فصل
فأما : فاتبع أهل الحديث ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها ، مع عدم العذر ، وسقوطها بالعذر ، وتقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " صلاة الجماعة ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في [ ص: 116 ] السنة سواء فأقدمهم هجرة يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " ، ففرق بين العلم بالكتاب والعلم بالسنة ، كما دل عليه الحديث ، وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع وفعلها على السنة ، وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه ، فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما قدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامهم ، وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك وغيره .
وقد يقول بعض العلماء : هي سنة مؤكدة ، وقد يقول آخرون : هي فرض على الكفاية ، ولهم في تقديم الأئمة خلاف .
ويأمر بإقامة الصفوف فيها كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من سننها الخمس ، وهي : تقويم الصفوف ورصها وتقاربها وسد الأول فالأول وتوسيط الإمام ، حتى ينهى عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ، ويأمره بالإعادة كما أمره بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين ثابتين عنه أمر فيهما المنفرد خلف الصف بالإعادة ، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة ، وكما أمر المسيء في وضوئه [ ص: 117 ] الذي ترك فيه موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء ، بالإعادة . صلاة المنفرد خلف الصف
فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة والإتيان بأركانها . والاصطفاف في الصلاة
والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك ، منهم من لم يبلغه الحديث أو لم يثبت عنده ، والشافعي رآه معارضا بكون الإمام يصلي وحده وبكون والشافعي مليكة جدة أنس صلت خلفهم ، وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف .
وأما أحمد فأصله في : أنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يضرب أحدهما بالآخر ، فيقول في مثل هذه الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين ، وأما إذا كانت مع الرجال لم تصل إلا خلفهم وإن كانت وحدها ؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال ، فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم ، كما أنها إذا صلت بالنساء صلت بينهن ؛ لأنه أستر لها ، كما المرأة : إذا كانت مع النساء صلت بينهن ، وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أم أن يتقدم بين يدي الصف . يصلي إمام العراة بينهم
ونقول : إن ، نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة ، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا انفرادا ، فهذا قياس قول الإمام لا يشبه المأموم ؛ فإن سنته التقدم لا المصافة ، وسنة المؤتمين الاصطفاف أحمد وغيره ؛ ولأن [ ص: 118 ] واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار ، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها ، فسقط بالعجز في الجماعة كما يسقط غيره فيها وفي سنن الصلاة ؛ ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما - مع استدبار القبلة والعمل الكثير ومفارقة الإمام ، ومع ترك المريض القيام - أولى من أن يصلوا وحدانا ؛ ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز كحال الزحام ونحوه ، وإن كان لا يجوز لغير حاجة ، وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف ؛ ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من عدل الإمام وحل البقعة ونحو ذلك للحاجة، فجوزوا - بل أوجبوا - فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين وفي الأمكنة المغصوبة ، إذا أفضى ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة ، أو إلى فتنة في الأمة ونحو ذلك ، كما جاء في حديث تقديم المؤتم على إمامه عند الحاجة جابر رضي الله عنه : " " لأن غاية ذلك أن يكون عدل الإمام واجبا ، فيسقط بالعذر كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر . لا يؤمن فاجر مؤمنا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه
ومن اهتدى لهذا الأصل - وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر ، وكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها - فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسا ، كما قد يبتلى به بعضهم ، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه ، وإن كان ذلك الأوكد مقدورا عليه ، كما قد [ ص: 119 ] يبتلى به آخرون ، فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين .
وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل [ إلا ما تسع القدرة ] .