اعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها ، فقيل لهم: الصحابة ، ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة التابعين ، ورأوا ذلك أشرف سمة ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهدا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.
ونحن نذكر في هذا الباب أسامي جماعة من شيوخ هذه الطريقة من الطبقة الأولى إلى وقت المتأخرين منهم ، ونذكر جملا من سيرهم وأقاويلهم بما يكون فيه تنبيه على أصولهم وآدابهم إن شاء الله تعالى. [ ص: 35 ]
أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور من فمنهم كورة بلخ رضي الله تعالى عنه ، كان من أبناء الملوك ، فخرج يوما متصيدا، فأثار ثعلبا أو أرنبا، وهو في طلبه فهتف به هاتف: يا إبراهيم ، ألهذا خلقت أم بهذا أمرت؟ ثم هتف به أيضا من قربوس سرجه ، والله ما لهذا خلقت ، ولا بهذا أمرت، فنزل عن دابته وصادف راعيا لأبيه، فأخذ جبة للراعي من صوف ولبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثم إنه دخل البادية ، ثم دخل مكة وصحب بها سفيان الثوري والفضيل بن عياض، ودخل الشام ومات بها ، وكان يأكل من عمل يده مثل الحصاد، وحفظ البساتين، وغير ذلك، وأنه رأى في البادية رجلا علمه اسم الله الأعظم ، فدعا به بعده فرأى الخضر عليه السلام ، وقال له: إنما علمك أخي داود اسم الله الأعظم. [ ص: 36 ]
أخبرنا بذلك الشيخ رحمه الله ، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين بن الخشاب ، قال: حدثنا أبو الحسين علي بن محمد المصري ، قال: حدثنا أبو سعيد الخراز ، قال: حدثنا ، قال: صحبت إبراهيم بن بشار ، فقلت: خبرني عن بدء أمرك فذكر هذا. إبراهيم بن أدهم
وكان كبير الشأن في باب الورع، ويحكي عنه أنه قال: أطب مطعمك ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار، وقيل: كان عامة دعائه اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك. إبراهيم بن أدهم
وقيل: إن اللحم قد غلا ، فقال: أرخصوه أي لا تشتروه، وأنشد في ذلك: لإبراهيم بن أدهم:
وإذا غلا شيء علي تركته فيكون أرخص ما يكون إذ غلا
أخبرنا رحمه الله تعالى ، قال: سمعت محمد بن الحسين ، يقول: سمعت منصور بن عبد الله محمد بن حامد ، يقول: سمعت ، يقول: قال أحمد بن خضرويه لرجل في الطواف: إبراهيم بن أدهم أولاها: تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية: تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة: تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة: تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة: تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة: تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت. اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات:
وكان يحفظ كرما فمر به جندي ، فقال: أعطنا من هذا العنب ، فقال: ما أمرني به صاحبه، [ ص: 37 ] فأخذ يضربه بسوطه فطأطأ رأسه ، وقال: اضرب رأسا طالما عصى الله فأعجز الرجل ومضى. إبراهيم بن أدهم
وقال سهل بن إبراهيم صحبت فمرضت فأنفق علي نفقته ، فاشتهيت شهوة ، فباع حماره ، وأنفق علي ثمنه ، فلما تماثلت ، قلت: يا إبراهيم بن أدهم: إبراهيم ، أين الحمار؟ فقال: بعناه ، فقلت: فعلى ماذا أركب؟ فقال: يا أخي على عنقي ، فحملني ثلاث منازل. [ ص: 38 ]