ثم قال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) وفي المراد بالكتاب قولان :
القول الأول : المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام ، كما قال عليه السلام : جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة .
والقول الثاني : أن المراد منه القرآن ، وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن ، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن .
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول : كيف قال تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم ، وليس فيه أيضا تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ؟ [ ص: 178 ] والجواب : أن قوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ، والإحاطة بها وبيانه من وجهين :
الأول : أن لفظ التفريط لا يستعمل نفيا وإثباتا إلا فيما يجب أن يبين لأن أحدا لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه ، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه .
الثاني : أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله ، وإذا كان هذا التقييد معلوما من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولا على ذلك المقيد .
أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع .
فنقول : أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه ؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه . فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل ، فلا حاجة إليها ، وأما تفاصيل علم الفروع فنقول : للعلماء ههنا قولان :
الأول : أنهم قالوا إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة ، فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن ، وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة :
المثال الأول : روي أن ابن مسعود كان يقول : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه ، يعني الواشمة ، والمستوشمة ، والواصلة ، والمستوصلة ، وروي ابن أم عبد ، تلوت البارحة ما بين الدفتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة ، فقال : لو تلوتيه لوجدتيه ، قال الله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) [ الحشر : 7 ] وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال : لعن الله الواشمة والمستوشمة وأقول : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء : ( أن أمرأة قرأت جميع القرآن ، ثم أتته فقالت : يا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله ) [ النساء : 117 ، 118 ] فحكم عليه باللعن ، ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) [ النساء : 119 ] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن .
المثال الثاني : ذكر أن رحمه الله كان جالسا في الشافعي المسجد الحرام فقال : " لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى " فقال رجل : ما تقول في ؟ فقال : " لا شيء عليه " فقال : أين هذا في كتاب الله ؟ فقال : قال الله تعالى : ( المحرم إذا قتل الزنبور وما آتاكم الرسول فخذوه ) ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثم ذكر إسنادا إلى عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عمر رضي الله عنه أنه قال : للمحرم قتل الزنبور . قال الواحدي : فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات ، وأقول : ههنا طريق آخر أقرب منه ، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة ، قال تعالى : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) [ البقرة : 286 ] وقال : ( ولا يسألكم أموالكم ) [ محمد : 36 ] وقال : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء : 29 ] فنهى عن إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة ، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء ، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة . أكل أموال الناس
وأما الطريق الذي ذكره : فهو تمسك بالعموم على أربع درجات : أولها : التمسك بعموم قوله [ ص: 179 ] ( الشافعي وما آتاكم الرسول فخذوه ) [ الحشر : 7 ] .
وأحد الأمور الداخلة تحت هذا : أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين .
وثانيها : التمسك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام : . عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي
وثالثها : بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين .
ورابعها : الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئا ، فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب .
المثال الثالث : قال الواحدي : . قال روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إن اعترفت الواحدي : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب ، وهذا يدل على أن . كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله
وأقول : هذا المثال حق ، لأنه تعالى قال : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلا تحت هذه الآية ، فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة ، وأن خبر الواحد حجة ، وأن القياس حجة ، فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة ، كان في الحقيقة ثابتا بالقرآن ، فعند هذا يصح قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) هذا تقرير هذا القول ، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء . ولقائل أن يقول : حاصل هذا الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة ، فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول : حمل قوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة في مدحه والثناء عليه ، ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم ، وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال : اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس ، كان المعنى الذي ذكروه حاصلا من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجبا لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه ، لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصارا منه ، فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن ، فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن ، وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن ، فوجب أن يقال ، إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول .
والقول الثاني : في تفسير هذه الآية قول من يقول : ، وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف ، وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع ، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية ، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلا لله تعالى ألف تكليف على العباد ، وذكره في القرآن وأمر القرآن واف ببيان جميع الأحكام محمدا عليه السلام بتبليغ ذلك الألف إلى العباد ، ثم قال بعده ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) فكان معناه أنه ليس لله على الخلق بعد ذلك الألف تكليف آخر ، ثم أكد هذه الآية بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) [ المائدة : 3 ] وبقوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام : 59 ] فهذا تقرير مذهب هؤلاء ، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه ، والله أعلم . [ ص: 180 ] ولنرجع الآن إلى التفسير ، فنقول : قوله : ( من شيء ) قال الواحدي " من " زائدة كقوله : ما جاء لي من أحد . وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئا لم نبينه . وأقول : كلمة " من " للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه ، وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئا مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب .