الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      ( البحث الثالث : في دوامهما وبقائهما بإبقاء الله لهما ، وأنهما لا تفنيان أبدا ولا يفنى من فيهما )

      وإلى هذه المسألة الإشارة بقولنا ( لا فناء لهما ) قال الله تعالى في الجنة : ( خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) ( التوبة : 100 ) وقال تعالى : ( لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ) ( الحجر : 48 ) وقال تعالى : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ) ( هود : 108 ) وقال تعالى : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) ( ص : 54 ) وقال تعالى : ( إن المتقين في مقام أمين ) إلى قوله تعالى : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم ) ( الدخان : 51 - 57 ) وقال تعالى : ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) ( الواقعة : 33 ) وغير ذلك من الآيات . فأخبر تعالى بأبديتها بقوله : ( خالدين فيها أبدا ) ( التوبة : 22 ) ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) ( ص : 54 ) وأبدية حياة أهلها بقوله : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) ( الدخان : 56 ) وعدم انقطاعها عنهم بقوله : ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) ( الواقعة : 33 ) ( عطاء غير مجذوذ ) ( هود : 108 ) وبعدم خروجهم بقوله : ( وما هم منها بمخرجين ) ( الحجر : 48 ) وكذلك النار ، قال الله تعالى : ( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا ) ( النساء : 168 ) وقال تعالى : ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا ) ( الأحزاب : 64 ) وقال تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) ( الجن : 23 ) [ ص: 864 ] وقال تعالى : ( إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما ) ( الفرقان : 65 - 66 ) وقال تعالى : ( ولهم عذاب مقيم ) ( التوبة : 68 ) وقال تعالى : ( وما هم بخارجين من النار ) ( البقرة : 167 ) وقال تعالى : ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ) ( الزخرف : 74 - 77 ) الآيات .

      وقال تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ) ( فاطر : 36 - 37 ) وقال تعالى : ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ) ( المؤمنون : 106 - 108 ) وقال تعالى : ( ألا إن الظالمين في عذاب مقيم ) ( الشورى : 45 ) وقال تعالى : ( إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ) ( طه : 74 ) وقال تعالى : ( سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) ( الأعلى : 10 - 13 ) وقال تعالى : ( لابثين فيها أحقابا ) إلى قوله : ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) ( النبأ : 23 - 30 ) وغير ذلك في القرآن كثير . فأخبرنا تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن أهل النار الذين هم أهلها خلقت لهم وخلقوا لها وأنهم خالدون فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين لا فكاك لهم منها ولا خلاص ، ولات حين مناص . فأخبر تعالى عن أبديتهم فيها بقوله : ( خالدين فيها أبدا ) ( النساء : 169 ) ونفى تعالى خروجهم منها بقوله تعالى : ( وما هم بخارجين من النار ) ( البقرة : 167 ) ونفى تعالى انقطاعها عنهم بقوله عز وجل : ( ولا يخفف عنهم من عذابها ) ( فاطر : 36 ) وقال تعالى : ( لا يفتر عنهم ) ( الزخرف : 75 ) ونفى فناءهم فيها بقوله [ ص: 865 ] عز وجل : ( ثم لا يموت فيها ولا يحيا ) ( الأعلى : 13 ) وقوله : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) ( النساء : 56 ) .

      وقال البخاري رحمه الله تعالى في قول الله عز وجل : ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ) ( مريم : 39 ) حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد : يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رآه ثم ينادي : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون نعم ، هذا الموت وكلهم قد رآه ، فيذبح ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ثم قرأ : ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة ) ( مريم : 39 ) وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون " ووافقه على إخراجه مسلم من حديث أبي سعيد هذا .

      وأخرجاه أيضا من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت ، ويا أهل النار لا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم " .

      وفي رواية لمسلم عن عبد الله هو ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل الله أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول : يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت ، كل خالد فيما هو [ ص: 866 ] فيه " . ورواه البخاري دون قوله كل خالد إلخ . وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقال لأهل الجنة خلود لا موت ، ولأهل النار : يا أهل النار خلود لا موت " .

      وقال مسلم رحمه الله تعالى : حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر يعني ابن المفضل عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل . فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية " . ورواه الإمام أحمد من طرق بألفاظ متقاربة نحو هذا اللفظ . وفي الباب آيات وأحاديث كثيرة غير ما ذكرنا ، وفي هذا القدر كفاية وبالله التوفيق .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية