الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
5 - الجمعيات الخيرية

يقيم الإسلام العلاقات الاجتماعية بين الناس، على أساس من المسئوليات والتكاليف الملقاة على عاتق الفرد والجماعة، قبل أن يقيمها على أساس من الحقوق، التي للفرد قبل الآخرين، ومع أن المسئوليات التي على الفرد والجماعة، هـي الوجه الآخر، للحقوق التي لهم، إلا أن لنظرة الإسلام هـذه أثر كبير على طابع تنظيم العلاقات وفعاليته، فحينما يوجه المسلمون أفرادا وجماعة، [ ص: 143 ] إلى القيام بمسئولياتهم قبل الفرد والجماعة، فإن طابع العلاقات في هـذه الحالة، سيكون طابع " العطاء والبذل " ، بحثا عن ثغرة تسد، ومصلحة للناس تحقق. وإذا ساد هـذا الطابع في العلاقات، تنافس الناس في تحمل المسئوليات، والقيام بالواجبات، وبات كل فرد يبحث عن حق لأخيه قبله ليؤديه، وواجب عليه ليقوم به، وهنا يحصل الناس على مالهم من حقوق بصورة تلقائية، بل ربما، يحصل كل فرد على أكثر مما له من حقوق، لكنه لا ينالها عن طريق المغالبة، والمطالبة، وحب الأثرة، وإنما عن طريق التراحم والإيثار، ورغبة كل فرد في الاضطلاع بمسئولياته.

وشتان في الأثر والنتيجة - على الفرد والمجتمع - بين أن أنال حقوقي بالكفاح والمغالبة، وبين أن أنالها طواعية، بسبب حرص غيري على أداء الواجبات الملقاة على عاتقه، والتي هـي حقي لديه، شتان - كما قلنا - بين الطريقتين، أثرا ونتيجة.. إن الطريقة الأولى تزرع في نفوس الأثرة، والأنانية، والبخل، والحرص، أما الثانية فهي تزرع في النفوس الإيثار، والمودة، والتراحم؛ ونتيجة الأولى مجتمع مفكك، كل فرد فيه يقول: نفسي نفسي، ونتيجة الوضع الثاني هـي تماسك المجتمع، ووقوف الأفراد معا، كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له الكل، حسب تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم علاقة المؤمنين فيما بينهم [1] ، وينعكس ذلك على المجتمع في سيادة [ ص: 144 ] الأمن والاستقرار، وتوفر ظروف التقدم، وبناء الحضارة.

ومن خلال هـذه الأساس، لتنظيم العلاقة بين المسلمين، يظهر دور الجمعيات الخيرية، التي يكونها الأفراد، لتكون وعاء لجهودهم، الباحثة عن الوفاء بالمسئوليات الملقاة على عواتقهم، يتعاونون من خلالها على البر والتقوى، والعمل المثمر، صدوعا بأمر الله تعالى لهم: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [المائدة:2]. ويقوم كل فرد - من خلالها - بفروض كفاية ، أو يشارك إخوانه في القيام بهذه الفروض، أو في الدعوة إلى القيام بهذه الفروض، وإقامة من يقوم بها، وفقا للعلاقة الثلاثية، التي تربط المسلم بفروض الكفاية [2] ، والتي إن لم يكن له دور منها، آثم شخصيا، وإذا لم يقم أحد بها أثم القادرون جميعا.

ويمتد عمل هـذه الجمعيات، ليشمل كل مجالات الحياة دون استثناء، فهي تختلف عن التنظيمات التي ناقشناها سابقا، والتي يقف نشاطها عند ميدان، أو عدة ميادين، تبعا لطبيعتها، أما هـذه فليس لها ميدان محدد، بل كل الميادين تقبل تكوين جمعية، يشترك فيها الساعون إلى تقديم الخير، والتعاون عليه، ومن ثم فإن الطاقات الفائضة " العفو " ، إذا لم يستوعب من خلال نشاط ما، يجد في الجمعيات الخيرية فرصته، لينفق في سبيل الله تعالى، بطريقة منظمة مؤثرة، تثري الحياة الإنسانية، وتدفع عن المسلمين كيد أعدائهم، وتقيم السدود المنيعة أمام هـجماتهم، الفكرية، والأخلاقية، والمادية، [ ص: 145 ] وفي النهاية تحفظ للمسلمين هـويتهم، وتؤدي باسمهم رسالتهم.

ولا يقف هـذا الامتداد عند حدود إقليم الدولة الإسلامية، بل يتجاوز هـذه الحدود، ليقدم الخير، ويمد يد العون، للأخوة في الدين، أو الأخوة في الإنسانية. والذين يقدمون فائض جهدهم في هـذا الطريق، يمارسون ضربا من الرباط في سبيل الله، فينشرونه حيث حلوا، ويظهرون طبيعته الخيرة، ودوافعه السامية، وتكريمه للإنسان بوصفه إنسانا.

إن الجمعيات والهيئات والمنظمات الخيرية، سواء من يعمل منها على المستوى المحلي، أم يعمل على المستوى الدولي، تمثل وعاء من أهم الأوعية، التي يستطيع المسلم استخدامها، ليقدم الفضل من جهده، والعفو من ماله. ومن ثم فإن إقامتها في شتى المجالات، ضرورة لإتاحة الوسيلة أمام المسلم، ليتمكن من الوفاء بالتكاليف الملقاة على عاتقه، وأول من يتمتع بهذا المزايا، من يكون لهم فضل التفكير فيها، والسعي في إنشائها، وتحديد أهدافها، ومجال نشاطها. إنهم أول المرابطين، وأسبق المجاهدين، ففضلهم لا يصل إلى من يستفيد من نشاط هـذه المنظمات فحسب، وإنما يصل قبل ذلك إلى من يجد في هـذه المنظمات وعاء تصب فيه جهوده الفائضة، وميدانا يبذل فيه " العفو " من ماله، فهم قائمون بفروض كفائية ، وميسرون لغيرهم القيام بفروض كفائية، وداعون إلى القيام بفروض كفائية.. فعلاقتهم بفروض الكفاية ، قد شملت كل أطرافها.

إن الجمعيات الخيرية، تتيح الفرصة لمن يحب التقرب إلى الله تعالى، بوقف قدر من ماله النقدي، أو العيني، على غرض من الأغراض، [ ص: 146 ] وهي بذلك تتيح لنظام الوقف الإسلامي، أن يعود، فيقوم بما كان يقوم به من قبل، في حياة المسلمين، حيث أسهم في الازدهار الحضاري، الذي أقامه الإسلام حتى جاوزت أغراضه العناية بشئون الإنسان، إلى العناية بشئون الحيوان.

وتستطيع هـذه الجمعيات، باستخدام " العفو " من الأموال العينية، أن ترتقي بمستوى معيشة الكثيرين، ممن يستخدمون هـذه الأموال في سد حاجات لهم، ويرتفع بذلك المستوى المعيشي للمجتمع ككل.

وتستطيع أيضا - باستخدام " العفو " ، من الجهود البشرية، مضافا إلى " العفو " من الأموال النقدية - أن تضطلع بدور كبير في بناء الحياة في مختلف ميادينها، وشتى مجالاتها: في المجال الإنمائي، والمجال الثقافي، والمجال التربوي، والمجال الأخلاقي، وفي مجال الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.

إن إحياء فكرة التكليف بإنفاق " العفو " من المال، والجهد، في سبيل الله تعالى، ومصلحة لمجتمع، يمكن أن يمثل انطلاقة كبرى للجمعيات الخيرية القائمة، وأن يمثل دافعا لإنشاء الكثير من الجمعيات، واتخاذ ذلك أسلوبا، لتحقيق التقدم في شتى المجالات، حتى ليغطي وجه المجتمع أولئك المتنافسون في الوفاء بحاجته، وسد ثغراته.

إننا نتصور - من منطلق إسلامي - أن تكون جمعيات خيرية تجعل هـدفها استصلاح الأراضي، باستخدام " العفو " من الجهد البدني، و " العفو " من المال العيني، والنقدي؛ وإذا تمت عمليات الاستصلاح، [ ص: 147 ] قامت بتمليك هـذه الأراضي، لمن هـم في حاجة إليها، لتقوم عليها حياتهم، ويحصلون منها أرزاقهم. ذلك أن إحياء موات الأرض، لا يدفع إليه حب التملك فقط، وإنما يدفع إليه أيضا حب ثواب الآخرة، فلم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( من أحيا أرضا ميتة فهي له ) [3] ، وإنما قال أيضا: ( من أحيا أرضا ميتة فله أجر ) [4] .. ففوق الجزاء الدنيوي المتمثل في ملكية الأرض، والذي قرره الحديث الأول، هـناك الثواب الأخروي، الذي وعد به، من يحيي الأرض، في الحديث الثاني. ومن هـذا المنطلق فإن قيام جمعيات تستصلح الأرض، وتقدمها هـبة لمن يحتاجون إليها، ليس غريبا عن هـدي الإسلام.

وإن الذي ينطبق على الميدان الزراعي، لينطبق أيضا على الميدان الصناعي، والميدان التجاري، حيث يمكن إقامة جمعيات، تتولى بناء المصانع، والمتاجر، والمساكن، باستخدام " العفو " المالي، والعيني، والبدني، في هـذا السبيل، ثم تقدم ما أنشأت إلى من يقوم عليه، ويضيف إليه، ويسهم به، في تقدم المجتمع، وسد احتياجاته. وسواء أقدمته مجانا، أم قدمته بسعر رمزي، م قدمته بثمن مقسط، يدفع من عائدات المشروع، ولتستعين بما تحصل عليه، على بناء المزيد من هـذه المشروعات.

ولو تجاوزنا الميدان الإنتاجي، إلى الميادين الفكرية، والتربوية والاجتماعية، لرأينا لهذه الجمعيات دورا أكثر ظهورا من دورها السابق، إنها تستطيع هـنا، أن تقوم بدور الريادة والقيادة، حيث يكمن [ ص: 148 ] " العفو " في هـذه الميادين، لدى قادة الفكر في المجتمع، فإذا تجمعت إمكانياتهم في تجمع معين، مكن لهذا التجمع، أن يكون ذا أثر واضح في قيادة المجتمع على مختلف المستويات.

إن كل فئة من هـؤلاء القادة، يمكنها أن تنضوي تحت لواء رابطة علمية، من خلالها تنفق العفو من جهودها البشرية، في تحقيق مصالح المجتمع، وهذه الروابط، يمكنها أن تقوم بالكثير في حل المشكلات العلمية والعملية، التنظيمية، والإدارية، والاجتماعية التي تواجه المجتمع، إنها تستطيع أن تقدم الرأي العلمي السديد للجهات الحكومية، والجهات الشعبية المختلفة، كما يمكنها أن تؤدي دور بيوت الخبرة في الأنشطة المختلفة، التي تدخل في نطاق تخصص أعضائها، وهي من قبل ذلك كله تعمل على لارتقاء بالمعارف، والعلوم، والفنون، التي تمثلها، وينعكس ذلك كله على المجتمع، تقدما ماديا، ونهضة علمية، ورقيا اجتماعيا وحياة طيبة.

إننا نرى في فكرة الجمعيات الخيرية، في شتى مجالات البناء المادي والمعنوي، ولمنطلقة من فكرة إنفاق العفو في سبيل الله، ومصلحة المجتمع، ما هـو كفيل ببعث نهضة شاملة في المجتمع، وإعطائها مددا لا ينضب، وعزيمة لا تفتر، حتى يصل المجتمع إلى ذرى التقدم المادي والروحي، اللذين هـما جماع مواصفات مجتمع المتقين. [ ص: 149 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية