المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم ، ، فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى : ( فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم ولا تقف ما ليس لك به علم ) .
أجيب عنه من وجوه :
الأول : أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة :
[ ص: 167 ] أحدها : أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز .
وثانيها : العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز .
وثالثها : لا يفيد إلا الظن وأنه جائز . الاجتهاد في طلب القبلة
ورابعها : قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز .
وخامسها : الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز .
وسادسها : كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم ، وبناء الحكم عليه جائز .
وسابعها : قال تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) [ النساء : 35 ] وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم .
وثامنها : الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمنا مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاما كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما .
وتاسعها : جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار ، وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة ، وبناء الأمر على تلك الظنون جائز .
وعاشرها : قال عليه السلام : " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول : إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن .
والجواب الثاني : أن الظن قد يسمى بالعلم . والدليل عليه قوله تعالى : ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) [ الممتحنة : 10 ] ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على إقرارهن ، وذلك لا يفيد إلا الظن ، فههنا الله تعالى سمى الظن علما .
والجواب الثالث : أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس ، وكان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص ، فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن ، فههنا الظن وقع في طريق الحكم ، فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن .
أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا : قوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة ، فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة ، ثم نقول : الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة ، فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين ، وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور . والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له ، وذلك متعذر ، فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن . أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة ، والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم .
إذا عرفت هذا فنقول : التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن ، أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق .
وأما الجواب الثاني : وهو قولهم الظن قد يسمى علما فنقول : هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم ، وهذا معلوم وغير مظنون ، وذلك يدل على حصول المغايرة ، ثم الذي يدل عليه قوله تعالى : [ ص: 168 ] ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن ) [ الأنعام : 148 ] نفي العلم ، وإثبات للظن ، وذلك يدل على حصول المغايرة ، وأما قوله تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات ) [ الممتحنة : 10 ] فالمؤمن هو المقر ، وذلك الإقرار هو العلم .
وأما الجواب الثالث : فهو أيضا ضعيف ، لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية ، والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلا أن يكون حجة ، والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول : نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمرا عقليا محضا لامتنع ذلك . والثاني أيضا باطل ، لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعيا لو كان منقولا نقلا متواترا وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف ، وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه المسألة دليل سمعي قاطع ، فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع البتة ، فبطل قولكم : كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون ، فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل . وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص ، والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن ، فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز ، فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضا فسقط الاستدلال به ، والله أعلم . وللمجيب أن يجيب فيقول : نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر ، والله أعلم .