الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق

الدكتور / يوسف إبراهيم يوسف

المجال الثاني : العفو من المال العيني

يمتلك الناس نوعا هـاما من أنواع المال، يتمثل في أدوات الإنتاج التي يستخدمها الشخص في العملية الإنتاجية، كما يتمثل في الأدوات التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية، وهو بصدد إشباع حاجته، مثل السلع الاستهلاكية المعمرة، ودواب الركوب، ومنزل السكني... إلخ.

هذا النوع من المال يمثل جانبا كبيرا، بل الجانب الأكبر من حجم الأموال في المجتمع، وكثيرا ما يقتنى بحد أدنى، يربو على الحاجة الشخصية لمن يقتنيه، بل ربما يقتنى بعضه، ولا يستخدم إلا أياما محدودة في العام، فهو لهذا يمثل مكمنا ضخما من مكامن " العفو " عند المسلم. ولهذا رأينا الإسلام يقيم وزنا كبيرا لهذا النوع من العفو، ويعمل على دفع المسلم إلى تبين حجمه لديه، وتقديمه إلى من هـو في حاجة إليه. كي لا تهدر منافعه، ولا تتبدد طاقته، فهذا النوع من " العفو " إن لم يقدم لمن هـو في حاجة إليه، فسيبقى لدى مالكه بغير استعمال في الأوقات التي لا يستعمله فيها، وإذا قام بتقديمه إلى من هـو في حاجة إليه، فسيتولد عنه دخل ما، ويعني ذلك زيادة الإنتاج من نفس الحجم من أدوات الإنتاج، وزيادة المنافع المشتقة من أدوات الاستعمال [ ص: 79 ] اليومي في الحياة، وبالتالي زيادة حجم الإنتاج القومي من نفس حجم الإمكانيات المملوكة للمجتمع في شكل مالي عيني.

وبناء على ذلك يمكن تمويل جانب من النشاط الاقتصادي الذي يمارسه الأفراد بهذا النوع من " العفو " ، ويرتفع حجم هـذا التمويل بقدر التزام أصحاب " العفو " بتقديمه إلى من هـو في حاجة إليه من ناحية، كما يرتفع بقدر ما يملك الأفراد من نظم، يقدم " العفو " من خلالها من ناحية ثانية.

ومضاعفة أثر هـذين المؤثرين، ينبغي على المجتمع، أن يعمل على جعل التكليف ببذل " العفو " من هـذه الأدوات حاضرا في النفوس والقلوب، بفعل التنشئة المسبقة من ناحية، وبفعل مداومة التذكير بذلك من ناحية ثانية، كما ينبغي البحث عن شتى الأساليب والتنظيمات التي يمكن من خلالها تقديم هـذا " العفو " ، بقدر من اليسر، وبدرجة عالية من الكفاءة.

وهذا ما سلكته الشريعة الإسلامية، فبخصوص المؤثر الأول فقد رغب الإسلام في بذل " العفو " من أدوات الإنتاج، وأدوات الاستهلاك، إلى الدرجة التي جعل منع هـذا " العفو " علامة على التكذيب بالدين، أو صفة من صفات المكذبين بالدين، وإن صلوا مع المصلين، فقال سبحانه وتعالى: ( أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هـم عن صلاتهم ساهون * الذين هـم يراءون * ويمنعون الماعون ) [الماعون]. [ ص: 80 ]

ومنع الماعون - المتوعد عليه - يعني عدم تقديم أدوات الإنتاج، وأدوات الاستخدام الحياتي - عند عدم شغلها بحاجة صاحبها - إلى من هـو في حاجة إليها. وهكذا فسر الماعون في أصح التفسيرات له، فقد " روي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الماعون ما يتعاطاه الناس بينهم " . " وروي عنه أيضا: أنه القدر، والفأس، والدلو، ونحوها، " وهما قريبان [1] ، وجاء في تفسير الجلالين: الماعون كالإبرة، والفأس، والقدر والقصعة [2] .

وتحقيق الكلمة، كما يقول ابن العربي : إن الماعون من أعان يعين، والعون: الإمداد بالقوة، والآلة، والأسباب الميسرة للأمر.. ولما كان الماعون من العون، كان كل ما ذكره العلماء في تفسيره عونا [3] وجاء في المعجم الوسيط: " الماعون اسم جامع لمنافع البيت كالقدر والفأس والقصعة، ونحو ذلك مما جرت العادة بإعارته " [4] .

ومن كل هـذا، يتبين لنا أن أقرب تفسير للماعون الذي توعد الله تعالى على منعه بالويل، هـو أدوات الإنتاج (الفأس، في أمثلتهم ) وأدوات [ ص: 81 ] الاستخدام المعيشي (القدر، والقصعة، والإبرة، في أمثلتهم ) والتي تختلف باختلاف المستويات الحضارية، وتقدم الفنون الإنتاجية، ويجمعها قول ابن العربي : الإمداد بالقوة، والآلة، والأسباب الميسرة للأمر.

وقد حفلت السنة المطهرة بالحث على الكثير من تطبيقات هـذا التكليف، ومن ذلك:

1- حث النبي صلى الله عليه وسلم الجار على عدم منع جاره إن أراد أن يعتمد على جداره بخشبة، فقال: ( لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ) [5] .

2- حث عليه الصلاة والسلام المسلم أن يعير أخاه حيوانا ذا لبن، ينتفع بلبنه سنة، ثم يرده فقال: ( أربعون خصلة، أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة ) [6] .

3- قرر صلوات الله وسلامه عليه، أن أفضل الصدقات يتمثل في تقديم منافع الأدوات، وعوامل الإنتاج فقال: ( أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله، ومنيحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله ) [7] . [ ص: 82 ]

فهذه الإرشادات، والأوامر، والتقريرات، كلها تتناول تقديم أدوات إنتاج، أو أدوات استعمال معيشي، فمنيحة العنز تعني: تقديم مصدر إنتاجي، يحصل منه متلقيه على ما يسد حاجته؛ ومنحية الخادم تعني: تقديم مصدر إنتاجي، يحصل متلقيه على خدماته الإنتاجية؛ وطروقة الفحل تعني: تقديم خدمة إنتاجية تمثل مصدرا لنماء الثروة الحيوانية، وظل الفسطاط يعني: تقديم مصدر إنتاجي يحصل متلقيه على منفعة في صورة السكنى؛ وكذلك السماح بغرز الخشب في الجدار، يسهم في توفير المسكن الذي يعتبر مطلبا ضروريا من مطالب الحياة الأساسية. وعندما يجعلها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقات، فإنما ذلك لأثرها الإنتاجي، وعائدها المباشر على الدخل الفردي، والدخل القومي بالتالي، وجعلها أفضل الصدقات، يمثل دعوة قوية من الشريعة الإسلامية، لجعل هـذا السلوك متأصلا في النفس المسلمة، فيترتب على ذلك أن يكون لهذا النوع من العفو أثر كبير على تمويل التنمية، وبخاصة أننا علمنا أن الحد الأدنى، مما يقتنى من هـذه الأدوات، غالبا ما يكون أكبر من حاجة الشخص العادية، ومن ثم فإن التحبيب في تقديم " العفو " منها إلى من هـو في حاجة إليه، يمثل طريقا لحسن استغلالها. وإذا كان عائد الاستغلال المباشر، هـو لمصلحة متلقي هـذا العفو، فإن عائده بالنسبة إلى صاحبه أكبر بكثير جدا، إنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : الجنة، ( ما من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة ) [8] ، وكفى بها عائدا في معيار المسلم، على أن صاحب " العفو " ، لن يحرم العائد المادي في الدنيا أيضا. [ ص: 83 ]

فلا شك في أن شيوع هـذه القيم بين الناس، وتبادل " العفو " في الأدوات بينهم، سيعود بالفوائد الكثيرة على جميعهم، إن لم تكن مباشرة، بحصول من قدم " العفو " من أداة، على " العفو " مما لدى شخص آخر، فإنه سيحصل على الفائدة بطريق غير مباشر، في شكل تقدم المجتمع، وارتفاع مستوى معيشته. ولا شك أن العائد الأساسي لهذا السلوك، وهو الطمع في جنة الله، إلى جانب الفوائد في الدنيا، مباشرة وغير مباشرة، يمثل حافزا كافيا لحرص الناس على بذل " العفو " من أدوات الإنتاج، وأدوات الاستعمال المعيشي، الأمر الذي يرفع - كما قلنا - الأثر التمويلي لهذا النوع من " العفو " .

فإذا انتقلنا إلى المؤثر الثاني على حجم الأثر التمويلي للعفو من الأدوات، وهو امتلاك الناس نظما وتنظيمات، يؤدى من خلالها هـذا النوع من التمويل، رأينا الأهمية الكبيرة لإيجاد هـذه النظم وإقامة تلك التنظيمات، وبخاصة أن ظروف الحياة قد اختلفت، وانتقلت من البساطة التي كانت عليها، إلى قدر من التعقد غير قليل، فلم تعد منيحة العنز، أو ظل الفسطاط، هـي الممثلة لما لدى الناس من عفو، وإنما حدت في حياة الناس أنواع من وسائل العيش والإنتاج، وبها " عفو " يجب عدم منعه.. ووجود تنظيمات، تمثل قنوات لنقل هـذا " العفو " من مالكه إلى المحتاج إليه، ييسر على الناس قيامهم بهذا التكليف، ويساعدهم عليه.

هذا وإن تنظيم تقديم " العفو " ، إلى من يحتاجه، ليس جديدا على الفكر الإسلامي، فقد قام الفقهاء - رحمهم الله تعالى - بتنظيم الجانب القانوني لهذا النوع من التعاون على البر والتقوى، وعقدوا له كتابا أو بابا [ ص: 84 ] في كل مؤلف فقهي شامل، هـو " كتاب العارية " ، أو " باب العارية " ، ويشتمل هـذا الكتاب على تقنين هـذا النوع من التعاون، حيث يناقش فيه أركان عملية تقديم " العفو " من الأدوات (أركان العارية) ، من معير، ومستعير، ومعار، وصيغة العقد.. وفي حديثهم عن المعار، وهو الذي نطلق عليه في بحثنا هـذا مكمن " العفو " ، أي محل العارية، ناقش الفقهاء إعارة كل أنواع أدوات الإنتاج، وأدوات الاستخدام المنزلي، بمعناها الواسع، من أرض للزراعة أو البناء، ومن دواب للحمل أو العمل، ومن سفن للنقل أو الصيد، ومن دور للسكنى وأدوات للزينة، ومن أدوات للزراعة والصناعة، وثياب وكلاب صيد. وأدوات طبخ، وتحميل خشبة فوق جدار، وطروقة الفحل، وغير ذلك مما لا يقع تحت حصر، وضابطه لديهم هـو: " كل ما ينتفع به مع بقاء عينه "

قال صاحب الكافي: " وتصح (أي العارية) في كل عين ينتفع بها، مع بقاء عينها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبي طلحة فرسا فركبها، واستعار من صفوان بن أمية أدراعا، وسئل عن حق الإبل فقال: ( إعارة دلوها وإطراق فحلها، ) فثبت إعارة ذلك بالخبر، وقسنا عليه سائر ما ينتفع به مع بقاء عينه " [9] .

وقد نظم الفقهاء كل ما يتعلق بالعارية من ضمان عينها، وبيان ما يضمن، وما لا يضمن، من النقص الذي يترتب على استخدامها، وإطلاقها، وتأقيتها، وأثر ذلك على نوعية استعمالها، وحددوا من يتحمل مؤنتها إن كانت لها مؤنة، إلى غير ذلك من أحكام العارية [ ص: 85 ] المبسوطة في كتب الفقه " [10] .

والتنظيم الذي نحتاجه اليوم في استخدام " العفو " ، من الأدوات، يتمثل في أمرين:

الأول: يتمثل في سن تشريع ينظم استخدام العارية، مستخلصا من كتب الفقه الإسلامي، بحيث يحدد بوضوح حقوق وواجبات كل من المستعير، والمعير، قبل الشيء المستعار، بما يجعل العلاقة واضحة لا ترتب خلافا أو نزاعا.

أما الشق الثاني، من تنظيم استخدام " العفو " : فيتمثل في اكتشاف الوسائل المنظمة التي تيسر على كل من صاحب " العفو " ، ومن هـو في حاجة إليه، تحقيق غرضه الذي يقصده.

ونشير في السطور التالية إلى بعض أشكال " العفو " من الأدوات، والتي برزت في العصور الحديثة، وشكل التنظيم الذي ينظم استخدام " العفو " :

1- إن " العفو " من أدوات الإنتاج، أو أدوات الاستعمال، قد يتمثل اليوم في أداة قديمة استبدل بها مالكها أداة جديدة، لكنها لما تزل على قدر من الصلاحية، فهي لديه " عفو " إلى جوار الأداة الجديدة.

ومثل هـذا النوع من " العفو " ، يمكن تنظيم صالات عرض خاصة به، عن طريق المؤسسات الخيرية التي تقوم بتقديمه إلى من [ ص: 86 ] يسد له حاجة، بعد أن يتعرف على هـذه الأدوات في صالات العرض هـذه، ويتقدم إلى الجهة المشرفة بحاجة، وقد تكون هـذه الأداة فوق حاجته جودة وحسن أداء، مع أنها لم تكن كذلك بالنسبة لصاحبها.

هذا التنظيم يمكن أن يمارس في السلع المعمرة - إنتاجية واستهلاكية - مثل السيارات والثلاجات، والغسالات، والثياب، وبخاصة ثياب المناسبات، وآلات الطباعة والنسخ، وأثاث المنازل والمكاتب، وأجهزة التلفاز، وكتب العلم، وأدوات الحرف المختلفة، إلى غير ذلك مما لا يقع تحت الحصر. والعفو في هـذه الأشياء، يتمثل في عينها بالقياس إلى ما يملكه صاحبها من أدوات أفضل منها، وهو يقوم بتمليك هـذه الأدوات لمن سيحصل عليها.

2- كذلك قد يتمثل " العفو " اليوم في غرفة بالمنزل تفيض عن حاجة الأسرة فترة من الزمن، ويمكن تقديمها لمن تسد لديه حاجة من طلبة العلم وطالباته، ويمكن إنشاء مكاتب ملحقة بالمؤسسات التعليمية، تتلقى رغبات أصحاب هـذا النوع من " العفو " ، مقرونة بمواصفات من يمكن استضافته لدى الأسرة (طالب أو طالبة) بما يحقق مصلحة الطرفين، ويتفق وأحكام الشريعة بهذا الخصوص، وتقوم هـذه المكاتب بترشيح من ترى للحصول على هـذا " العفو " كي يلتقي بصاحب المنزل، ليرى رأيه. وبهذا يمكن الاستفادة من جانب كبير من " العفو " ، الموجود في دور السكنى، وبه تسد حاجة الكثيرين من طلاب العلم وطالباته، الذين لا يملكون قدرة على توفير المسكن من خلال السوق، وأثر ذلك في التغلب على [ ص: 87 ] مشكلة الإسكان في البلاد التي تعاني منها، أثر بارز، و " العفو " هـنا يقدم في شكله التقليدي، أي تمليك المنفعة مع بقاء العين مملوكة لصاحبها.

3- كذلك قد يتمثل " العفو " اليوم في مكان فائض، بسيارة الشخص، يمكن تقديمه لمن هـو في حاجة إليه، من زملاء العمل، أو سكان الحي، ويمكن للنقابة التي تجمعهم أن تنظم ذلك في الحالة الأولى، كما يمكن لإدارة مسجد الحي، أن تنظم ذلك في الحالة الثانية. وبهذا يمكن سد جانب كبير من الطلب على وسائل الانتقال. وتنظيم ذلك عن طريق النقابة أو المسجد، أمر يسير.

4- و " العفو " قد يتمثل في قطعة أرض لا يحتاج إليها مالكها، ولا يجد من يزارعه عليها، أو يؤجرها له، فهي في هـذه الحالة فضل، عليه أن يقدمها لمن يحتاج إليها، ليقوم بزراعتها، ويبذل جهده عليها، مبتغيا من فضل الله تعالى. وحث النبي صلى الله عليه وسلم على تقديم هـذا النوع من أدوات الإنتاج مشهور [11] . كما أمر عمر بن عبد العزيز [ ص: 88 ] عماله بأن يقدموا الأرض التي لا تجد من يزرعها بمقابل، إلى من يستفيد منها بدون مقابل، يقول: انظر ما قبلكم من أرض الصافية فأعطوها بالمزارعة بالنصف، فإن لم تزرع فأعطوها بالثلث، فإن لم تزرع فأعطوها حتى تبلغ العشر، فإن لم يزرعها أحد (أي بمقابل) فامنحها [12] .

ويمكن تنظيم هـذا العمل على مستوى القرية، فتوجد جهة تتولى تنظيم منح الأرض لعام أو لأكثر، لمن يحتاج إليها، وخاصة من الملاك الذين لا يعملون بالزراعة، وتمثل ممتلكاتهم من الأرض الزراعية فضلا لديهم.

هذا وإن دور هـذه التنظيمات لن يقتصر على تيسير تبادل " العفو " بين الناس، وإنما سيذكر وجودها أصحاب " العفو " بواجبهم، وبالتكليف الملقى على عاتقهم، فيما خولهم الله تعالى من إمكانيات.

ولا بد من التنبيه هـنا إلى أن إقامة هـذه التنظيمات، لا يعني إهمال الطرق المباشرة لتقديم " العفو " ، فلا يزال لتبادل " العفو " بالطريق المباشر بين مالكه ومن يحتاج إليه، مجالاته الكثيرة، والتي تمثل ميدانا واسعا من ميادين تقديم " العفو " في الأدوات. فلا يزال للإبرة والفأس والدلو والقصعة، كأمثلة تراثية للعفو في الأدوات، تطبيقاتها في حياتنا، بين المرء وجيرانه في السكنى، أو جيرانه في العمل؛ ودورها في تيسير إتمام الإنتاج، ملحوظ. [ ص: 89 ]

إن بدائل الفأس من المحراث التقليدي والآلي، وآلات البذر والحصاد والدياس، وغير ذلك من أدوات الزراعة، تمثل ميدانا رجبا لتبادل " العفو " ، ويمكن متلقيه من ممارسة الإنتاج على مستوى التقنية العصرية، الأمر الذي يرفع متوسط الإنتاجية الزراعية في المجتمع، ومن ثم يرفع مستوى الإنتاج القومي.

وشبيه بذلك، تقديم " العفو " من أدوات الإنتاج في الميدان الصناعي، من المصانع التي تملك تقنية متقدمة، إلى الورش الصغيرة، التي لا تملك هـذه التقنية، ولا تقوى على امتلاكها، إنه أيضا يرفع متوسط الإنتاجية في القطاع الصناعي، وينعكس على مستوى وحجم الإنتاج القومي.

كذلك لا تزال " الإبرة " كمثال تقليدي على " العفو " ، تجد تطبيقا لها في آلات الحياكة والخياطة، ولا تزال القصعة والقدر، تجد تطبيقا لها في أدوات المطبخ التي تعددت أنواعها، وتنوعت أغراضها، لا تزال هـذه وتلك ميادين رحبة لتبادل " العفو " ، بين ربات البيوت؛ وأثر هـذه الأدوات على تيسير عمل المرأة في بيتها، لا ينكر.

وكل هـذه الأدوات تحمل قدرا غير قليل من " العفو " يمكن تقديمه لمن هـو في حاجة إليه، من الجيران وذوي القربى؛ وأثره في إشباع الحاجات ورفع مستوى المعيشة، غير منكور.

هذا وسنرى طرفا من أثر " العفو " في أدوات الإنتاج عند حديثنا عن توجيه العفو بصفة عامة في المطلب السادس بمشيئة الله تعالى. [ ص: 90 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية