فحاد أبو عثمان أبو عمرو عن طريقه وسلك طريقا أخرى فتبعه فما زال يقفوا أثره حتى لحقه فقال له: [ ص: 210 ] أبو عثمان
يا بني لا تصحب من لا يحبك إلا معصوما إنما ينفعك في مثل هذه الحالة قال فتاب أبو عثمان أبو عمرو بن نجيد وعاد إلى الإرادة ونفذ فيها.
سمعت الشيخ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: تاب بعض المريدين ثم وقعت له فترة فكان يفكر وقتا لو عاد إلى توبته كيف حكمه؟ فهتف به هاتف يا فلان أطعتنا فشكرناك ثم تركتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا قبلناك فعاد الفتى إلى الإرادة ونفذ فيها.
فإذا ترك المعاصي وحل عن قلبه عقدة الإصرار وعزم على أن لا يعود إلى مثله فعند ذلك يخلص إلى قلبه صادق الندم فيتأسف على ما عمله ويأخذ في التحسر على ما صنعه من أحواله وارتكبه من قبيح أعماله فتتم توبته وتصدق مجاهداته واستبدل بمخالطته العزلة وبصحبته مع أخدان السوء التوحش عنهم والخلوة ويصل ليله بنهاره في التلهف ويعتنق في عموم أحواله بصدق التأسف يمحو بصوب عبرته آثار عثرته ويأسو بحسن توبته كلوم حوبته يعرف من بين أمثاله بذبوله ويستدل على صحة حاله بنحوله ولن يتم له شيء من ذلك إلا بعد فراغه من إرضاء خصومه والخروج عما لزمه من مظالمه فإن أول منزلة من التوبة إرضاء الخصوم بما أمكنه فإن اتسع ذات يده لإيصال حقوقهم إليهم أو سمحت أنفسهم بإحلاله والبراءة عنه وإلا فالعزم بقلبه على أن يخرج عن حقوقهم عند الإمكان والرجوع إلى الله بصدق الابتهال والدعاء لهم.
وللتائبين صفات وأحوال:
هي من خصالهم يعد ذلك من جملة التوبة لكونها من صفاتهم لا لأنها من شرط صحتها وإلى ذلك تشير أقاويل الشيوخ في معنى التوبة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: [ ص: 211 ] التوبة على ثلاثة أقسام:
أولها التوبة وأوسطها الإنابة وآخرها الأوبة. فجعل التوبة بداية والأوبة نهاية والإنابة واسطتهما، فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعا في الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في الثواب أو رهبة من العقاب فهو صاحب أوبة، ويقال أيضا: التوبة صفة المؤمنين قال الله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون والإنابة صفة الأولياء والمقربين قال الله تعالى: وجاء بقلب منيب والأوبة صفة الأنبياء والمرسلين قال الله تعالى: نعم العبد إنه أواب .
سمعت الشيخ يقول سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله جعفر بن نصير يقول سمعت يقول: التوبة على ثلاثة معان: أولها الندم. الجنيد
والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه.
والثالث السعي في أداء المظالم.
وقال التوبة ترك التسويف. سهل بن عبد الله
سمعت يقول سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا بكر الرازي أبا عبد الله القرشي يقول: سمعت يقول سمعت الجنيد الحارث يقول: ما قلت قط اللهم إني أسألك التوبة ولكني أقول أسألك شهوة التوبة أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال: سمعت أبا عبد الله بن مصلح بالأهواز يقول سمعت ابن زيري يقول سمعت يقول: دخلت على الجنيد يوما فرأيته متغيرا فقلت له: مالك؟ [ ص: 212 ] فقال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة فقلت له: أن لا تنسى ذنبك فعارضني وقال بل التوبة أن تنسى ذنبك فقلت: إن الأمر عندي ما قال الشاب فقال: لم؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الوفاء فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت. السري
سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول سئل عن التوبة فقال: أن لا تنسى ذنبك وسئل سهل بن عبد الله عن التوبة فقال: أن تنسى ذنبك قال الجنيد أبو نصر السراج أشار سهل إلى أحوال المريدين والمتعرضين تارة لهم وتارة عليهم فأما فإنه أشار إلى توبة المحققين فإنهم لا يذكرون ذنوبهم بما غلب على قلوبهم من عظمة الله ودوام ذكره قال وهو مثل ما سئل الجنيد رويم عن التوبة فقال: التوبة من التوبة.
وسئل عن التوبة، فقال: توبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة. ذو النون المصري
وقال التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله عز وجل. النوري:
سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول سمعت عبد الله بن علي بن محمد التميمي يقول شتان ما بين تائب يتوب من الزلات وتائب يتوب من الغفلات وتائب يتوب من رؤية الحسنات.
وقال الواسطي: التوبة النصوح لا تبقي على صاحبها أثرا من المعصية سرا ولا جهرا ومن كانت توبته نصوحا لا يبالي كيف أمسى وأصبح.
سمعت الشيخ يقول: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي محمد بن إبراهيم بن الفضل الهاشمي يقول: سمعت محمد بن الرومي، يقول: سمعت [ ص: 213 ] يقول: إلهي لا أقول تبت ولا أعود لما أعرف من خلقي ولا أضمن ترك الذنوب لما أعرف من ضعفي ثم إني أقول لا أعود لعلي أن أموت قبل أن أعود. وقال يحيى بن معاذ الاستغفار من غير إقلاع توبة الكاذبين. ذو النون
سمعت يقول سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت النصراباذي ابن يزدانيار يقول وقد سئل عن العبد إذا خرج إلى الله على أي أصل يخرج؟ فقال: على أن لا يعود إلى ما منه خرج ولا يراعي غير من إليه خرج ويحفظ سره عن ملاحظة ما تبرأ منه فقيل له هذا حكم من خرج عن وجود فكيف حكم من خرج عن عدم فقال: وجود الحلاوة في المستأنف عوضا عن المرارة في السالف.
وسئل البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فهو التوبة. وقال ذو النون أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار ثم تضيق عليك نفسك كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: حقيقة التوبة وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا . وقال التوبة توبتان: توبة الإنابة وتوبة الاستجابة فتوبة الإنابة أن يتوب العبد خوفا من عقوبته وتوبة الاستجابة أن يتوب حياء من كرمه. ابن عطاء
وقيل لأبي حفص: لم يبغض التائب الدنيا؟ قال لأنها دار باشر فيها الذنوب فقيل له أيضا هي دار أكرمه الله فيها بالتوبة فقال: إنه من الذنب على يقين ومن قبول توبته على خطر. [ ص: 214 ]
وقال الواسطي طرب داود عليه السلام وما هو فيه من حلاوة الطاعة أوقعه في أنفاس متصاعدة وهو في الحالة الثانية أتم منه في وقت ما ستر عليه من أمره.
وقال بعضهم: توبة الكذابين على أطراف ألسنتهم يعني قول أستغفر الله.
وسئل أبو حفص عن التوبة فقال: ليس للعبد في التوبة شيء، لأن التوبة إليه لا منه. وقيل: أوحى الله سبحانه إلى آدم يا آدم ورثت ذريتك التعب والنصب وورثتهم التوبة من دعاني منهم بدعوتك لبيته كتلبيتك، يا آدم أحشر التائبين من القبور مستبشرين بي ضاحكين ودعاؤهم مستجاب.
وقال رجل لرابعة إني قد أكثرت من الذنوب والمعاصي فلو تبت هل يتوب علي؟ فقالت لا بل لو تاب عليك لتبت واعلم أن الله تعالى قال: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومن قارف الزلة فهو من خطئه على يقين فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرطه وحقه أن يكون مستحقا لمحبة الحق وإلى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله إياه مسافة بعيدة فالواجب إذن على العبد إذا علم أنه ارتكب ما تجب منه التوبة دوام الانكسار وملازمة التنصل والاستغفار كما قالوا: استشعار الوجل إلى الأجل وقال عز من قائل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وكان من سنته صلى الله عليه وسلم دوام الاستغفار، وقال صلى الله عليه وسلم: إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة.
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت الحسين بن علي يقول: سمعت يقول: سمعت محمد بن أحمد عبد الله بن سهل يقول: سمعت يقول: زلة واحدة بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها [ ص: 215 ] سمعت يحيى بن معاذ يقول سمعت محمد بن الحسين أبا عبد الله الرازي يقول سمعت يقول في قوله: أبا عثمان إن إلينا إيابهم قال رجوعهم وإن تمادى بهم الجولان في المخالفات.
سمعت الشيخ يقول سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا بكر الرازي أبا عمرو الأنماطي يقول ركب علي بن عيسى الوزير في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون: من هذا من هذا؟ فقالت امرأة قائمة على الطريق إلى متى تقولون من هذا من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله فابتلاه الله بما ترون فسمع علي بن عيسى ذلك فرجع إلى منزله واستعفى عن الوزارة وذهب إلى مكة وجاور بها. [ ص: 216 ]