الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      الجمع بين نفي العدوى ، وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح .

      والجمع بين نفي العدوى ، وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح ، والأمر بالفرار من المجذوم ، وما في معناها من ثلاثة أوجه ، كلها نفي العدوى فيها على إطلاقه :

      الوجه الأول : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالفرار من المجذوم ; لئلا يتفق للمخالط شيء من ذلك ابتداء ، لا بالعدوى المنفية ، فيظن أنه بسبب المخالطة ، فيعتقد ثبوت العدوى [ ص: 986 ] التي نفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقع في الحرج ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بتجنب ذلك ، شفقة منه على أمته ورحمة بهم ، وحسما للمادة وسدا للذريعة ، لا إثباتا للعدوى كما يظن بعض الجهلة من الأطباء ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي استشهد لصحة العدوى بكون البعير الأجرب يدخل في الإبل الصحاح فتجرب ، فقال له - صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأول - يعني : أن الله تعالى ابتدأ المرض في الباقي كما ابتدأه في الأول ، لا أن ذلك من سريان المرض بطبيعته من جسد إلى آخر .

      الوجه الثاني : أن نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المخالطة ; لأنها من الأسباب التي أجرى الله تعالى العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها ، لا استقلالا بطبعها ، ولكن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الأسباب ومسبباتها ، فإن شاء تعالى أبقى السبب ، وأثر في مسببه بقضاء الله تعالى وقدره ، وإن شاء سلب الأسباب قواها ، فلا تؤثر شيئا ، ومن قوي إيمانه ، وكمل توكله ، وثقته بالله ، وشاهد مصير الأمور كلها إلى رب الأرباب ، ومسبب الأسباب ، كما أن مصدرها من عنده - عز وجل ، فنفسه أبية وهمته علية وقلبه ممتلئ بنور التوحيد ، فهو واثق بخالق السبب ، ليس لقلبه إلى الأسباب أدنى التفات ، سواء عليه فعلها أو لم يفعلها ، والدليل على ذلك ما روى أبو داود - رحمه الله تعالى : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا مفضل بن فضالة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد مجذوم ، فوضعها معه في القصعة وقال : كل ثقة بالله ، وتوكل عليه . ففي أمره - صلى الله عليه وسلم - بمجانبة المجذوم إثبات للأسباب التي خلقها الله - عز وجل ، وفي أكله - صلى الله عليه وسلم - معه تعليم لنا بأن الله هو مالكها ، فلا تؤثر إلا بإذنه ، ولا يصيب العبد إلا ما كتب الله له .

      الوجه الثالث : أن النفوس تستقذر ذلك وتنقبض عند رؤيته ، وتشمئز من مخالطته وتكرهه جدا ، لا سيما مع ملامسته وشم رائحته ، فيحصل بذلك تأثير بإذن [ ص: 987 ] الله في سقمها قضاء من الله وقدرا ، لا بانتقال الداء بطبيعته كما يعتقده أهل الجاهلية ، والدليل على هذا ما رواه أبو داود - رحمه الله تعالى ، حدثنا مخلد بن خالد وعباس العنبري قالا ، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن عبد الله بن بحير قال أخبرني من سمع فروة بن مسيك قال قلت يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبئة أو قال وباؤها شديد فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعها عنك فإن من القرف التلف . والقرف بالتحريك هو مقاربة الوباء ومداناة المرض ، والتلف بوزنه هو الهلاك ح - يعني : أنه سبب فيه ، قد يؤثر بإذن الله تعالى لا سيما مع كراهة النفس له واشمئزازها منه ( فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ) ، ( يوسف 64 ) .

      فإذا تبين لك هذا الجمع بين نفي العدوى وبين الأمر بمجانبة الداء ، تبين لك الجمع بينها وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح ، فإنه إذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد أمر المصح بمجانبة الداء ، فلأن ينهى الممرض عن إيراده على المصح من باب أولى ، فإن العلل التي قدمنا أنها من سبب النهي عن القدوم على الوباء ، والأمر بمجانبته موجودة في إيراد الممرض على المصح ، بزيادة كونها ليست باختيار المصح ، كقدومه هو بل مع كراهته لها وانقباضه من ذلك الممرض ، وربما أدى ذلك إلى بغضه إياه وغير ذلك . والمقصود أن نفي العدوى مطلق على عمومه ، وفيه إفراد الله - سبحانه وتعالى - بالتصرف في خلقه ، وأنه مالك الخير والشر ، وبيده النفع والضر ، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع ، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، ولا مغالب له في شيء من خلقه وأمره ، وفي ذلك تقوية لقلوب المؤمنين ، وإمداد لهم بقوة التوكل وصحة اليقين ، وحجة لهم على المشركين وسائر المعاندين ، وليس في الأمر بمجانبة البلاء ولا في النهي عن إيراده على المعافى منه منافاة ولا مناقضة ، بل ذلك مع الثقة بالله والتوكل عليه من فعل الأسباب النافعة ، وتوقي الأسباب المؤذية ، ودفع القدر بالقدر ، والإلتجاء من الله إليه ، [ ص: 988 ] وليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب ، وليس التوكل بترك الأسباب ، بل التوكل من الأسباب ، وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها ، كما أن من اضطربت نفسه ووجل قلبه فرقا وخوفا وارتيابا وعدم يقين بالقدر ، لا يكون متوكلا على الله بمداناته المرضى والمبتلين ، وتركه فعل الأسباب ، فكما لا يكون المرتاب متوكلا بمجرد تركه الأسباب ، كذلك لا يكون الموحد تاركا التوكل أو ناقصه بمجرد فعل الأسباب النافعة ، وتوقي المضرة وحرصه على ما ينفعه ، فإنما الشأن فيما وقر في القلوب وسكنت إليه النفوس ، والتوفيق بيد الله ، والمعصوم من عصمه الله تعالى .

      ومن هذا الباب نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن القدوم على البلاد التي بها الطاعون ، وعن الخروج منها فرارا منه ، فإن في القدوم عليه تعرضا للبلاء ، وإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ، وتسببا للأمور التي أجرى الله تعالى العادة بمضرتها ، وفي الفرار منه تسخطا لقضاء الله - عز وجل - وارتيابا في قدره ، وسوء ظن بالله - عز وجل ، فأين المهرب من الله وإلى أين المفر ؟ لا ملجأ من الله إلا إليه ، كما روى مالك في موطئه ، عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام ، قال ابن عباس فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين ، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه . وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال عمر ارتفعوا عني ثم قال : ادع لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم . فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان فقالوا نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر : في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه قال أبو عبيدة بن الجراح أفرارا من قدر الله فقال عمر : لو غيرك قالها [ ص: 989 ] يا أبا عبيدة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ، قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما . سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال : فحمد الله عمر ثم انصرف . وأخرجه الشيخان من طريقه بلفظه .

      وقوله - صلى الله عليه وسلم : " فلا تخرجوا فرارا منه " تقييد للنهي بخروج لقصد الفرار ، فلا يدخل في ذلك من خرج لحاجته اللازمة ، كما قيد - صلى الله عليه وسلم - الشهادة به للماكث ببلده ، بما إذا كان صابرا محتسبا ، صحيح اليقين ، ثابت العزيمة ، قوي التوكل ، مستسلما لقضاء الله - عز وجل ، كما قال البخاري - رحمه الله تعالى : باب أجر الصابر في الطاعون . ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا حبان ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها - أنها أخبرتنا أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون ، فأخبرها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء ، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين ، فليس من عبد يقع الطاعون ، فيمكث في بلده صابرا ، يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له ، إلا كان له مثل أجر الشهيد . فخرج بهذه الأوصاف من مكث في أرضه مع نقصان توكله وضعف يقينه ، فليس له هذه الفضيلة ، ومع هذا فلا يحل له الفرار منه ; لعموم النهي ، وله أجره على امتثال الشرع بحسب نيته وقوة إيمانه ، وإن خرج فرارا منه ، فهي معصية أضافها إلى ارتيابه وضعف يقينه ، والعياذ بالله ، وعلى هذا يحمل حديث أنس عند البخاري أيضا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الطاعون شهادة [ ص: 990 ] لكل مسلم . فإن مفهوم الحديث الأول : أن من لم يتصف بالصفات المذكورة ، لا يكون شهيدا ، وذلك لضعف يقينه ، وقد يقال هو شهيد في الصورة ، وليس مثل المتصف بتلك الصفات ، كما أن شهداء المعركة الذين يقتلون في معركة الكفار ليسوا سواء ، بل يتفاوتون بتفاوت نياتهم وما في قلوبهم ، وذلك معلوم من الدين بالضرورة ، والله - تبارك وتعالى - أعلم .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية