الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ( مسألة ) : في الصحيحين ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بينما يهودي يعرض سلعته ، أعطي بها شيئا كرهه ، فقال : لا والذي اصطفى موسى على البشر . فسمعه رجل من الأنصار ، فقام فلطم خده ، وقال : تقول والذي اصطفى موسى على البشر [ ص: 1123 ] والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ؟ فذهب اليهودي إليه - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبا القاسم ، إن لي ذمة وعهدا ، فما بال فلان لطم وجهي ؟ فقال : لم لطمت وجهه ؟ فذكره ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رئي في وجهه ، ثم قال : لا تفضلوا بين أنبياء الله - عز وجل ، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى ، فأكون أول من بعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي ؟ ولا أقول : إن أحدا أفضل من يونس بن متى .

      ولهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما ينبغي لعبد أن يقول : إني خير من يونس بن متى . ولهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى .

      وفي رواية لمسلم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : - يعني : الله - تبارك وتعالى : لا ينبغي لعبد لي . . . الحديث .

      قال النووي - رحمه الله تعالى - في الحديث الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوا بين أنبياء الله " جوابه من خمسة أوجه :

      أحدها : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ، فلما علم أخبر به .

      والثاني : قاله أدبا وتواضعا .

      والثالث : أن النهي إنما هو عن تفضيل ، يؤدي إلى تنقيص المفضول .

      [ ص: 1124 ] والرابع : إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة ، كما هو المشهور في سبب الحديث .

      والخامس : أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة ، فلا تفاضل فيها ، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى .

      ذكر ابن كثير - رحمه الله تعالى - وجها أن التفضيل ليس إليكم ، وإنما هو إلى الله - عز وجل ، وعليكم الانقياد له والتسليم ، والإيمان به ، اه .

      قلت : الوجه الأول من كلام النووي ضعيف ، والثاني والخامس فيهما نظر ، والرابع قريب ، ويقوى عندي الوجه الثالث مع ما ذكره ابن كثير ، فليس التفضيل بالرأي ومجرد العصبية ، ولا بما يلزم منه تنقص المفضول والحط من قدره ، كل هذا وما في معناه محرم قطعا ، منهي عنه شرعا ، وهو الذي غضب منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يقصده ذلك الأنصاري - رضي الله عنه ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم ، ونهيه عن ذلك تعليم عام للأمة ، وزجر بليغ لجميعهم ; كيلا يقع ذلك أو يصدر عن أحد منهم فيهلك .

      وأما التفضيل بما أكرمه الله - عز وجل - ورفع به درجته ، ونوه في الوحي بشرفه من الفضائل الشرعية والأخروية ، وغير ذلك مما شهد الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - مما ذكرنا ومما لم نذكر ، فهو الذي يجب اعتقاده والإيمان به ، والتصديق والانقياد له والتسليم ، فلا يؤخذ علم ما يختص بالله ورسوله إلا عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان وبه التوفيق .

      وقال النووي - رحمه الله تعالى - فيما قاله - صلى الله عليه وسلم - في شان يونس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا زاجرا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئا من حط مرتبة يونس - صلى الله عليه وسلم - من أجل ما في القرآن من قصته ، قال العلماء : وما جرى ليونس - صلى الله عليه وسلم - لم يحطه من درجة النبوة مثقال ذرة ، وخصص يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذكر ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس ، فالضمير قيل : يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ، وقيل : يعود إلى القائل ، أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من [ ص: 1125 ] المجتهدين في عبادة أو غير ذلك من الفضائل ، فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ ، لم يبلغ درجة النبوة .

      ويؤيد هذا التأويل الرواية التي فيها قوله - صلى الله عليه وسلم : لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى . والله أعلم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية