الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

إنفاق العفو في الإسلام بين النظرية والتطبيق

الدكتور / يوسف إبراهيم يوسف

ثالثا: المؤسسات الاجتماعية وتوجيه " العفو "

تتعدد المؤسسات الاجتماعية، التي يمكنها أن تقوم بدور فعال في توجيه " العفو " ، من الجهود البشرية، إلى حيث تتحقق به مصالح المجتمع، وقد تتكون هـذه المؤسسات من أجل تحقيق هـذا الهدف، كما قد تكون ذات أهداف أخرى، تكونت من أجلها، وتتخذ من تجميع العفو، وتوجيهه، أداة لتحقيق أهدافها. [ ص: 117 ]

قد تكون هـذه المؤسسات، مؤسسات تضم الممتهنين لمهنة، أو المحترفين حرفة، مثل نقابات العمال النوعية والعامة، ونقابات المهن المختلفة، كنقابة الأطباء، أو المهندسين، أو التجاريين أو المعلمين.. إلخ، ويلحق بها نوادي هـيئات التدريس، والاتحادات الطلابية، وقد تكون مؤسسات تضم الراغبين في العمل الاجتماعي، في ميدان من الميادين، مثل جمعيات الحفاظ على البيئة، وجمعيات رعاية الطفولة، أو رعاية المسنين أو المعاقين، وجمعيات نشر القيم الصحيحة، ومحاربة القيم الفاسدة.. وقد تكون مؤسسات تهدف إلى الدفاع عن حقوق الإنسان، التي كفلتها له الشريعة، ضد من يجورون على هـذه الحقوق، مثل لجان حقوق الإنسان، وقد تكون مؤسسات، تهدف إلى تمكين الإنسان من المشاركة المنظمة، في توجيه سياسة المجتمع وإدارة شئونه، مثل الأحزاب السياسية، إلى غير ذلك من التجمعات والمنظمات، التي يصعب حصرها، وتعج بها المجتمعات، والمفروض أنها قد قامت كلها، لتحقيق الصالح العالم.

هذه التجمعات، تستطيع أن تقوم بدور كبير، في تجميع " العفو " من الجهود البشرية خاصة، وهي المكمن الأول للعفو، كما بينا ذلك من قبل، وإن كنا قد رأينا، أن البنوك الإسلامية، كمؤسسات ذات دور هـام، في تجميع " العفو " المالي، فإن المؤسسات الاجتماعية هـذه، ذات دور هـام في ميدان تجميع وتوجيه العفو من الجهود البشرية.

إن الأعمال الخاصة في غالب الأحيان، لا تستنفد كل طاقة أصحابها، وإنما يبقى لدى الكثيرين منهم جهد فائض، يحبون أن ينفقوه، حيث أمرهم الله سبحانه، في تحقيق مصالح المجتمع، وهنا [ ص: 118 ] تنهض هـذه المؤسسات الاجتماعية، لتجميع هـذه الفوائض، من الجهود البشرية، فتضم القليل منها، إلى القليل، ليصبح الجمع كثيرا، يؤدي دورا مؤثرا في حياة المجتمع، وحل مشكلاته، ورفع مستواه الفكري، والاجتماعي، والمعيشي.

ولقد قلنا: إن كثيرا من هـذه المؤسسات، يقوم من أجل الوفاء بأهداف معينة، غير تجميع الفائض من الجهود البشرية، كهدف في حد ذاته، لكنها تستخدمه أداة في تحقيق أهدافها الخاصة. وأكثر ما يبعث الحياة في أوصال هـذه التنظيمات، ويجعلها فاعلة ومؤثرة، أن يشعر أعضاؤها، أنهم يؤدون واجبا، ويقومون بتكليف عليهم، يعطيهم القيام به حجتهم، يوم يسألون عن فائض الجهد والطاقة لديهم، فيم أنفقوه؟ كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه عند ما قال: ( لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ) [1] ؟

إن الأسئلة الثلاثة الأولى، من هـذه الأسئلة، تتعلق بالجهود البشرية، التي يملكها الإنسان، وسيسأل يوم القيامة عن تصرفه فيها، فهل أنفقها فيما ينبغي أن تنفق فيه، أم بددها وضيعها؟

إن ممارسة العمل في هـذه المنظمات، بهذا الشعور، يضفي على عمل الأعضاء فيها طابع الجدية، والحرص على تحقيق النفع، وبلوغ الأهداف.. إنه يكسوه بالإخلاص، ويجرده من المظهرية والرياء، [ ص: 119 ] الذين يحبطان الأعمال في الدنيا والآخرة. ويختلف الحال كثيرا، عند ما يرى الأعضاء، أن عملهم في هـذه المؤسسات نافلة من النوافل، أو أنه مجرد وسيلة لقطع الوقت، أو التمتع بصحبة الأقران، إن أثمر شيئا فبها ونعمت، وإلا فقد استهلكوا الوقت الفائض لديهم.

ومن هـنا فإننا نرى، أن انطلاق أعضاء المؤسسات والمنظمات، التي تملأ ساحة المجتمع - وتضم معظم الطاقات، وأعلى الكفاءات - من فكرة التكليف بإنفاق " العفو " من جهدهم، ووقتهم، فيما يعود على الأمة بالنفع، يجعلها ذات دور هـام في حياة المجتمع. ذلك أن الفكرة الأخرى، أو الثانية، التي ستسيطر على عمل هـذه المنظمات، في ظل الانطلاق، من فكرة القيام بتكليف الله تعالى، بإنفاق " العفو " ، هـي فكرة الوفاء بفروض الكفاية ، التي يجب على المسلمين القيام بها، فستجد هـذه المنظمات في فكرة فروض الكفاية ، الميدان الرحب، لتنطلق، وتسعى في الوفاء بحاجات المجتمع، والقيام بكل ما تستطيع من أنشطة، تقع في المدى، الذي يمتلك فيه أعضاء كل منظمة الخبرة والقدرة.

إن الكثير من حاجات المجتمع، يمكن الوفاء بها عن طريق المنظمات، التي تستخدم العفو من جهد أعضائها، الأمر الذي يرفع كثيرا من الأعباء، الملقاة على عاتق المؤسسات الحكومية اليوم، والتي تعجز غالبا عن الوفاء بها، على الوجه الأكمل.

إن عددا لا يسهل حصره، من فروض الكفاية، يمكن لهذه المنظمات أن تؤديه بكفاءة، باستغلال " العفو " من الجهد البشري، مثل المحافظة على البيئة، وتنظيف الأفنية، وتشجير المدن، والتي يمكن أن تقوم بها [ ص: 120 ] منظمات المحافظة على البيئة.. ومثل قوافل العلاج الطبي، والتوعية الصحية، وابتكار أساليب جديدة للتعامل مع المشكلات الصحية، والتي يمكن أن تقوم بها نقابات الأطباء.. ومثل تزويد المستشفيات بالأقسام الجديدة، وتوفير أنواع من العلاج غير موجودة، وشراء الأجهزة الطبية المتقدمة، التي ترفع من كفاءة التشخيص والعلاج، وإقامة مستشفيات جديدة، في المناطق التي تحتاج إليها، وإقامة دور التعليم المختلفة، والتي يمكن لعدد كبير من المنظمات، أن تشرف على القيام بها، والتعاون مع غيرها من الجهات، التي تملك " العفو " المالي، الذي سيعضد " العفو " ، من الجهد البشري، الذي تملكه المنظمات، محل الحديث.

ومثل اكتشاف وسائل الوقاية من الإدمان، وأنواع الانحراف المختلفة، التي يمكن أن تقوم بها جمعيات المحافظة على القيم الصحيحة، ومحاربة القيم الفاسدة، ومثل كفالة الأيتام، ورعاية المسنين، ومساعدة المرضى، وحماية الطفولة، من كل معوقات النمو النفسي، والجسمي، والعقلي، والتي يمكن أن تؤدى من خلال الكثير من المنظمات ذات الخبرات الطبية، والاجتماعية، والنفسية، والروحية.. ومثل محو الأمية ومحاربة البطالة، ونشر التربية السياسية الصحيحة، والتي يمكن أن تقوم بها، أو تسهم فيها، الأحزاب السياسية.. ومثل نشر الصناعات الصغيرة، واختيار ما يتناسب منها مع كل بيئة محلية، واقتراح سياسات تكفل إزالة المعوقات، من أمام النشاط الاقتصادي، الفردي، والعام، والتي تقوم بها هـيئات كثيرة، من بينها الأحزاب السياسية، والاتحادات العمالية، ومنظمات رجال الأعمال.. [ ص: 121 ] ومثل مساعدة المستهلك على الحصول على السلع، والخدمات، بمواصفات جودة مناسبة، والتي تمكنه من ترشيد استهلاكه، بحصوله على العائد المناسب، لما يقدم من أثمان، وتقوم بها مؤسسات يكونها المستهلكون، لمجموعات معينة من السلع، مثل السلع الغذائية، أو السلع الهندسية، أو السلع الدوائية، أو الخدمات الثقافية والترفيهية، بحيث تتمكن هـذه المنظمات، من القضاء على أساليب الغش والخداع، التي قد يلجأ إليها منتجو هـذه السلع، وتلك الخدمات.. إلى غير ذلك من المجالات، التي تكون فروض الكفاية ، ويجب على بعض المسلمين، أن يقوموا بها، وإلا أثموا جميعا. وقيام هـذه المنظمات باستخدام العفو من جهود أعضائها في الوفاء بفروض الكفاية ، يرفع عن الجميع - من شارك، ومن لم يشارك - إثم التقصير، ويثبت لمن قام بالعمل فضل القيام به وثوابه، والذي هـو أفضل عند الله تعالى،، وأكثر مثوبة من القيام بفرض العين، ذلك الذي يعود النفع من أدائه على شخص القائم به.

هذا وإن الاستقصاء في هـذا المجال، يخرج من حدود هـذا البحث، ولهذا، فإننا سنكتفي بالحديث عن بعض هـذه المؤسسات، التي يمكن أن تقوم بدور فاعل في توجيه " العفو " ، من الجهود البشرية، نحو تحقيق مصالح المجتمع، والإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية، بمفهومها الإسلامي، الذي يعني عمارة الأرض، وإقامة مجتمع المتقين، وقد اقترحنا منها:

1- النقابات المهنية.

2- الاتحادات الطلابية. [ ص: 122 ]

3- الأحزاب السياسية.

4- لجان حقوق الإنسان.

5- الجمعيات الخيرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية