مدخل تمهيدي
التنمية بين الجهد الفردي والجهد العام
تباينت المواقف حول المسئول عن تحقيق التنمية الاقتصادية في البلاد المتخلفة، ما بين مؤكد على الجهد الفردي، ومؤكد على الجهد العام، فرأينا من يقول: إن التنمية الاقتصادية في هـذا العصر، لا يمكن تحقيقها، ما لم تقم بها الدولة، ورأينا من يناقض هـذه المقولة، ويرى أن الجهد الفردي، هـو الأقدر على تحقيق التنمية، وأن دور الدولة لا يمكن أن يكون بديلا عن جهود الأفراد، وأن النظام الاقتصادي مركزي التوجيه، لا يمكن أن يحقق الرخاء على المدى الطويل.
ولم تكن هـذه المواقف وليدة فكر مستقل، أجهد نفسه، كي يصل إلى أفضل ما يحقق مصالح المجتمعات المتخلفة، بقدر ما كان انعكاسا لأفكار مصدرة إلينا من الشرق والغرب. فالذين استهوتهم التجربة الروسية في التنمية ، ورأوها الصورة المثلى لتجارب النمو الاقتصادي في القرن العشرين، قطعوا بأن التنمية في بلادنا لا يمكن أن تتم بغير الطريق الذي سلكته التجربة الروسية، والذي يؤكد على دور الدولة، ويلغي دور الفرد إلا باعتباره عاملا من عوامل الإنتاج. وفي نفس الوقت كان الذين قد استلبتهم الحضارة الغربية، وتجربتها البراقة مع النمو الاقتصادي الذي قام على أكتاف الفرد، قد قطعوا بأن التنمية، إنما تتحقق بالجهد الفردي، والمبادرة الفردية، في ظل الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق. ومن ثم نادى هـؤلاء بتحويل القطاع العام الذي انتشر [ ص: 29 ]
في البلاد المتخلفة بصورة ملحوظة، إلى ملكية القطاع الخاص ، وأن تعود الدولة سيرتها الأولى، حارسة لجهود التقدم الفردية، مانعة الأفراد من بغي بعضهم على بعض.
ولقد علا صوت الفريق الأول فترة من الزمن، كانت خلالها الاشتراكية تناطح الرأسمالية ، وتجد في سبيل تحقيق التفوق عليها، كما أعلن بعض سدنتها، ثم خفت هـذا الصوت، ليعلو صوت الفريق الثاني، عندما ظهر أن الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية ، كاد يحسم لصالح الأولى، وأن القوى الاشتراكية العالمية، وبخاصة في الاتحاد السوفييتي ومن كان يدور في فلكه من دول شرق القارة الأوروبية ، تجد السير في نقل اقتصادها، من اقتصاد يقوم على التخطيط المركزي، وتلعب الدولة فيه كل الأدوار، إلى اقتصاد تتحكم فيه، وتحكمه قوى السوق، بما يترتب على ذلك من إعلاء لشأن الجهد الفردي، وتقليص لدور الدولة، بل شاهدنا إحدى أهم الدول الاشتراكية الأوروبية - ألمانيا الشرقية - تختصر هـذا الطريق، وتقفز مرة واحدة إلى أحضان أهم الدول الرأسمالية الأوروبية - ألمانيا الاتحادية - لتذوب فيها، وتصبح جزءا لا يتجزأ من العالم الرأسمالي.
هذا التقلب في الموقف، حسب اتجاه الرياح القادمة إلينا، يوضح بجلاء غيبة الفكر المستقل، المبني على المعرفة بالواقع، الذي تعيشه مجتمعاتنا، وعلى تحليل العوامل المؤثرة فيه، وتحديد الظروف المحيطة به، من أجل الوصول إلى التصور الصحيح للخروج ببلادنا من وهدة التخلف إلى ربى التقدم. كما يوضح أيضا أن بعض الفرقاء كان ينعق بما لا يسمع، ويهرف بما لا يعرف، ويدعو إلى ما يجهل، [ ص: 30 ]
عندما يطالب بنقل التجربة الروسية، ثم يتضح أن الأداء الاشتراكي بها لم يكن بالمستوى الذي أعلن الداعون إليه، المطالبون بالسير على نهجه في تحقيق التنمية ، كما يكشف أيضا أن الفريق الآخر يغفل عن اختلاف الظروف المحيطة بالبلاد المتخلفة، عن الظروف التي أحاطت بالتجربة الرأسمالية ، يوم أن قامت على أكتاف الأفراد، ووجدت فسحة من الزمن ممتدة، تمكنت فيها الجهود الفردية المتراكمة من تحقيق التقدم الحضاري.
وعليه فإن اختلاف الظروف، والبيئات، والثقافات، والإمكانيات، لما يجب أخذه في الحسبان، عند اختيار أنموذج إنمائي، يتحدد فيه إسهام كل من الفرد والدولة في جهود التنمية الاقتصادية.
وعندما نأخذ كل ذلك في الحسبان - في بلادنا الإسلامية - فإننا نجد أنفسنا وجها لوجه أمام حالة، يجب أن يستشار فيها الفكر الإسلامي، وأن يعمل بمشورته. ذلك أن الاختلافات بيننا، وبين المجتمعات الغربية (رأسمالية أو شيوعية) ، إنما ترجع في المقام الأول إلى تشرفنا بالانتماء إلى هـذا الدين القويم، الذي يهدي كتابه الكريم للتي هـي أقوم، والتي تصطبغ مجتمعاتنا بصبغته، وتكون مبادئه وقيمه لحمة وسدى الثقافة التي تظللنا، وهو الذي تأرز مجتمعاتنا إليه، وتلوذ به، عندما تنتابها الصعاب وتنوشها الأحداث.
ومن هـنا، فإن أنموذج التنمية الذي يصلح لهذه المجتمعات، يجب أن يشتق من الإسلام والثقافة الإسلامية. فإذا ذهبنا نستفتي الإسلام في هـذه القضية، وهل تستند جهود التنمية إلى الجهد الفردي، أم إلى جهد الدولة؟ فإننا سنجد الموقف الإسلامي، يختلف عن كل المواقف، [ ص: 31 ] التي تملأ الساحة، سنجد منهج الإسلام في هـذا الخصوص، يعطي الفرد دورا، وينيط بالدولة دورا، بحيث لا يفتات أحد الدورين على الآخر، وإنما يعضده ولا يضعفه، ويتكامل معه ولا ينافسه. ويقوم هـذا المنهج على توزيع الواجبات بين الطرفين، فعلى الفرد واجبات معينة، وعلى الدولة واجبات أخر.. على الفرد أن يقوم بكل ما تمكنه إمكانياته من القيام به، فإذا استنفد قدرته، ولما نصل إلى ما نصبو إليه كمجتمع، فعلى الجهد العام أن يكمل الدور ويقوم بالعبء.
وبهذا الخصوص يجعل الإسلام كل مجالات الإنتاج، وشتى ميادين الأعمال المطلوبة للنهوض بالمجتمع، وتحقيق مصالحه، يجعلها فروض كفاية ، على كل قادر عليها أن يقوم بها [1] ، ويقع التكليف بهذه الفروض على الأفراد المخاطبين بها، حتى إذا نهض كل فرد بما يمكنه النهوض به، واستنفد كل قدرته، ولم تتحقق مصالح المجتمع، انتقل التكليف بها إلى عاتق الجماعة ككل، ممثلة في ولي أمرها، القائم على مصالحها (الدولة) ، والذي عليه في هـذه الحالة، أن يقيم من يقوم بفروض الكفاية ، التي عجز الأفراد عن القيام بها.
ويتضح هـذا الموقف بجلاء في الفكر الأصولي، حيث يرى جمهور الأصوليين: أن الخطاب بفروض الكفاية موجه للجميع، كما تفيده ظواهر النصوص، ويؤيد هـذا الرأي اتفاق الأصوليين على أن الجميع يأثمون بالترك، ولا إثم إلا عند توجه الخطاب. [ ص: 32 ]
ويرى بعض الأصوليين: أن الخطاب موجه للمجموع [2] ، لا لكل فرد. وليس هـناك اختلاف واسع بين رأي الجمهور وهذا الرأي، إذ وفق القرافي بينهما: بأن الخطاب يتعلق بالجميع أول الأمر، والمقصود بالطلب إحدى الطوائف.. ووفق بينهما الشاطبي بصورة أفضل فقال: إنه (أي فرض الكفاية ) واجب على الجميع على وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطالبون بسدها على الجملة، فبعضهم قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها، فهم قادرون على إقامة القادرين [3] وعليه فإن الأفراد في الجملة مكلفون بالقيام بكل ما تحتاجه الجماعة مما يحقق مصالحها. فتحقيق التنمية الاقتصادية، مما يجب على كل فرد أن يسهم فيه، إما بالقيام بما يقوى عليه منها، وإما بالتعاون مع غيره في إقامة من يقوم بها. ويدخل في الشق الثاني دور الدولة، فهي من المؤسسات التي يجب على الأفراد أن يتعاونوا في إقامتها، كي تنوب عنهم في إقامة من يقوم بفروض الكفاية التي يعجز الفرد عن القيام بها.
ويتبين من ذلك أن دور الدولة، في تحقيق التنمية الاقتصادية - من وجهة النظر الإسلامية - هـو دور تال لدور الأفراد، وأنها تقوم بما يفضل بعد جهودهم، بل إن قيامها بذلك قيام للأفراد به، فهي نائبة عنهم في ذلك إذا التكليف عليهم، يؤدونه فرادى إن استطاعوا، ويؤدونه متعاونين [ ص: 33 ]
إن عجزت جهودهم الفردية. وإحدى صور تعاونهم تكليفهم للدولة بدور معين في تحقيق التنمية. ولقد صور الشاطبي - رحمه الله تعالى - دور كل فرد في الوفاء بفروض الكفاية فقال: مواهب الناس مختلفة، وقدراتهم في الأمور متباينة ومتفاوتة، فهذا قد تهيأ للعلم، وهذا للإدارة والرئاسة، وذلك للصناعة أو الزراعة، وهذا للصراع. والواجب أن يربي كل امرئ على ما تهيأ له، حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه، ومال إليه.. وبذلك يتربى لكل فعل - هـو فرض كفاية - قوم، لأنه سير أولا في طريق مشترك، فحيث وقف السائر، وعجز عن السير، فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة، وإن كانت به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات الكفائية، وبذلك تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخرة.. ويوزع أهل الإسلام بمثل هـذا التوزيع [4] فالممارسة العملية لفروض الكفاية، تتمثل وفق تصوير الشاطبي، في أن تعد طائفة لكل ميدان من الميادين، تكون له مؤهلة، وله مستعدة، حتى تبرز فيه، وتجيد أداءه.. ولعل أهم ما تسهم به الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية هـو إعداد هـذه الطوائف، وتسليحها بالقدرات والإمكانيات اللازمة لها، حتى تنطلق في ميدان الحياة الرحب، تعبد الله تعالى بالقيام بفروض الكفاية المختلفة. وبذلك يوجد من أبناء الأمة، من هـو معد لأداء كل فرض من فروض الكفاية ، يسد فيه مسد الأمة كلها، ويرفع عنها الإثم الذي يقع على كل فرد فيها، إن قصرت في إيجاد هـذا القادر. وبهذا تتوزع فروض الكفاية على أهل الإسلام من جهة، [ ص: 34 ]
وتتوزع جهود التنمية الاقتصادية بين الأفراد والدولة من جهة ثانية. الدولة تشرف على الإعداد والتدريب وتمارس الحفز والتشجيع، والأفراد يتولون الممارسة والتنفيذ، وإن عزفوا عن نشاط ما، تولته الدولة نيابة عنهم، وبهذا يتحقق القيام بفروض الكفاية ، وتتساند الجهود فردية وعامة.
إن ولي الأمر (الدولة) ، أحد من يتوجه إليهم الخطاب بفروض الكفاية، إذ الخطاب كما قلنا للجميع، وهو يملك أن يسير في فروض الكفاية إلى مدى أوسع مما يسيره غيره من الأفراد، بحكم ما وضع تحت يده من إمكانيات في شكل ملكية عامة ، يديرها بما يحقق الصالح العام، أو في شكل موارد مالية، أقرت الشريعة تحصيل الدولة لها من الأفراد، من زكوات وخراج وضرائب ، تقوم الدولة بفرضها على الأغنياء من المواطنين إذا لم تتحقق بالموارد السابقة مصالح المسلمين. وبهذه الإمكانيات يتمكن ولي الأمر (الدولة) من السير على الطريق المشترك الذي أشار إليه الشاطبي ، أشواطا تكمل ما قطعته منه خطى الأفراد، وتضيف إليها، فهي ليست بديلة عنها. أي أن ما يملك الأفراد القيام به، يجب أن يترك لهم، يتسابقون فيما بينهم في الترقي في طلبه، حتى إذا بلغ كل فرد غاية شوطه، تسلمت الدولة، راية المسير، واستكملت قطع بقية الطريق، وصولا إلى الغاية المنشودة، وهي الوفاء بكل فروض الكفاية الدينية والدنيوية، فلا يبقى نشاط مطلوب إلا وقد قام به فرد من الأفراد، أو جماعة من الجماعات، أو قامت به الدولة.
وهكذا يعطي الإسلام الأفراد الدور القيادي في تحقيق التنمية الاقتصادية، ولا يصادر دور الدولة، وإنما يضعه في موضعه الصحيح. [ ص: 35 ]
ومن هـذا المنطلق، يأتي تكليف الإسلام كل فرد من أفراد الأمة، أن ينفق " العفو " ، ويسخر الفضل من إمكانياته في الوفاء بفروض الكفاية التي يمكنه الوفاء بها، وأن يتعاون مع غيره من أصحاب " الفضل " ومالكي " العفو " في الوفاء بفروض الكفاية التي يعجز بمفرده عن الوفاء بها، سواء أكان هـذا الغير فردا مثله أم كانت الدولة.
ومن هـنا تظهر أهمية وقوفنا على مضمون " العفو " من الإمكانيات والطاقات، والذي يجب على الفرد أن يستخدمه في الوفاء بفرض ما من فروض الكفاية، أو الإسهام في الوفاء به، أو الدعوة إلى الإسهام في الوفاء به. كما تظهر أهمية الوقوف على دور الدولة في توجيه هـذا " العفو " ، وتيسير استخدامه في الوفاء بفروض الكفاية، إلى جانب ما يمكن أن تسهم به التنظيمات الأخرى في توجيه " العفو " .
ويحاول بحثنا هـذا أن يقوم بهذه المهمة، فيتناول بيان مدى حاجتنا إلى الاعتماد على الموارد المحلية، في تمويل التنمية ، ثم يحدد مفهوم " العفو " ، ومفهوم إنفاقه، ثم يتتبع مكامن " العفو " ، وأين يوجد؟ ثم يحدد أثر التكليف بإنفاق " العفو " على تعبئة الموارد المحلية، ثم أخيرا يناقش توجيه " العفو " سواء من قبل الدولة، أم من قبل غيرها من التنظيمات. والله ولي التوفيق. [ ص: 36 ]