قوله تعالى : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير وجه النظم ، فنقول فيه وجهان :
الأول : أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لو كان لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين ، لا جرم ما أظهرها . وهذا الجواب إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبين أن الأمر كذلك ، وقرره بأن قال : ( إنزال سائر المعجزات مصلحة وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) في وصول فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم ، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات ؛ فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ، ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها ، وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات ، لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين . فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم .
الوجه الثاني في كيفية النظم : قال القاضي : إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضا بعده بقوله : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) في أنهم [ ص: 175 ] يحشرون ، والمقصود : بيان أن . الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضا حاصل في حق البهائم
المسألة الثانية : الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات ، فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين ، إما أن يدب ، وإما أن يطير . وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر ، وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه .
والجواب : لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير ، لأنها تسبح في الماء ، كما أن الطير يسبح في الهواء ، إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران .
السؤال الثاني : ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر ؛ لأن ما في السماء وإن كان مخلوقا مثلنا فغير ظاهر .
والثاني : أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها . وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالا منه ، فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض .
السؤال الثالث : يطير بجناحيه ) مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه ؟ ما الفائدة في قوله : (
والجواب فيه من وجوه :
الأول : أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى ، وكما يقال : كلمته بفي ومشيت إليه برجلي .
الثاني : أنه قد يقول الرجل لعبده طر في حاجتي . والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير : فقد يحصل الطيران لا بالجناح . قال الحماسي :
طاروا إليه زرافات ووحدانا
فذكر الجناح ليمتحض هذا الكلام في الطير .
والثالث : أنه تعالى قال في صفة الملائكة : ( جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) [ فاطر : 1 ] فذكر ههنا قوله : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالا من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالا منه .
السؤال الرابع : كيف قال : ( إلا أمم ) مع إفراد الدابة والطائر ؟
والجواب : لما كان قوله : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر ) دالا على معنى الاستغراق ومغنيا عن أن يقول : وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله : ( إلا أمم ) على المعنى .
السؤال الخامس : قوله : ( إلا أمم أمثالكم ) قال الفراء : يقال إن وجاء في الحديث : كل صنف من البهائم أمة فجعل الكلاب أمة . لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها
إذا ثبت هذا فنقول : الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا ، وليس فيها ما يدل على أن هذه [ ص: 176 ] المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال : المراد حصول المماثلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالا لنا في الصورة والخلقة ، وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك .
والجواب : اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالا :
القول الأول : نقل الواحدي عن رضي الله عنهما أنه قال : يريد ، يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني . وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا : إن هذه ابن عباس واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] وبقوله في صفة الحيوانات ( كل قد علم صلاته وتسبيحه ) [ النور : 41 ] وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد ، وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات .
وعن أنه قال : أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء : معرفة الإله ، وطلب الرزق ، ومعرفة الذكر والأنثى ، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه . أبي الدرداء
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول : يا رب إن هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض
والقول الثاني : المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمما وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضا ، ويأنس بعضها ببعض ، ويتوالد بعضها من بعض كالإنس ، إلا أن للسائل أن يقول : حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة ؛ لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الإخبار عنها .
القول الثالث : المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها ، وهذا يقرب من القول الثاني : في أنه يجري مجرى الإخبار عما علم حصوله بالضرورة .
القول الرابع : المراد أنه تعالى كما أحصى في الكتاب كل ما يتعلق بأحوال البشر ، من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة فكذلك أحصى في الكتاب جميع هذه الأحوال في كل الحيوانات . قالوا : والدليل عليه قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وليس لذكر هذا الكلام عقيب قوله : ( إلا أمم أمثالكم ) فائدة إلا ما ذكرنا .
القول الخامس : أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . يقتص للجماء من القرناء
القول السادس : ما اخترناه في نظم الآية ، وهو أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة ، فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان . ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى ، فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها ، وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم . [ ص: 177 ] القول السابع : ما رواه عن أبو سليمان الخطابي ، أنه لما قرأ هذه الآية قال : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم ، فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس ، ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه . فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها ، فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ، ولم يجلس مجلسا إلا رواه عنه . سفيان بن عيينة
ثم قال : فاعلم يا أخي أنك إنما تعاشر البهائم والسباع ، فبالغ في الحذار والاحتراز ، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع .
المسألة الثالثة : ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة وبالأخلاق الطاهرة ، فإنها بعد موتها تنقل إلى أبدان الملوك ، وربما قالوا : إنها تنقل إلى مخالطة عالم الملائكة ، وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات ، وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقا للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعبا ، واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا : صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا ، ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة ، فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة . ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه ، وقالوا : قد ثبت بهذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة ، وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولا من جنسها ، واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطيور أمم ، ثم إنه تعالى قال : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) [ فاطر : 24 ] وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولا أرسله الله إليها . ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد ، وقصة النمل ، وسائر القصص المذكورة في القرآن .
واعلم أن القول بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول ، وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمور المذكورة ، فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ . والله أعلم .