وهو الذي به الإله أرسلا رسله يدعون إليه أولا وأنزل الكتاب والتبيانا
من أجله وفرق الفرقانا
وقال تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) ( النساء : 163 - 165 ) . وفي الصحيح عن المغيرة رضي الله عنه قال : رضي الله عنه : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " تعجبون من غيرة سعد بن عبادة سعد ، والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين . ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة غيرة الله " . قال
وأما في مقامات التفصيل فقال تعالى : ( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) ( الأعراف : 59 ) [ ص: 404 ] إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ) ( الأعراف : 65 ) إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ( الأعراف : 73 ) إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ( الأعراف : 85 ) .
وقال تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون ) ( الأنعام : 74 - 78 ) وهذا في مقام على سبيل الاستدراج أو التوبيخ ليبين لهم سخافتهم وجهلهم وضعف عقولهم في عبادتهم هذه الكواكب المخلوقة لحكمة الله عز وجل المسخرة بقدرته وغفلتهم عن خالقها ومسخرها والمتصرف فيها وتركهم عبادته أو إشراكهم معه فيها غيره عز وجل فلما أقام عليهم الحجة : ( مناظرته عليه السلام لعباد الكواكب قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) ( الأنعام : 78 - 82 ) أي الذين آمنوا يعني صدقوا ووحدوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي شرك إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله عز وجل ، وفي الصحيح عن [ ص: 405 ] رضي الله عنه قال : لما نزلت ( عبد الله بن مسعود الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أينا لم يظلم نفسه ؟ فأنزل الله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( لقمان : 13 ) فالذين آمنوا الإيمان التام الذي لم تشبه شوائب الشرك الأكبر المنافي لجميعه ، ولا الشرك الأصغر المنافي لكماله ، ولا معاصي الله المحبطة لثمراته من الطاعات ، فأولئك لهم الأمن التام من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، والاهتداء التام في الدنيا والآخرة . وبحسب ما ينقص من الإيمان ينقص من الأمن والاهتداء ، وباجتناب الشرك الأكبر والأصغر يحصل مطلق الأمن والاهتداء ، وباجتناب المعاصي يحصل تمامهما .
ثم قال تعالى : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) ( الأنعام : 83 ) وقال تعالى : ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ) [ ص: 406 ] ( الأنبياء : 51 - 67 ) إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) ( الشعراء : 69 - 82 ) وقال تعالى : ( وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم ) ( الصافات : 83 - 97 ) إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) ( مريم : 41 - 45 ) . فبين لأبيه أن آلهته لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ولا تقدر على جلب خير ولا دفع شر ولا تغني عنه شيئا . فتبين بذلك أن عبادة مثل هذا جهل وضلال .
ثم بين له أن عنده دواء ذلك الداء والهدى من ذلك الضلال فقال تعالى : ( إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ) وبين أن فعله ذلك عبادة للشيطان ، موجب لعذاب الرحمن وولاية الشيطان ، عياذا بالله من ذلك . وقال تعالى : ( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ) ( العنكبوت : 16 - 17 ) [ ص: 407 ] إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) ( الزخرف : 26 - 28 ) وقال تعالى عن يوسف عليه السلام : ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ) ( يوسف : 37 - 40 ) الآيات ، وغيرها .
وكذلك قص الله تعالى علينا عن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : ( ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) ( إبراهيم : 9 - 12 ) الآيات .
ولو ذهبنا نذكر قصص الرسل ومحاورتهم مع قومهم وعواقب ذلك لطال الفصل . وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته في قومه وصبره على أذاهم وما جرى له معهم فأجلى من الشمس في نحر الظهيرة والقرآن كله من [ ص: 408 ] فاتحته إلى خاتمته في شأن ذلك .
( وأنزل ) الله عز وجل ( الكتاب ) اسم جنس لكل كتاب أنزله الله عز وجل على رسله وأشهرها الأربعة وهي : التوراة على موسى موعظة وتفصيلا لكل شيء . والإنجيل على عيسى فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين . والزبور على داود الذي كان إذا قرأه أوبت معه الجبال والطير . والقرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه . ( والتبيانا ) من عطف التفسير الذي هو أعم من المفسر لأن التبيان منه المتعبد بتلاوته والعلم به وهو الكتاب . ومنه المتعبد بالعمل به فقط وهو السنة وما في معناها . ( من أجله ) أي من أجل التوحيد ( وفرق الفرقانا ) إذ يقول تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) ( الإسراء : 106 ) الآيات . وسنذكر إن شاء الله تعالى أصل عبادة الأصنام وغيرها في فصل بيان ضد التوحيد الذي هو الشرك ، وبالله التوفيق .