الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن ذلك:

القبض والبسط

 وهما حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف والرجاء، فالقبض: للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف ومن الفصل بين القبض والخوف والبسط والرجاء أن الخوف إنما يكون من شيء في المستقبل إما أن يخاف فوت محبوب أو هجوم محذور، وكذلك الرجاء إنما يكون بتأميل محبوب في المستقبل أو بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه في المستأنف.

وأما القبض: فلمعنى حاصل في الوقت، وكذلك البسط فصاحب الخوف والرجاء تعلق قلبه في حالتيه بآجله وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عليه في عاجله، ثم تتفاوت نعوتهم في القبض والبسط على حسب تفاوتهم في أحوالهم، فمن وارد يوجب قبضا ولكن يبقى مساغ للأشياء الأخر لأنه غير مستوف، ومن مقبوض لا مساغ لغير وارده يوجب قبضا ولكن يبقى مساغ للأشياء الأخر لأنه غير مستوف ومن مقبوض لا مساغ لغير وارده فيه لأنه مأخوذ عنه بالكلية بوارده كما قال بعضهم: أنا ردم أي لا مساغ في، وكذلك المبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شيء بحال من الأحوال.

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: دخل بعضهم على أبي بكر القحطي وكان له ابن يتعاطى ما يتعاطاه الشباب وكان ممر هذا الداخل على هذا الابن فإذا هو مع أقرانه في اشتغاله ببطالته [ ص: 157 ] فرق قلبه وتألم القحطي، وقال: مسكين هذا الشيخ كيف ابتلي بمقاساة هذا الابن؟ فلما دخل على القحطي وجده كأنه لا خبر له بما يجري عليه من الملاهي فتعجب منه وقال: فديت من لا تؤثر فيه الجبال الرواسي فقال القحطي: إنا قد حررنا عن رق الأشياء في الأزل.

ومن أدنى موجبات القبض  أن يرد على قلبه وارد موجبه إشارة إلى عتاب ورمز باستحقاق تأديب فيحصل في القلب لا محالة قبض وقد يكون موجب بعض الواردات إشارة إلى تقريب أو إقبال بنوع لطف وترحيب فيحصل للقلب بسط، وفي الجملة قبض كل أحد على حسب بسطه، وبسطه على حسب قبضه، وقد يكون قبض يشكل على صاحبه سببه: يجد في قلبه قبضا لا يدري موجبه ولا سببه، فسبيل صاحب هذا القبض التسليم حتى يمضي ذلك الوقت، لأنه لو تكلف نفيه أو استقبل الوقت قبل هجومه عليه باختياره زاد في قبضه ولعله يعد ذلك منه سوء أدب.

وإذا استسلم لحكم الوقت فعن قريب يزول القبض فإن الحق سبحانه قال: والله يقبض ويبسط وقد يكون بسط يرد بغتة ويصادف صاحبه فلتة لا يعرف له سببا يهز صاحبه ويستفزه، فسبيل صاحبه السكون ومراعاة الأدب فإن في هذا الوقت له خطرا عظيما فليحذر صاحبه مكرا خفيا كذا قال بعضهم: فتح علي باب من البسط فزللت زلة فحجبت عن مقامي، ولهذا قالوا: قف على البساط وإياك والانبساط.

وقد عد أهل التحقيق مطلق القبض والبسط من جملة ما استعاذوا منه، لأنهما بالإضافة إلى ما فوقهما من استهلاك العبد واندراجه في الحقيقة فقر وضر. [ ص: 158 ]

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: الخوف من الله يقبضني والرجاء منه يبسطني والحقيقة تجمعني والحق يفرقني إذا قبضني بالخوف أفناني عني، وإذا بسطني بالرجاء ردني علي، وإذا جمعني بالحقيقة أحضرني، وإذا فرقني بالحق أشهدني غيري فغطاني عنه فهو تعالى في ذلك كله محركي غير ممسكي وموحشي غير مؤنسي فأنا بحضوري أذوق طعم وجودي، فليته أفناني عني فمتعني أو غيبني عني فروحني.

[ ص: 159 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية