الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
4 - لجان حقوق الإنسان

في هـذا البند، نتناول " مؤسسة " ، تستخدم " العفو " من الجهد البشري، في أداء نوع خاص من متطلبات الحياة الإنسانية، هـذا النوع من المتطلبات، يتمثل في تمتع الإنسان بالكرامة، التي جعلها الله تعالى لصيقة بنوعه، ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) [الإسراء:70].

( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) [التين:4]. فالإنسان الذي كرمه الله تعالى، وأسجد لأصله ملائكته، وجعل حرمته عنده، فوق حرمة بيته الحرام، يجب أن يحيا في ظل هـذا التكريم، وأن يشعر به، في ممارسة شئونه المختلفة، فلا يهضم له حق، [ ص: 139 ] ولا يهتك له ستر، ولا تخفر له ذمة، ولا يسلب له مال، ولا تقيد له حرية إلا بحق.

وإذا كان المسلم بطبعه مدافعا عن حقوق الإنسان، ومكلفا بصفة فردية بذلك، ولو ترتب على دفاعه هـذا استشهاده، على يد مغتالي حقوق الإنسان، إلا أن العمل الجماعي، هـو الذي يؤتي ثمارا، ويحقق إنجازا، ويصون الحقوق. إذ فيه تكون محبة الله الخاصة، فضلا عن المعية العامة، ( يد الله مع الجماعة ) ، ولذلك فإن تكوين هـيئات أو لجان أو جماعات، تنفق الفضل من جهدها، في السعي لتمتع كل فرد في المجتمع بحقوقه، التي كفلها له الإسلام، يعتبر ميدانا من أهم الميادين، التي يمارس فيها تطبيق فكرة " إنفاق العفو " في سبيل الله، وصالح المجتمع.

إن العمل على تحقيق ذلك، من خلال لجان، أو هـيئات، ليس غريبا على الممارسة الإسلامية، فلقد كان حلف الفضول الذي ألمحنا إليه، في بند سابق نوعا من هـذه اللجان والتجمعات، بل إن الأمر بنصرة الأخ ظالما أو مظلوما [1] ، يحتاج في تطبيقه، والقيام به، إلى وجود مثل هـذه المؤسسات، أو الهيئات غالبا.

وعندما كلف الإسلام المسلمين، بالقيام بذلك، فإن مشقات هـذا التكليف، كانت واضحة، لذلك جعل المشقات التي تلقاها هـذه الهيئات [ ص: 140 ] ضربا من الجهاد في سبيل الله، بل هـي أفضل الجهاد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) [2] ، ( وسئل صلوات الله وسلامه عليه: أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر ) [3] . وهذا هـو لب رسالة منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، إنها التصدي لأهل الجور، ورفع ظلمهم وجورهم، عمن ينزل به. إن جعل هـذه الرسالة جهادا، بل أفضل أنواع الجهاد، حث قوي على الدفاع عن حقوق الإنسان، والانضمام إلى المنظمات العامة في ميدان المحافظة عليها، فهم إن ماتوا في هـذا السبيل، فهم أفضل الشهداء، وإن عاشوا فهم خيار الناس. يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( هـلا مع صاحب الحق كنتم؟ أولئك هـم خيار الناس، إنه لا قدست أمة، لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع ) [4] . فقوله صلوات الله وسلامه عليه: ( هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ) ، حث للناس على القيام مع صاحب الحق، وإشارة إلى أن القائمين بذلك، هـم خيار الناس، ( أولئك هـم خيار الناس ) .

إن الإسلام إذ يكلف الناس بالسمع والطاعة لولي الأمر، ما استقام [ ص: 141 ] على منهج الله تعالى، يكلفهم في الوقت نفسه، أن يقيموه على منهج الله تعالى، إذا انحرف عنه. " يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموني. " . ولن نتمكن من تحقيق هـذه المهمة فرادى، فلا بد من التجمع في شكل قادر على ذلك، وهنا تظهر أهمية الأحزاب السياسية - التي ناقشناها من قبل كما تظهر أهمية لجان حقوق الإنسان، التي نحن بصددها الآن.. فالأحزاب، وهذه اللجان، كلاهما يمثل جانبا من سلوك الأمة وهي تقوم بما فرض عليها من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

هذا وإن توجيه " العفو " من الجهد البشري، إلى هـذا المجال، ليس بعيدا عن الإسلام في تحقيق التنمية الاقتصادية، ذلك أنه لن ينهض بالتنمية الاقتصادية، ويحقق شروط القيام بها، مجتمع تغتال فيه حقوق الإنسان، التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وجعلها عنوان تكريمه. لن ينهض بالتنمية الاقتصادية، ويحقق مقوماتها قط، مجتمع تداس فيه كرامة الإنسان، وتوضع القيود على حريته، التي منحها الله تعالى له.

والقول النبوي الكريم السابق: ( إنه لا قدست أمة، لا يأخذ فيها الضعيف حقه غير متعتع ) ، يشير بوضوح إلى هـذه العلاقة بين كرامة الإنسان، واستحقاق الأمة لعون الله تعالى، في تحقيق الحياة الطيبة. إن حق الضعيف هـنا ليس حقا من نوع خاص، وإنما هـو حق على وجه العموم، وفي كل ميدان، وكل مجال، إنه حقه في الحياة الكريمة، وحقه في العدالة، وحقه في ممارسة حقوقه السياسية، وتوجيه أمور الجماعة، وحقه في إبداء الرأي، وحقه في الحصول على العمل، الذي يتناسب مع قدراته، دون أن يتقدم عليه من هـو دونه قدرة وكفاءة، [ ص: 142 ] وحقه في التنقل حيث يشاء، دون أن يضيق عليه، وحقه في امتلاك ما أباح الإسلام تملكه، وحقه في العيش وفق عقيدته التي يؤمن بها، إن كان في ذمة المسلمين، إلى غير ذلك من الحقوق، التي جاءت بها الشريعة، وكفلها الإسلام للإنسان.

إن دائرة حقوق الإنسان في ظل الإسلام، أوسع بكثير من الدائرة الضيقة، التي تهتم بها لجان حقوق الإنسان في المجتمعات المعاصرة. إن عدم تقديس الأمة التي لا ينال فيها الإنسان - والضعيف قبل القوي - هـذه الحقوق، يعني عدم كرامتها على الله تعالى، وعدم استحقاقها عونه سبحانه، ومن ثم فلن تتمكن من تحقيق الحياة الطيبة على أرضه، وهذا ملحوظ في الحديث النبوي السابق، فهو ملحظ إسلامي، فوق أنه مما يهدي إليه العقل السليم، ويرشد إلى وجوده الواقع العملي المشاهد.

ومن هـنا فإننا نرى أن توجيه " العفو " من الجهود البشرية، إلى حماية الحقوق الإنسانية في المجتمع، مقدم على توجيهها إلى أي مجال آخر، من مجالات فروض الكفاية، التي أمر الله تعالى بإنفاق " العفو " في القيام بها.

التالي السابق


الخدمات العلمية