الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

منشأ النزاع بين الطوائف أن الرب تعالى هل يتكلم بمشيئته أم كلامه بغير مشيئته على قولين ، فقالت طائفة : كلامه بغير مشيئته واختياره ، ثم انقسم هؤلاء أربع فرق ، قالت فرقة : هو فيض فاض منه بواسطة العقل الفعال على نفس شريفة فتكلمت به كما يقول ابن سينا وأتباعه وينسبونه إلى أرسطو .

وفرقة قالت : بل هو معنى قائم بذات الرب تعالى هو به متكلم ، وهو قول الكلابية ومن تبعهم ، وانقسم هؤلاء فريقين ، فرقة قالت : هو معان متعددة في أنفسها أمر ونهي وخبر واستخبار ، ومعنى جامع لهذا الأربعة ، وفرقة قالت : بل هو معنى واحد بالعين لا ينقسم ولا يتبعض .

وفرقة قالت : كلامه هو هذه الحروف والأصوات ، خلقها خارجة عن ذاته ، فصار بها متكلما ، وهذا قول المعتزلة وهو في الأصل قول الجهمية تلقاه عنهم أهل الاعتزال فنسب إليهم .

وفرقة قالت : يتكلم بقدرته ومشيئته كلاما قائما بذاته سبحانه كما يقول به سائر أفعاله لكنه حادث النوع ، وعندهم أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما كما قاله من [ ص: 528 ] لم يصفهم من المتكلمين أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن ، فقول هؤلاء في الفعل المتصل كقول أولئك في الفعل المنفصل ، وهذا قول الكرامية .

وفرقة قالت : يتكلم بمشيئته ، وكلامه سبحانه هو الذي يتكلم به الناس كله حقه وباطله وصدقه وكذبه ، كما يقوله طوائف الاتحادية .

وقال أهل الحديث والسنة : إنه لم يزل سبحانه متكلما إذا شاء ويتكلم بمشيئته ولم تتجدد له هذه الصفة ، بل كونه متكلما بمشيئته هو من لوازم ذاته المقدسة ، وهو بائن عن خلقه بذاته وصفاته وكلامه ، وليس متحدا بهم ولا حالا فيهم .

واختلفت الفرق هل يسمع كلام الله على الحقيقة ؟ فقالت فرقة : لا يسمع كلامه على الحقيقة إنما يسمع حكايته والعبارة عنه ، وهذا قول الكلابية ومن تبعهم ، وقالت بقية الطوائف بل يسمع كلامه حقيقة ، ثم اختلفوا فقالت فرقة : يسمعه كل أحد من الله ، وهذا قول الاتحادية ، وقالت فرقة : بل لا يسمع إلا من غيره ، وعندهم يسمع كلام الله منه ، فهذا قول الجهمية والمعتزلة .

وقال أهل السنة والحديث يسمع كلامه سبحانه منه تارة بلا واسطة كما سمعه موسى وجبرائيل وغيره ، وكما يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم أهل الجنة ، ويكلم الأنبياء في الموقف ، ويسمع من المبلغ عنه كما سمع الأنبياء الوحي من جبرائيل تبليغا عنه ، وكما سمع الصحابة القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله ، فسمعوا كلام الله بواسطة المبلغ ، وكذلك نسمع نحن بواسطة التالي .

فإذا قيل : المسموع مخلوق أو غير مخلوق ؟ قيل إن أردت المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق ، وإن أردت المسموع من المبلغ ففيه تفصيل ، فإن سألت عن الصوت الذي روي به كلام الله فهو مخلوق ، وإن سألت عن الكلام المؤدى بالصوت فهو غير مخلوق ، والذين قالوا : إن الله يتكلم بصوت أربع فرق :

فرقة قالت : يتكلم بصوت مخلوق منفصل عنه ، وهم المعتزلة .

وفرقة قالت : يتكلم بصوت قديم لم يزل ولا يزال ، وهم السالمية والاقترانية .

وفرقة قالت : يتكلم بصوت قديم حادث في ذاته بعد أن لم يكن ، وهم الكرامية .

[ ص: 529 ] وقال أهل السنة والحديث : لم يزل الله متكلما بصوته إذا شاء .

والذين قالوا : لا يتكلم بصوت فرقتان : أصحاب الفيض ، والقائلون إن الكلام معنى قائم بالنفس .

واختلفت الطوائف في مسمى الكلام ، فقالت طائفة : هو حقيقة في المعنى ، مجاز في اللفظ ، وهذا قول الأشعري ، وقالت طائفة : هو حقيقة في الألفاظ ، مجاز في المعنى ، وهذا قول المعتزلة ، وقالت طائفة : بل هو حقيقة في اللفظ والمعنى ، فإطلاقه على اللفظ وحده حقيقة ، وعلى المعنى وحده حقيقة ، وهذا قول أبي المعالي الجويني وغيره .

وقالت طائفة : بل الكلام حقيقة في الأمرين على سبيل الجمع ، فكل منهما جزء مسماه فدلالته عليهما بطريق المطابقة ، ودلالته على كل واحد منهما بمفرده بطريق التضمن ، وهذا قول أكثر العقلاء ، فإنما استحق الاسم للفظه ومعناه ، كما أن الإنسان إنما استحق اسم الإنسان لجسمه ونفسه ، فمجموعهما هو الإنسان .

وقالت طائفة : بل هو حقيقة في النفس ، مجاز في البدن ، وعكس ذلك طائفة ، وقالت طائفة : يطلق على كل منهما إنه إنسان بطريق الاشتراك .

والتحقيق أنه اسم لهذه الذات المركبة من النفس والبدن ، فهذا اختلافهم في الناطق ونطقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية