المسألة الرابعة : اعلم أن مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة ، يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه . حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقا لتغذية الصبي
الأول : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثقل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقا كليا لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ، لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ ، وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح ، فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى بحسب الحاجة وتقدير المنفعة ، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم .
الثاني : أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ، ولا تجذب الأجزاء اللطيفة البتة . ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ، ولفسد نظام هذا التركيب .
الثالث : أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة ، حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دما ، ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن . وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم .
الرابع : أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي ، بل ينصب على مجموع بدن المتغذي ، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصبابا موافقا للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم .
والخامس : أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوبا صغيرة ومسام ضيقة ، وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة ، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدا ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة ، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل ، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة ، والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفا خرج ، وكل ما كان كثيفا احتبس في الداخل ولم يخرج ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصا موافقا لبدن الصبي سائغا للشاربين .
السادس : أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص ، فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص ، فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي .
السابع : أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم ، وإنما خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء ، ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم ، ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن [ ص: 55 ] يكون حارا رطبا ، وما فيه من المائية يكون باردا رطبا ، وما فيه من الجبنية يكون باردا يابسا ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة ، فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ، مع أنه لا يناسب بعضها بعضا ولا يشاكل بعضها بعضا ، وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد ، فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .
أما قوله : ( سائغا للشاربين ) فمعناه : جاريا في حلوقهم لذيذا هنيئا . يقال : ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه ، ومنه قوله : ( ولا يكاد يسيغه ) [ إبراهيم : 17 ] .