الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 522 ] فصل

قالت فرقة : القرآن في المصحف بمنزلة وجود الأعيان في السماوات والأرض والجنة والنار ، ووجوب اسم الرب في ورقة أو صحيفة ، وهذا جهل عظيم ، فإن الفرق بين كون وجود القرآن في الصحف أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، ويكفي المراتب الأربعة التي هم معترفون بصحتها ومحتجون بها ، فالقرآن كلام وجوده في المصحف من باب وجود الكلام في الصحف ، ومعلوم أن وجود الكلام في المصحف هو وجود المرتبة الثالثة في الرابعة : وجود عيني ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود رسمي ، فإذا وجد الكلام في المصحف كان وجود المرتبة الثالثة في الرابعة ، لا بمعنى أن اللفظ الذي هو حروف وأصوات انتقل بنفسه وصار أشكالا مدادية ، بل ذلك أمر معقول مشهود بالحس يعرفه العقلاء قاطبة .

نعم : وجود القرآن في زبر الأولين من باب وجود المرتبة الأولى في الرابعة فمن سوى بين وجود ثم ووجوده في المصحف فهو جاهل أو ملبس ، وليس القرآن بعينه موجودا في زبر الأولين ، وإنما فيها خبره وذكره والشهادة له فيها مذكور مخبر عنه ، وهو في المصحف ذكر وخبر وشاهد وقصص وأمر ونهي ، فأين أحدهما من الآخر ؟ فقوله تعالى : وإنه لفي زبر الأولين وقوله : إن هذا لفي الصحف الأولى ليس مثل قوله : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون وقوله : يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ومن سوى بينهما لومه أن يقول إن هذا القرآن العربي بعينه أنزل على من قبلنا أو أن يقول إن المصحف ليس فيه قرآن ، إنما فيه ذكره والخبر عنه كما هو في الصحف الأولى وكلا الأمرين معلوم البطلان عقلا وشرعا .

وقد انفصلوا عن هذا السؤال بأن قالوا : المكتوب المحفوظ المتلو هو الحكاية أو العبارة المؤلفة المنطوقة بها التي خلقها الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ ، أو في نفس الملك ، فيقال : هذه عندكم ليس كلام الله إلا على المجاز وقد علم بالاضطرار أن هذا الكلام العربي هو القرآن ، وهو كتاب الله وهو كلامه ، قال تعالى : [ ص: 523 ] وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن الآية ، فأخبر أن الذي سمعوه هو نفس القرآن ، وهو الكتاب ، وقال تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له فأخبر أن الذي يسمع هو القرآن بنفسه ، وعندهم أن القرآن يستحيل أن يقرأ لأنه ليس بحروف ولا أصوات ، وإنما هو واحد الذات ليس سورا ولا آيات ، وقال تعالى : وإذا قرأت القرآن ورتل القرآن ترتيلا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله وعندهم أن الذي يسمع ليس كلام الله على الحقيقة وإنما هو مخلوق حكي به كلام الله ( على أحد قوليهم ) وعبارة عبر بها عن كلامه ( على القول الآخر ) وهي مخلوقة على القولين ، فالمقروء والمسموع والمكتوب والمحفوظ ليس هو كلام الله ، وإنما هو عبارة عبر بها عنه كما يعبر عن الذي لا ينطق ولا يتكلم من أخرس أو عاجز ، بل هو عندهم دون ذلك ما يعبر عن حال الشيء ، فيقال : قال كذا وكذا بلسان حاله لما لا يقبل النطق ، فإن الأخرس والعاجز قابل النطق ، فهو أحسن حالا ممن لا يقبله .

فعندهم أن الملك فهم عن الله تعالى معنى مجردا قائما بنفسه ، ثم الملك عبر عن الله فهو الذي أحدث نظم القرآن وألفه ، فيكون إيحاؤه سبحانه إلى الملك مثل الوحي الذي يوحيه إلى الأنبياء ، إذ لا تكلم هناك ، ولا خطاب ، والملك لا يسمع من الله شيئا ولا النبي ، وعلى هذا فيكون ما أوحاه إلى النبي بالإلهام أو منام أشرف من تنزيل القرآن على الرسول على هذا التقدير ، فإن ما أوحاه في الموضعين معنى مجردا ، لكن القرآن بواسطة الملك ووحي إلهام ، والإلهام بغير واسطة ، وما ارتفعت فيه الوسائط فهو أشرف .

ولما أصلت الجهمية هذا الأصل وبنوا عليه وجعلوا تكليم الرب تعالى للرسل والملائكة ، هو مجرد إيحاء المعاني صار خلق من متعبديهم ومتصوفيهم يدعون أنهم يخاطبون وأن الله يكلمهم كما كلم موسى بن عمران ، ويزعمون أن التحديث الذي يكون للأولياء مثل تكليم الله لموسى بن عمران ، إذ ليس هناك غير مجرد الإلهام ، وبعضهم يقول إن الله خاطبني من لسان هذا الآدمي ، وخاطب موسى من الشجرة ، [ ص: 524 ] والآدمي أكمل من الشجرة ، وبعض متأخرين صرح بأن الله خلق تلك المعاني في قلب الرسول ، وخلق العبارة الدالة عليها في لسانه ، فعاد القرآن إلى عبارة مخلوقة دالة على معنى مخلوق في قلب الرسول .

ويعجب هذا القائل من نصب الخلاف بينهم وبين المعتزلة وقال : ما نثبته نحن من المعنى القائم بالنفس فهو من جنس العلم والإرادة ، والمعتزلة لا تنازعنا في ذلك ، غاية ما في الباب أنا نحن نسميه كلاما وهم يسمونه علما وإرادة ، وأما هذا النظم العربي الذي هو حروف وكلمات ، وسور وآيات ، فنحن وهم متفقون على أنه مخلوق ، لكن هم يسمونه قرآنا ، ونحن نقول هو عبارة عن القرآن أو حكاية عنه .

فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم ، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل فالمعتزلة قالوا : هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه ، وهو كلام الله ، وإنه غير مخلوق .

ومن هنا استخف كثير من أتباعهم بالمصحف وجوزوا دوسه بالأرجل ، لأنه بزعمهم ليس فيه إلا الجلد والورق والزاج والعفص ، والحرمة التي ثبتت له دون الحرمة التي ثبتت لديار ليلى وجدرانها بكثير فإن تلك الديار حلت فيها ليلى ونزلت بها ، وهذا الجلد والورق إنما حل فيه المداد والأشكال المصورة الدالة على عبارة كلام الله المخلوقة .

قال أبو الوفا بن عقيل في خطبة كتابه في القرآن : أما بعد ، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها ، وقواعد الدين قد انحط شعارها ، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها ، وكتاب الله عز وجل بين العوام غرض ينتضل ، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل ، وتضرب آياته بآياته جدالا وخصاما ، تنتهك حرمته لغوا وآثاما ، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال ، حين قيل ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق ، وإن سلطت عليه النار احترق ، وأشكال في قرطاس قد لفقت ، إزدراء بحرمته واستهانة بقيمته ، وتطفيفا في حقوقه ، وجحودا لفضيلته حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان ذلك متظلما ، ومن هذه البدعة متوجعا متألما ، أترى ليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وقال إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون [ ص: 525 ] وقال : والطور وكتاب مسطور في رق منشور أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسه المحدثون ، وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار ( لا يمسه إلا المطهرون ) أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا : " لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم " ، أليس الله تعالى يقول في كتابه يايحيى خذ الكتاب بقوة وقال في حق موسى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين ، والازدراء بها عند المتخلفين ، يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم ، ويقولون : تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ، وكتابة ومكتوب ، هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب ؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو ؟ يقولون : القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه ، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم ، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة ، فقد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة يقدمون رجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون ، ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون ، إن قلنا لهم ما مذهبكم في القرآن ؟ قالوا : قديم غير مخلوق ، وإن قلنا فما القرآن أليس هو السور المسورة والآيات المسطرة في الصحف المطهرة ، أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين ، أليس هو المسموع من ألسنة التالين ؟ قالوا : إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته ، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة أخرى .

ثم ساق الكلام في بيان أن القرآن اسم لهذا الكتاب العربي الذي نزل به جبرائيل من رب العالمين على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم وأجراه على لسانه ، وأن الله تعالى تكلم به حقا فسمعه منه جبرائيل ، فأداه إلى رسوله فأداه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية