الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق

الدكتور / يوسف إبراهيم يوسف

ثانيا : البنوك الإسلامية وتوجيه العفو

انتهينا في المطلب الخامس [1] إلى أن الإسلام لا يسمح بحجب المال النقدي عن الحقوق التي قررها الله تعالى فيه، والتي منها استخدامه في بناء الاستثمارات، والوفاء بشتى فروض الكفاية التي تتطلبها مصلحة المجتمع. أي أن الإسلام لا يقبل اكتناز المال، وإنما يوجب استثماره واستخدامه في تنمية المجتمع.

وكثيرا ما يتضح التكليف أمام الشخص، وتعجزه الوسيلة إلى الوفاء به، فقد يوجد الفائض عند المسلم، وتوجد لديه الرغبة في استثماره بما يعود بالنفع عليه وعلى مجتمعه، لكنه لا يهتدي إلى الطريق الذي يحقق هـذه الرغبة. ومن هـنا تظهر أهمية وجود مؤسسات التمويل، التي تقوم [ ص: 110 ] بنقل " العفو " من الشخص الذي يملكه، ولا يهتدي إلى طرق الاستثمار، إلى شخص يهتدي إلى هـذه الطرق، ولا يملك رأس المال، ويتحقق بذلك الجمع بين العمل ورأس المال، بما يحقق مصلحة العامل، ومصلحة صاحب المال ومصلحة المجتمع.

وتنتصب البنوك التقليدية لتأدية هـذا الدور، بطريقتها التي تقوم على التوسط، بين صاحب الفائض، ومن هـو في حاجة إليه، مستخدمة سعر الفائدة ثمنا تدفعه لما تحصل عليه من فوائض، وتستقضيه مقابل ما تقدمه من قروض، بيد أن معظم المسلمين - إن لم يكن جميعهم - يجد حرجا من اللجوء إلى هـذه البنوك، وبخاصة أولئك الذين ينطلقون في تقديم الفائض الذي لديهم، من منطلق القيام بتكليف الله تعالى لهم بإنفاق " العفو " ، فليس من المنطقي أن يكون دافعه إلى تقديم " العفو " هـو الاستجابة لأمر الله تعالى، ثم يرتكب كبيرة أكل الربا، وهو بصدد استخدام هـذا " العفو " ، ومن هـنا تظهر أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه مؤسسات التمويل، التي تستخدم في تعبئة الفائض وتوظيفه، أدوات تتفق والشريعة الإسلامية، ومن أهم هـذه المؤسسات وأولها: " المصارف الإسلامية " ، تلك الظاهرة التي دخلت حياة المسلمين في السنين الأخيرة، وأقبل عليها المسلمون إقبالا كبيرا، ليس له من مبرر إلا رغبة المسلمين في استثمار أموالهم بغير طريق الربا.

ومن هـذا المنطلق، فإن المصارف الإسلامية مهيأة للقيام بدور بالغ الأهمية في تعبئة " العفو " المالي عند المسلمين، ثم توظيفه بما يحقق التنمية الاقتصادية للمجتمع الإسلامي.. إن البنوك التقليدية تقدم فائدة تربو على ضعف ما تقدمه البنوك الإسلامية من أرباح، فضلا عن ضمان [ ص: 111 ] أصل الوديعة، ومع ذلك يقبل المسلمون على إيداع فائض أموالهم في البنوك الإسلامية، برغم انخفاض معدلات الربح، وعدم ضمان الوديعة الاستثمارية ، فهذا السلوك منهم يدل على قدرة البنوك الإسلامية على جذب " العفو " المالي إليها، بما لها من رصيد إيماني في نفوس المسلمين، قبل أي اعتبار آخر، فإذا نحن نشرنا بين المسلمين فكرة التكليف بإنفاق " العفو " ، وصححنا موقف المسلم من الفائض المالي المتولد لديه، وجاءت المصارف الإسلامية، لتقدم الأوعية المقبولة من المسلمين، لم يبق لتحقيق النفع بهذه الفوائض لأصحابها وللمجتمع، إلا أن تتمكن البنوك الإسلامية من استخدامها بكفاءة في مشروعات التنمية الاقتصادية المختلفة.

وهنا تظهر قضية كفاءة البنوك الإسلامية في أداء عملها كمحدد هـام لنجاح فكرتها، وتحقيق الآمال المعقودة عليها. فإذا استطاعت هـذه البنوك أن تطور من نفسها بصفة مستمرة، وأن ترفع من كفاءتها، وأن تبتكر من أساليب الاستثمار ما يتناسب والمجالات الإنمائية التي ترتادها، فإنها ستتمكن من تحقيق أهدافها، وتتمكن من تحقيق أرباح لأصحاب الودائع الاستثمارية ، تفوق سعر الفائدة الذي تقدمه البنوك التقليدية، ومن ثم تضيف إلى دوافع التعامل معها دافع المصلحة الشخصية. وحتى إن لم تتمكن من تحقيق أرباح تقارب سعر الفائدة، فإن المتعاملين معها يرضيهم نجاحها في تحقيق التنمية الاقتصادية ، التي تعود عليهم بالنفع كأعضاء في المجتمع، وبخاصة أولئك الذين يدفعهم إلى التعامل معها شعورهم بواجب إنفاق " العفو " في سبيل الله ومصالح المجتمع. [ ص: 112 ]

على أن لا ينبغي أن يغيب عنا أن قدرة هـذه البنوك على الوفاء بمهامها، رهن بإيمان المجتمع والدولة بدورها، وتفهم الدولة وأجهزتها لطبيعة عملها، ومن ثم تذليل العقبات التي تعترضها، إلى جانب ارتهان نجاحها بقدرة القائمين عليها، واكتشافهم صيغا جديدة لتوجيه رأس المال إلى التلاقي مع جهد الإنسان في شتى الميادين، والذي هـو جوهر وظيفة البنوك الإسلامية التي تهدف إلى جعل المال في خدمة الإنسان، متداولا بين الجميع، وليس دولة بين الأغنياء.

ويتمخض عن هـذا النقاش، أن نشر المصارف الإسلامية في أرجاء البلاد، وإزالة المعوقات من أمامها، وإحاطتها بالتشريعات التي تكفل نموها، وإعطاءها من التيسيرات والمزايا ما لا يقل - إن لم يزد - على ما يعطى للمصارف التقليدية، أمر لا بد منه لجعل فكرة إنفاق " العفو " في سبيل تحقيق مصالح المجتمع، أمرا ميسورا على من يستجيب لهذا التكليف، وهو أمر مطلوب لحث هـذه البنوك على ارتياد مختلف المجالات، والاستثمار في شتى القطاعات، وابتكار الأدوات المصرفية المناسبة لكل ذلك، الأمر الذي يرتب نجاحها في أداء رسالتها، بأن تكون أداة هـامة لتوجيه " العفو " .

إن نجاح هـذه البنوك في الوفاء بهذا الهدف، سيجعل العفو المالي عند المسلم، يتضاعف من نفس حجم الدخل، ذلك أن جانبا كبيرا من هـذه الدخول، يبدد في نفقات استهلاكية، يمكن الاستغناء عنها، فيما لو وجد الفرد طريقا ميسرا لاستثمار العفو، يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع. وإذا أمكن خلق هـذا الشعور عند الناس، أمكن تمويل جانب كبير من جهود التنمية الاقتصادية ، ومن ثم تقل حاجتنا إلى الاقتراض الخارجي، [ ص: 113 ] أو تزول، ولا نقع - عندئذ - في شرك المديونية الخارجية، والتي أفرغت التنمية الاقتصادية من مضمونها في كل البلاد التي وقعت في وهدتها، حتى لقد أصبحت التدفقات المالية بين هـذه البلاد، والبلاد المقرضة ذات اتجاه عكسي، أي يزيد فيها حجم الموارد المنقولة من البلاد المدينة عن حجم الموارد التي ترد إليها، مع تزايد حجم الديون [2] .

إن عدم توفر الظروف المناسبة، لعمل البنوك الإسلامية في بلادنا، يؤدي - ونحن في أشد الحاجة إلى استخدام الأموال في تمويل التنمية - إلى وجود مشكلة " فائض السيولة النقدية " في هـذه البنوك، وبقدر ما تكشف هـذه المشكلة، عن تقصير هـذه البنوك، في إيجاد القنوات الاستثمارية، الكفيلة باستيعاب هـذه الأموال - أيا كانت الأسباب - فإنها تكشف في الوقت ذاته، عن وفرة " العفو " لدى الكثيرين.. وإن الأوعية الادخارية، التي توفرها البنوك التقليدية، لا تستطيع اجتذاب هـذه الأموال، التي يحجم أصحابها عن توظيفها بنظام الفائدة.. كذلك تكشف عن حقيقة ثالثة مفادها، أنه لا غنى عن نظام المصارف الإسلامية، كأسلوب قادر على تجميع " العفو " ، وتوجيهه إلى تمويل التنمية الاقتصادية ، وأن البديل لها هـو بقاء هـذه الأموال عاطلة، وضياع فرص استثمارها، وليس توجهها إلى البنوك التقليدية، كما قد يظن البعض.

إن الحقيقة السابقة، ترينا أن الوقوف إلى جانب البنوك الإسلامية، [ ص: 114 ] ومدها بكل ما يدعم حركتها، ويقوي مراكزها، ويزيد الثقة بها، ضرورة إنمائية، مثل ما هـو فريضة إيمانية، وعلى الدول والحكومات في العالم الإسلامي، أن تنظر إلى البنوك الإسلامية من هـذا المنطلق، فإذا لم يكن في خوفنا من أكل الربا، ما يحضنا على التمسك بها، والحرص عليها، وتنقيتها من كل ما يشوب عملها، فليكن في رغبتنا في تحقيق التنمية الاقتصادية ، بإمكانياتنا الذاتية، ما يجعلنا نحرص عليها، وندفع عنها، ولنكن على ذكر دائم، من أن وقوع بعض هـذه البنوك في بعض الأخطاء، وما يشوب عمل بعضها من قصور أحيانا، لا يعني بطلان فكرتها، ولا صحة منهج البنوك التقليدية، وهذه حقيقة رابعة، يجب ألا تغيب عن نظر من يتعرض لدراسة البنوك الإسلامية.

وإذا كنا بتقرير هـذه الحقائق، ندعو أجهزة الدولة - وبخاصة البنك المركزي - إلى تفهم طبيعة عمل البنوك الإسلامية، وتذليل العقبات التي تعترضها، كطريق إلى الحفاظ عليها، فإن على البنوك الإسلامية أن تحرص كل الحرص، في أداء عملها، على ما يجعل الناس يتمسكون بالتعامل معها، من منطلق المصلحة، والمنفعة، بالإضافة إلى الدافع القائم حاليا، وهو الرصيد الإيماني عند المسلمين، فهذا الحرص يجذب إليها فئة من المدخرين، يؤرقهم التعامل بسعر الفائدة، ويجذبهم إليه ارتفاعه، وانخفاض أرباح البنوك الإسلامية.

وكي تحقق البنوك الإسلامية ذلك، فيجب إلى جوار العمل على رفع كفاءة أدائها، إلى أعلى مستوى ممكن، يجب إعطاء الجزء الأكبر من أرباح المضاربات، التي تمارسها، إلى أصحاب الودائع وليس إلى البنك كمضارب، وليعلم أصحاب رأس مال البنك، [ ص: 115 ] أنهم يؤدون رسالة، قبل أن يكونوا رجال تجارة.

كذلك على البنوك الإسلامية، أن تخطو إلى الأمام خطوة، لا بد منها في تجميع " العفو " ، وتوجيهه إلى تمويل التنمية ، هـذه الخطوة، تتمثل في العمل، على إنشاء سوق مال إسلامية، تتداول فيها أسهمها، وأسهم المشروعات التي أقامتها، وأسهم المضاربات التي تقوم بها، مما يمثل السوق الثانوية لرأس المال، ويوفر الوعاء الصحيح، لتلقي الأموال، وتجميع الفوائض، وبهذا تتمكن البنوك الإسلامية، من ولوج ميدان الاستثمار، طويل الأجل، ذلك الميدان الذي تضطر الآن إلى التقليل منه، بسبب الطبيعة القصيرة الأجل، لمعظم مواردها. إن إنشاء هـذه السوق، يوفر المناخ الصحيح، لتجميع العفو، والقيام باستثماره، بما يعود بالنفع على أصحاب، الأموال من ناحية، وعلى المجتمعات الإسلامية، بإقامة المشروعات الحيوية الدافعة لعجلة التنمية الاقتصادية ، من ناحية ثانية.

على أن دعوتنا هـذه، لا تعني أن دور البنوك الإسلامية - بوضعها الحالي - في تجميع " العفو " ، وتوجيهه نحو الاستثمارات التنموية صغير، بل إنه كبير، وبخاصة دورها في المشاركات المنتهية بالتمليك، من وجهة نظر العميل، أو المشاركات المتناقصة من وجهة نظر البنك.

إن استعداد البنوك الإسلامية، لتمويل مشروعات، تثبت جدواها، بطريق المشاركة المتناقصة، يحفز أصحاب الخبرة في شتى الميادين، إلى العمل على تجميع قدر من رأس المال المطلوب، فوق النسبة التي يشارك بها البنك، وبهذا يتم حفز الأفراد إلى تجميع " العفو " في هـذه المرحلة، [ ص: 116 ] وإذا تمت المشاركة المتناقصة، بينهم وبين البنك، فإن عملية الحفز تستمر متأججة، حتى يتمكن الشريك من امتلاك المشروع، وسداد حصة البنك. وبتكرار هـذا النوع من الممارسات في العديد من المجالات، وخلال فترة زمنية معينة، يجد المجتمع نفسه، وقد أنجز جانبا كبيرا من جهود التنمية بإمكانياته الذاتية، وبمدخرات أفراده.

إن البنك بهذا السلوك، يساعد على تكوين " العفو " ، لدى الذين يقدمون إليه موالهم، ليستثمرها لهم، كما يساعد على تجميع " العفو " ، لدى الذين يقدم إليهم هـذه الأموال، مشاركة لهم في مشروعات إنتاجية، فهو بهذا يحدث حركة عامة في المجتمع، قوامها تكوين العفو، وتجميعه، وتوجيهه إلى مختلف مجالات الاستثمار المطلوبة للمجتمع.

إن البنوك الإسلامية بوضعها المأمول - بل بوضعها الحالي - تعتبر - كما قلنا: من أهم قنوات تجميع " العفو " ، وتوجيهه إلى تمويل التنمية الاقتصادية.

التالي السابق


الخدمات العلمية