ثم الزيارة على أقسام ثلاثة يا أمة الإسلام فإن نوى الزائر فيما أضمره
في نفسه تذكرة بالآخرة ثم الدعا له وللأموات
بالعفو والصفح عن الزلات ولم يكن شد الرحال نحوها
ولم يقل هجرا كقول السفها فتلك سنة أتت صريحه
في السنن المثبتة الصحيحه
والبداءة بالشرعية لشرفها والندب إليها ، ثم البدعية لكونها أخف جرما من [ ص: 516 ] الشركية ، ثم هي بعد ذلك . ( فإن نوى الزائر ) للقبور ( فيما أضمره في نفسه ) ; أي كانت نيته بتلك الزيارة ( تذكرة بالآخرة ) ; أي ; إذ كانوا أحياء مثله يؤملون الآمال ويخولون الأموال ويجولون في الأقطار بالأيام والليال ، ويطمعون في البقاء ويستبعدون الارتحال ، فبينما هم كذلك إذا بصارخ الموت قد نادى فاستجابوا له على الرغم جماعات وفرادى ، وأبادهم ملوكا ونوابا وقوادا وأجنادا ، وقدموا على ما قدموا غيا كان أو رشادا ، وصار لهم التراب لحفا ومهادا ، بعد الغرف العالية التي كان عليها الحجاب أرصادا ، تساوى فيها صغيرهم وكبيرهم وغنيهم وفقيرهم وشريفهم وحقيرهم ومأمورهم وأميرهم . اتفق ظاهر حالهم واتحد ، ولا فرق للناظر إليهم يميز به أحدا من أحد . وأما باطنا فالله أكبر لو كشف للناظرين الحجاب ، لرأوا من الفروق العجب العجاب ، فهؤلاء لهم طوبى وحسن مآب ، وأولئك في أسوإ حالة وأشد العذاب ، فليعلم الواقف عليهم الناظر إليهم أنه بهم ملتحق ولإحدى الحالتين مستحق ، فليتأهب لذلك وليتب إلى العزيز المالك وليلتجيء إليه من شر كل ما هنالك . ليتعظ بأهل القبور ويعتبر بمصارعهم
( ثم ) قصد أيضا ( الدعا ) أي دعاء الله عز وجل ( له ) أي لنفسه ( وللأموات ) من المسلمين بالعفو من الله عز وجل ( والصفح عن الزلات ) وكذا يدعو لسائر المسلمين بذلك ( و ) مع ذلك ( لم يكن شد الرحال نحوها ) الضمير للقبور ، لما في الصحيحين عن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبي سعيد الخدري " . ( ولم يقل هجرا ) ; أي محظورا شرعا ( كقول ) بعض ( السفها ) لما في السنن من حديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى بريدة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " " . ( فتلك ) الإشارة إلى النوع المذكور من الزيارة ( سنة ) طريقة نبوية ( أتت صريحة ) ; أي واضحة ظاهرة [ ص: 517 ] ( في السنن ) ; أي الأحاديث ( المثبتة ) في دواوين الإسلام ( الصحيحة ) سندا ومتنا ، منها حديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فمن أراد أن يزور فليزر ، ولا تقولوا هجرا بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لمحمد صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فقد أذن " . رواه الترمذي وصححه .
وحديث رضي الله عنه قال : أبي هريرة " رواه الجماعة . وعن زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله . فقال : " استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت رضي الله عنه أبي هريرة السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال : " أحمد ومسلم . والنسائي ولأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها مثله ، وزاد : " " . اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنا بعدهم
وعن بريدة قال : " . رواه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية أحمد ومسلم ، زاد وابن ماجه مسلم في رواية : " يرحم الله المتقدمين منا ومنكم [ ص: 518 ] والمتأخرين " . وعن رضي الله عنهما قال : ابن عباس " . رواه مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال : " السلام عليكم يا أهل القبور ، يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر الترمذي وقال : حسن . وكذلك الأحاديث في خروجه صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد كثيرا ، يدعو لهم ويترحم عليهم .
وكان الصحابة إذا أتوا قبره صلى الله عليه وسلم صلوا وسلموا عليه فحسب ، كما كان رضي الله عنهما يقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا ابن عمر أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه . وكذا التابعون ومن بعدهم من أعلام الهدى ومصابيح الدجى ، لم يذكر عنهم في زيارة القبور غير العمل بهذه الأحاديث النبوية ، وأفعال الصحابة لم يعدلوا عنها ولم يستبدلوا بها غيرها ، بل وقفوا عندها ، فهذه الزيارة الشرعية المستفادة من الأحاديث النبوية وعليها درج الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان ، إنما فيها التذكر بالقبور والاعتبار بأهلها والدعاء لهم والترحم عليهم وسؤال الله العفو عنهم ، فمن ادعى غير هذا طولب بالبرهان ، وأنى له ذلك ومن أين يطلبه ؟ بل كذب وافترى وقفا ما ليس له به علم . بلى إن العلوم الشرعية دالة على ضلاله وجهله .
( أو قصد الدعاء ) من الصلاة وغيرها أو الاعتكاف عند قبورهم أو نحو ذلك ( والتوسلا ) بألف الإطلاق ( بهم ) أي بأهل القبور ( إلى الرحمن جل وعلا ) عما ائتفكه أهل الزيغ والضلال ( فبدعة محدثة ) لم يأذن الله تعالى بها ( ضلالة ) كما قال صلى الله عليه وسلم : " " . وقال صلى الله عليه وسلم : " كل بدعة ضلالة " . وقال صلى الله عليه وسلم في رواية : " من أحدث في [ ص: 519 ] أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . وقال صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وغير ذلك . فإن من قال : اللهم إني أسألك بجاه فلان ، وهو ميت أو غائب ، وإن كان يرى أنه لم يدع إلا الله ولم يعبد سواه ، فهو قد عبد الله بغير ما شرع وابتدع في الدين ما ليس منه واعتدى في دعائه ، ودعا الله بغير ما أمره أن يدعوه به ، فإن الله تعالى إنما أمرنا أن ندعوه بأسمائه الحسنى ، كما قال تعالى : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) ( الأعراف : 180 ) ولم يشرع لنا أن ندعوه بشيء من خلقه البتة ، بل قد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن نقسم بشيء من المخلوقات مطلقا ، فكيف بالإقسام بها على الله عز وجل .
وأما حديث الأعمى الذي يحتج به المجوزون للتوسل بالمقبور فلا حجة لهم فيه بحمد الله لو فهموا معناه ووضعوه موضعه ، ولكنهم أخطأوا في تأويله ولم يوفقوا لفهم مدلوله ، فإن هذا الحديث بجميع ألفاظه هو بمعزل عن مدعاهم ، وهذه ألفاظه من الكتب التي خرج فيها : قال الترمذي رحمه الله تعالى : حدثنا حدثنا محمود بن غيلان حدثنا عثمان بن عمر شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف " . هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني . قال : " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو [ ص: 520 ] خير لك " . قال : فادعه . قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ، ويدعو بهذا الدعاء : " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي ، اللهم فشفعه فيأبي جعفر وهو غير الخطمي اهـ .
قلت : الظاهر بالاستقراء أن أبا جعفر هذا هو الرازي التيمي مولاهم مشهور بكنيته ، وهو من رجال الأربعة واسمه عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان ، وأصله من مرو كان يتجر إلى الري ، روى عن عطاء وعمرو بن دينار وقتادة ، وعنه أبو عوانة وشعبة كما في هذا الحديث ، قال : ثقة ، وقال ابن معين : ثقة يخلط عن ابن المديني المغيرة ، وقال : سيء الحفظ ، وقال الفلاس أبو حاتم : ثقة صدوق صالح الحديث ، وقال في التقريب : صدوق سيء الحفظ خصوصا عن المغيرة من كبار السابعة مات في حدود الستين ومائة . والظاهر من عباراتهم أن تخليطه عن المغيرة خاصة وهو ثبت فيمن سواه . وبهذا يجمع بين قول من يضعفه وقول من يوثقه ، كيف ومن الموثقين له شيخا البخاري ، يحيى بن معين وهما هما . والله أعلم . وعلي بن المديني
ورواه عن النسائي ولفظه : عثمان بن حنيف وسلم نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف [ ص: 521 ] عن بصري ، اللهم فشفعه في " . قال : فرجع وقد كشف الله بصره اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه . وقال أن رجلا أعمى قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يكشف لي عن بصري . قال : فانطلق فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال : " أحمد رحمه الله تعالى في مسنده : حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال : سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف " . أن رجلا ضريرا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ادع الله أن يعافيني . فقال : " إن شئت أخرت ذلك فهو أفضل لآخرتك ، وإن شئت دعوت لك " . قال : بل ادع الله لي . فأمره أن يتوضأ وأن يدعو بهذا الدعاء : " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي ، اللهم فشفعني فيه وشفعه في
قلت : عمير بن يزيد الخطمي هذا هو أبو جعفر الذي فرق الترمذي بينه وبين أبي جعفر المذكور في روايته ، وقد قلنا الظاهر أنه هو الرازي التيمي وكلاهما شيخ لشعبة وكلاهما صدوق ، فيحتمل أن كلا منهما سمعه من عمارة ، وسمعه شعبة من كليهما ، وحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا ، فرواه عن عثمان بن عمر شعبة عن أبي جعفر الرازي التيمي ، وسمعه روح منه عن الخطمي فحدث به كذلك ، والله عز وجل أعلم .
والمقصود أن هذا الحديث إن جزمنا بصحته فليس فيه لهم حجة ولا دليل على ما انتحلوه بأفكارهم الخاطئة ، فإن هذا الأعمى إنما سأل من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء له بكشف بصره وهو حي حاضر قادر على ما سأله منه وهو الدعاء ، وهو يؤمن على ذلك ويقول : اللهم شفعه في ، فسأل من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وسأل قبول دعائه من الله عز وجل لعلمهم التام بالإيمان بالله عز وجل وأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، وبهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى فاجتمع الدعاء من الجهتين . وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم كثيرا ما كانوا يسألون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالنصر وأن يستسقي لهم إذا أجدبوا ، وبتكثير الطعام كما سأل منه عمر رضي الله عنه في غزوة [ ص: 522 ] تبوك وقالت له أم أنس : خويدمك أنس ادع الله تعالى له . وأمثال ذلك في حياته الدنيا مما لا يحصى ، وكذلك في موقف القيامة يسأل الخلائق من أولي العزم أن يشفعوا لهم إلى ربهم في فصل القضاء واحدا بعد واحد حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم ، فيذهب ويسجد تحت العرش ويحمد الله تعالى ويثني عليه ، إلى أن يقول له : " ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع " . وذلك إذا أذن الله عز وجل له في الشفاعة التي وعده إياها كما سيأتي تقريره ، وقد لعمر وهو ذاهب للعمرة : " لا تنسنا من دعائك " . قال النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك استسقى عمر رضي الله عنه بالعباس والصحابة متوافرون كما في صحيح : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " . وكان من دعاء البخاري العباس يومئذ : " اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يكشف إلا بتوبة ، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة ، فاسقنا الغيث " . ذكره ، وكان ذلك الجدب عام الرمادة . الزبير بن بكار
وكذلك قال معاوية لما استسقى فقال : " اللهم إنا نستشفع - أو نتوسل - إليك بخيارنا ، يا بيزيد بن الأسود الجرشي يزيد ارفع يديك . فرفع يديه ودعا الناس حتى سقوا ، فكان أفضل القرون يسألون الله عز وجل ويلتمسون الصالحين منهم الحاضرين عندهم أن يسألوا الله عز وجل لهم ولهم ، وتوسلهم إنما كان بدعائهم لا [ ص: 523 ] بذواتهم ، وهذا جائز في كل زمان ومكان أن تسأل من عبد صالح حاضر عندك أن يدعو لك وتؤمن أنت على دعائه ، أو ونحو ذلك ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ودرج عليه السلف الصالح رحمهم الله تعالى ، ولو كان ذلك عندهم جائزا - أعني تسأل من مسافر الدعاء بظهر الغيب - لم يحتج الأعمى أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الدعاء ، بل كان يتوسل به في محله أينما كان ، إذ لا فائدة زائدة في مجيئه إليه على هذا المعنى . وكذلك التوسل بالذوات عمر والصحابة معه لم يكونوا ليعدلوا عن ذاته صلى الله عليه وسلم إلى ذات العباس لو كان التوسل بالذوات لا بالدعاء ، وكذا معاوية وأصحابه لم يكونوا ليعدلوا عن ذاته صلى الله عليه وسلم إلى يزيد بن الأسود ، ولم يطلبوا منه الدعاء .
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر إذا وجد أويسا أن يطلب منه الاستغفار ، بل كان يكفيه أن يقول : اللهم بحق . ولم يعرف هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان أنه فعل ذلك التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره من الأنبياء ولا بأحد من أفاضلهم الأولياء بعد موته ، ولو كانوا بالذوات يتوسلون في حال حياتهم لم يكن فرق بين ذلك وبين مماتهم ، وهذا في التوسل بأهل القبور عام عند القبر وغيره . وأما عبادة الله عند القبور كالصلاة عندها والعكوف عليها فهو أشد وأغلظ ; لأنه ذريعة مفضية إلى عبادة المقبور نفسه كما قدمنا عن قوم أويس القرني نوح من استدراج الشيطان لهم ، وكذلك فعل بغالب هذه الأمة والعياذ بالله ، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى على القبور أو إليها ، وغلظ في ذلك ودعا على فاعله باللعنة وشدة الغضب كما سيأتي في الفصل الآتي قريبا إن شاء الله تعالى .
وإن دعا المقبور نفسه فقد أشرك بالله العظيم وجحد
لن يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا فيعفو عنه
إذ كل ذنب موشك الغفران إلا اتخاذ الند للرحمن
وقال تعالى : ( ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره ) ( الحج : 73 ) الآيات . وقال تعالى : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ) ( فاطر : 13 ) .
وقال تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) ( الإسراء : 57 ) الآيات . وغيرها ما لا يحصى ، يخبر الله تعالى أن من دعا مع الله إلها آخر ولو لحظة فقد كفر ، وإن مات على ذلك فلا فلاح له أبدا ، ولو فعل ذلك نبيه لكان من الظالمين وأنه لا كاشف للضر غيره ولا جالب للخير سواه ، وأنه لا أضل ممن يدعو من دونه سواه ، وأن من عبد من دون الله يكون عدوا لعابده يوم القيامة وكافرا بعبادته إياه من دون الله تعالى ، وأنهم كلهم عباد مثل عابديهم مخلوقون مربوبون مملوكون تحت تصرف الله وقهره لا يستجيبون لمن دعاهم ولا يقدرون على استنقاذ ما استلبه الذباب ، فكيف يقدرون على قضاء شيء من [ ص: 525 ] حوائج عابديهم ؟ بل قد أخبرنا الله عز وجل أنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم ولو سمعوا دعاءه ما استجابوا له ، وأخبرنا أن من عبدوهم من الصالحين كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم ، أنهم لا يملكون كشف ضر من دعاهم ولا تحويله من حال إلى حال ، بل هم يبتغون الوسيلة إلى ربهم والقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، فينبغي للعباد الاقتداء بهم في ذلك الابتغاء والرجاء والخوف من الله عز وجل ، لا دعاؤهم دونه ، تعالى الله عما يشركون .
( لا يقبل الله تعالى منه ) أي من ذلك الداعي مع الله غيره المتخذ من دونه أولياء ، ( صرفا ) أي نافلة ( ولا عدلا ) أي ولا فريضة ( فيعفو عنه ) في ذلك ; لأن الكافر عمله لا شيء ، قال الله تعالى : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ( الكهف : 105 ) وقال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) ( الفرقان : 23 ) وقال تعالى : ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) ( إبراهيم : 18 ) وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) ( النور : 39 ) الآيات . وقال تعالى لصفوة خلقه وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام : ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ( الأنعام : 88 ) وقال لسيدهم وخاتمهم وأكرمهم على ربه تعالى : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) ( الزمر : 65 ) .
( إذ ) حرف تعليل ( كل ذنب ) لقي العبد ربه به ( موشك الغفران ) أي يرجى ويؤمل أن يغفر ويعفى عنه ( إلا اتخاذ الند للرحمن ) فإن ذلك لا يغفر ولا يخرج صاحبه من النار ولا يجد ريح الجنة . قال الله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) ( النساء : 48 ) وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) ( النساء : 116 ) [ ص: 526 ] وقال الله تعالى : ( من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ( المائدة : 72 ) وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) ( الحج 31 ) . وقد قدمنا في ذلك من الآيات والأحاديث ما فيه كفاية في الدلالة على ما وراءه ، ولله الحمد والمنة .