الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق

الدكتور / يوسف إبراهيم يوسف

أولا : الدولة وتوجيه " العفو "

أكثر المؤسسات تأثيرا على " العفو " ، إيجادا وتوجيها، هـي الدولة، فما تتبناه من سياسات، وما تعتنقه من أيديولوجيات، إما أن يعلي من شأن العمل والإنتاج، وإما أن يعلي من شأن الاستهلاك.

وبناء على ذلك، ستكون الدولة متحيزة إلى توفير " العفو " وزيادته، إذا كانت تعلي من شأن العمل والإنتاج، وستكون متحيزة إلى تبديد " العفو " ، بل إلى عدم ظهوره، إذا كانت تعلي من قيم الاستهلاك، على المستويين العام والخاص.

وتتمثل أيديولوجية الدولة الإسلامية في سياسة الدنيا بالدين [1] ، كما تدور سياستها حول الالتزام بالشريعة الإسلامية، بما تضم من قيم تعلي من شأن العمل والإنتاج، حتى لتجعل ممارستهما عبادة من أفضل العبادات، وتجعل العمل معيار التفاضل في الدنيا والآخرة، وعنوان حب الله تعالى لعبده، ورضاه عنه.

وانطلاقا من هـذه الأيديولوجية، والتزاما بهذه السياسة، فإن الدولة ستكرس جهودها كي تتاح للمجتمع أكبر فرص تكوين العفو، ثم أفضل الطرق لاستخدامه في تحقيق مصالح المجتمع. ولقد ناقشنا الجانب [ ص: 103 ] الأول من هـذه الجهود، وينصب اهتمامنا هـنا على الجانب الثاني، جانب توجيه العفو، وبيان دور الدولة فيه.

إن الدولة تملك الكثير من القدرة على توجيه " العفو " ، إلى حيث ينبغي توجيهه، ودورها في ذلك هـو أهم محدد لحجم " العفو " ، وضمان تجدده، واستمرار تدفقه، فليس يدفع الناس إلى الإسهام في تكوين " العفو " ، وتقديمه إلى الجهات التي تحتاجه شيء بقدر ما تدفعهم مشاهدتهم لآثاره الطيبة على حياة الفرد والمجتمع، ومن ثم فإن دور الدولة في توجيه " العفو " ، محدد لحجم " العفو " في المجتمع، إلى حد كبير، مما يجعل لدورها أهمية مضاعفة، تجعلها، كما قلنا: أهم المؤسسات المؤثرة على العفو من ناحية فعاليته في تحقيق مصالح المجتمع.

وفيما يلي نحاول إلقاء ضوء على بعض ما يمكن أن تقوم به الدولة بخصوص توجيه " العفو " نحو تمويل التنمية الاقتصادية:

1- إن أول ما يجب على الدولة في هـذا الخصوص، هـو أن تسعى إلى جعل الفوائض الموجودة حاليا، تطمئن إلى توطنها في بلادها، وعودتها من مهجرها، ويتطلب ذلك فوق تأمينا على نفسها، وفتح فرص الاستثمار أمامها، أن تتخذ من الوسائل ما يحيي في نفوس الناس، فكرة التكليف بإنفاق العفو في سبيل الله، وصالح الجماعة، ويتحقق ذلك بإيقاظ الوعي الديني في نفوس أصحاب هـذه الفوائض، وتذكيرهم بدورهم في الحياة، ومهمتهم في الدنيا، وأنها طريقهم إلى الحياة الطيبة في الآخرة.. فهذه المشاعر إذا ملأت النفوس، جعلتها تقبل على الالتزام بإنفاق [ ص: 104 ] العفو، فيما يجب أن ينفق فيه، وفي الموطن الذي ينبغي أن يتوطن فيه، كي يعود على المجتمع الإسلامي، بما يحقق تنميته. وهنا تنتهي ظاهرة هـجرة الفوائض من ناحية، كما تعود الفوائض التي سبق أن هـجرت من قبل.

2- يلي ما سبق في الأهمية أن تضع الدولة إطارا لتنظيم عملية استخدام " العفو " ، يتسم بالمرونة، ويكفل انسياب الفوائض إلى قنوات الاستثمار المختلفة، ومجالات الخدمة الاجتماعية المتعددة، دون أن يضع العقبات، أو العراقيل أمام أي استثمار، يحقق مصالح المجتمع، أو أي عمل اجتماعي يعود على الناس بالنفع، وبما يحفظ هـذه الفوائض من أن تبدد في مشروعات مظهرية غير مجدية، أو في استثمارات لم يصل المجتمع إلى طلبها في هـذه المرحلة.

ويمكن لهذا الإطار أن يتضمن مواقف حكومية محددة من بعض النقاط، تعتبر بمثابة سياسات هـادفة إلى جعل " العفو " ، يتجه إلى حيث تتحقق من ورائه المصالح الأكثر أهمية للجماعة، وعلى سبيل المثال:

( أ ) أن تضمن الدولة - كطرف ثالث - للمشاركين في تمويل مشروعات معينة، تتضمنها خطة محددة، أن تضمن لهم حدا أدني من الربح، تشجيعا على الاكتتاب في هـذه المشروعات، التي تحقق للمجتمع مصالح حيوية.. إن هـذا الضمان من قبل الدولة، كفيل بجعل المواطنين، يسارعون إلى الإسهام في هـذه المشروعات الحيوية، وبهذا يتم توجيه العفو إلى حيث يحقق مصالح المجتمع بتنمية القطاع الذي ترى له أهمية على غيره من القطاعات. [ ص: 105 ]

( ب ) أن تضمن سداد القروض الاستثمارية ، التي يقترضها أصحاب المشروعات، التي تقر الدولة دراسات الجدوى القاضية بسلامتها من جميع النواحي، وفي حدود نسبة معينة من رأس مال المشروع.

وذلك عندما لا يتمكن صاحب المشروع من سداد هـذه القروض. ويمكن الاستفادة من سهم الغارمين في موازنة الزكاة، في تحقيق ذلك. إن وجود مثل هـذا الضمان، يشجع على تعامل الناس بالقرض الاستثماري الحسن، والذي يمكن أن يكون من أكثر صيغ التمويل أهمية في مجتمعاتنا، ذلك أن الكثيرين ممن لديهم فوائض، يحبون أن يسهموا في تمويل التنمية ابتغاء الثواب والجزاء الأخروي، ولا يرغبون في تعرض أموالهم لمخاطرات المشاركة، وبخاصة إذا تمثل إسهامهم في إعانة شباب مقبل على الحياة، ومؤهل لبنائها، لكنه ينقصه التمويل، أو إعانة قريب لصاحب الفائض، يحب أن يراه قد وقف على قدميه في ميدان الاقتصاد، أو إعانة فئات، تعرضت لظروف قاسية، تحتاج إلى من يقف بجوارها وينتشلها مما هـي فيه.

ويقينا إذا اضطرت الدولة إلى تحمل بعض هـذه القروض، فإن الغالبية العظمى من المشروعات، ستنجح في الوفاء بما التزمت به، بحيث يكون ما تحملته الدولة تكلفة زهيدة لنجاح الكثير من المشروعات، التي تنشر الخير والرخاء في جنبات المجتمع، وتعطي الفرصة للكثيرين للتعرض لفضل الله تعالى وثوابه، بتقديم أموالهم في شكل قروض، وهم آمنون عليها. وهذا هـو الأصل في الفكر الإسلامي: أن تكون القروض مضمونة السداد، إما بواسطة من اقترضها، أو بواسطة موازنة الزكاة، وسهم الغارمين بها. [ ص: 106 ]

( ج ) أن تفرغ الدولة خطتها الإنمائية في شكل مشروعات مدروسة، سليمة، فنيا واقتصاديا، وموزعة على المجالات الاقتصادية، والمناطق المكونة للمجتمع، وتقوم بتقديمها للقطاع الخاص، وتسويقها لديه، وبهذا الأسلوب تستطيع الدولة أن تحرك من لا يجيدون ابتداع الفكرة، أو خلق الفرصة، فهذه هـي الفرصة قد أتيحت لهم، والفكرة الصائبة، قد قدمت إليهم، فلم يبق إلا أن يتلقفوا الفكرة، ويهتبلوا الفرصة. وبهذا تضمن الدولة تمويل الكثير من مشروعات التنمية من الفائض الذي لدى الأفراد، أو الذي يعتمد الأفراد تكوينه، عندما تتاح لهم إمكانية تنفيذ مشروع من هـذه المشروعات، وسيلجأ غالبا إلى أساليب المشاركة العديدة، التي تمكن عددا منهم من توفير رأس مال مشروع من هـذه المشروعات، إذا لم يكن في مقدور فرد منهم، أن يقوم به منفردا. وفي كل الحالات فإن قدرا من الفائض " العفو " ، سيتوجه إلى تمويل التنمية الاقتصادية، استجابة لمبادرة الدولة هـذه.

( د ) تستطيع الدولة أن تقوم بدور هـام جدا في تجميع " العفو " ، وتوجيهه بنفسها إلى حيث يحقق مصالح المجتمع، إذا هـي مكنت الأفراد من أن يحلوا محلها في المشروعات التي قامت ببنائها، وأصبحت مشروعات ناجحة بكل المقاييس.. إن بيع هـذه المشروعات للأفراد، واتخاذ ذلك استراتيجية معلومة للدولة، يجعل الأفراد يبذلون كل جهد لتكوين " العفو " ، والتقدم به للحصول على مشروع من هـذه المشروعات، وبذلك تتمكن الدولة من الحصول على هـذه الفوائض، واستخدامها في بناء الجديد من المشروعات، التي تعيد بيعها للأفراد أيضا، [ ص: 107 ] وبتوالى هـذا السلوك وتكرره، تتمكن الدولة من تمويل التنمية الاقتصادية بجهود الأفراد، وادخاراتهم الطوعية، كما تعودهم على ولوج المجالات التي كان يصعب عليهم أن يلجوها ابتداء.

( هـ ) يمكن أن تعمد الدول إلى إنشاء بيوت تمويل، تكون مهمتها الإسهام في تمويل المشروعات، التي يتقدم بها القطاع الخاص بنسبة معينة (50% مثلا من التمويل اللازم للمشروع) ، ويتكفل مقدم المشروع ببقية التمويل، على أن يتعهد بشراء حصة بيت التمويل في فترة زمنية مناسبة، فيصبح المشروع خالصا له. هـذه الفكرة يمكن تنفيذها، دون تحقيق أرباح لبيت التمويل، كما يمكن أن يحقق منها أرباحا، يعزز بها رأس ماله، الذي قدمته له الموازنة العامة عند بدايته، وسواء أحقق أرباحا، أم عمل بدون أرباح، فإن الهدف من إنشائه هـو تمكين المواطنين من تجميع الفوائض، وتوجيهها نحو بناء المشروعات، التي تحقق التنمية الاقتصادية. وسوف يتحقق هـدفه هـذا بدفعه المواطن إلى تجميع " العفو " ، قبل الإقدام على مشاركة بيت التمويل، وعند التفكير في المشروع، حتى يتمكن الفرد من توفير التمويل اللازم للمشاركة في المشروع، ثم بدفعه مرة أخرى لتوفير ما يمكنه من الحلول محل بيت التمويل في الجزء المملوك له. وفي الحالتين تحقق تكوين " العفو " ، وتحقق توجيهه إلى تمويل التنمية .

( و ) من أهم الميادين التي يظهر فيها أثر جهد الدولة ودورها في توجيه " العفو " من الجهد البشري عند الشباب، ميدان إقامة التجمعات الزراعية الجديدة، إذ يمكنها أن تستغل الفائض من الجهد البشري عند الشباب في إقامة هـذه التجمعات وتنميتها، وجعلها مراكز إنتاج، [ ص: 108 ] ولن يكلفها ذلك إلا إقامة البنية الأساسية، من طرق وإمداد بالمياه والطاقة، وأساسيات المعيشة اليومية، ثم تدعو الشباب في شكل جماعات، تشكل لهذا الغرض، تتعاون كل جماعة منها في استصلاح وزراعة منطقة معينة، وإقامة الحياة الاجتماعية فوقها، فيضيفون إلى الإنتاج القومي، ويكفلون لأنفسهم ولذرياتهم من بعدهم أعمالا منتجة، وحياة طيبة.

وبهذا الطريق، يمكن تجميع الطاقات الفائضة عند الشباب، وتوجيهها إلى الإنتاج، ويمكن الاستفادة في مثل هـذا المشروع بإمكانيات بيوت التمويل المشار إليها في البند السابق، وبإمكانيات المؤسسات التي تعمل في مجال استخدام " العفو " من المال النقدي والمال العيني، وستكون هـذه مجالات كبيرة العائد لجماعات الشباب من ناحية، وللمؤسسات التي تمدها بالإمكانيات من ناحية ثانية، وللمجتمع الذي يضيف عن طريقها إلى رءوس الأموال وموارد الثروة به، كما يخلق فرص عمل لأبنائه، ويرفع من مستوى معيشة المواطنين جميعا بهذا السلوك، من ناحية ثالثة.

كل ذلك ممكن الوقوع إذا استطاعت الدولة توجيه طاقات الشباب، و " العفو " منها، قبل أية إمكانيات أخرى.

هذا ولا يقف دور الدولة في توجيه " العفو " ، عند هـذا الدور الذي لها فيه وجود ظاهر، وإنما دورها الأهم في توجيه " العفو " يتحقق من خلال رعايتها وتشجيعها للهيئات والمنظمات، التي تتكون من المواطنين، وتأخذ على عاتقها مهمة استخدام " العفو " من كافة الإمكانيات، في إثراء جنبات الحياة. [ ص: 109 ]

إن الاتحادات الطلابية، والأحزاب السياسية، والتشكيلات النقابية، والجمعيات الخيرية، وغيرها من المنظمات، إنما يدفعها ويحفزها، وينشر أثرها دور الدولة المساند، الذي يزيل العقبات من أمامها، ويعطي الفرصة كاملة لمساعيها أن تبلغ مداها.

إن كل المؤسسات التي سنشير إلى دورها في توجيه " العفو " في الصفحة التالية، تستمد جانبا من أسباب نجاحها، من حسن قيام الدولة بدورها في توجيه " العفو " من ناحية، ومن تفهم الدولة لدور هـذه المؤسسات وإيمانها به. وكل ذلك يظهر الدور الهام للدولة في توجيه " العفو " .

التالي السابق


الخدمات العلمية