المطلب الثالث
مفهوم إنفاق " العفو " في الإسلام
حددنا في المطلب السابق مفهوم " العفو " .. و " العفو " كما يقول الطاهر بن عاشور : " قد جعله الله تعالى كله محلا للإنفاق، ترغيبا في الإنفاق " [1] ومهمة هـذا المطلب - بتوفيق الله تعالى - هـي تحديد مفهوم الإنفاق الوارد على هـذا " العفو " ، فما الذي يقصد به في الفكر الإسلامي؟ أيقصد به التخلي عن ملكية المال بإنفاقه على غيره، وتمليكه له؟ أم يتحقق إنفاق العفو في سبيل الله باستخدام المال في تحقيق مصالح المسلمين، دون أن يتطلب ذلك التخلي عن ملكيته؟.
لا شك في أن إنفاق " العفو " على الغير بتمليكه له، إنفاق للعفو في سبيل الله، ما دام يقصد بذلك وجه الله تعالى، ولا يختلف على ذلك، بل إن جوهر التمويل بالعفو، إنما يقوم على هـذه الصورة من صور الإنفاق، بيد أننا نعلم أن التكليف بإنفاق " العفو " ، جاء مرنا إلى حد كبير، وجاء مطلقا بدون قيود، فلم يكن تكليفا بنسبة محددة، كما هـو الحال في التكليف بالزكاة، وإنما جعل الله تعالى العفو كله محلا للإنفاق [2] . ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) [ ص: 53 ] [البقرة:219]، أي قل: أنفقوا العفو..
ومن هـنا فإن إنفاق العفو، يتحقق بأكثر من صورة، وقصره على صورة دون أخرى تقييد للمطلق بغير دليل، وأول الصور التي يتحقق بها إنفاق " العفو " ، ما يتمثل في تقديم " العفو " ، والتخلي عن ملكيته، بتمليكه لمن أنفق عليه [3] ، دون أن يقتصر عليها، بل إطلاق الأمر، ومرونة التكليف، تتسع لغيرها من الصور.
ومن هـنا فإن إنفاق " العفو " في تحقيق مصالح المسلمين، دون التخلي عن ملكيته، يمثل صورة من صور إنفاق " العفو " ، قد تكون أقل تضحية بدرجة كبيرة، لكنها لا تخرج عن الإطار العام لإنفاق " العفو " ، الذي يتمثل في الاستجابة لأمر الله تعالى الوارد في قوله: " قل العفو " ، أي أنفقوا العفو. وصور إنفاق " العفو " المختلفة، تمثل ميدانا للتنافس بين من لديهم " العفو " ، وكلما طابت نفس المرء، وتفاعلت مع الهدى الذي أتاها من ربها، كلما تمكنت من اقتحام العقبة، واختيار صورة من صور إنفاق العفو في سبيل الله، تكون أبلغ في الدلالة على الاستجابة لأمر الله تعالى.
ومن هـنا يمكننا القول: إن استخدام " العفو " في تحقيق مصالح المسلمين، مع الاحتفاظ بملكيته، يمثل الحد الأدنى لإنفاق " العفو " في سبيل الله تعالى. فبناء المشروعات الاستثمارية التي تحقق مصالح من يبنيها، [ ص: 54 ] وتحقق في نفس الوقت مصلحة المجتمع الإسلامي، يمثل صورة من صور إنفاق " العفو " في سبيل الله تعالى.. وعدم إنفاق " العفو " في هـذه الصورة، يعني تعطيل المال والجهد، وإضاعتهما، وفاعل ذلك يقع تحت طائلة النهي عن إضاعة المال، وتبديد الجهد. وتتدرج صور إنفاق " العفو " صعودا بعد هـذه الصورة، التي تشتمل على تحقيق مصلحة صاحب العفو بتنمية ثروته، وزيادة دخله، وتحقق مصلحة المجتمع بإيجاد فرص للعمل، وسلع للاستهلاك، حيث تليها صورة كثيرا ما استخدمها المسلمون، ودعا إليها النبي - صلوات الله وسلامه عليه - وتتمثل في إنشاء مشروع، يزيد من حجم ثروة صاحب " العفو " ، لكن دخله وعوائده تكون للمجتمع، مثل من يبني دورا يملكها، ويزيد بها حجم ثروته، لكنه يخصصها لسكنى الفقراء، وأبناء السبيل مثلا، وينتفع بها إذا احتاج إليها، وهي " المنيحة " التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى تقديم الناقة، أو البقرة، أو العنزة، إلى من يستفيد بما تدره، ثم يستعيدها إذا احتاج إليها، أو عند انتهاء المدة المقدرة، ( ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس، إن أجرها لعظيم ) [4] فهذه صورة أعلى من الصورة السابقة، وتعلوها الصورة الأسبق، والتي تتمثل - كما قلنا-: في التخلي عن ملكية " العفو " ، لصالح المسلمين أفرادا أو جماعة.
ومعنى ما سبق: أن " العفو " قد ينفق ابتغاء الثواب الأخروي فقط، كما قد ينفق ابتغاء النفع في الدنيا مع الثواب في الآخرة أيضا.. فالحالة الأولى عندما ينفق مالك " العفو " العفو مع التخلي عن ملكيته، [ ص: 55 ]
والحالة الثانية عندما ينفق " العفو " على ما ينفعه وينفع المسلمين، كمشروع استثماري يدر عليه دخلا، ويقدم للمسلمين نفعا. ومفهوم إنفاق العفو من المرونة بحيث يشمل عمليتي الإنفاق.
فإذا أخذنا في الاعتبار أن " العفو " الذي ينفق على هـذين النوعين، لا يظهر إلا بعد الإنفاق على حاجات الشخص ومن تلزمه نفقته، ظهر لنا أن الإنفاق في ظل الفكر الإسلامي، ينقسم إلى: إنفاق استهلاكي، وإنفاق استثماري، وإنفاق اجتماعي.. وأن الإنفاق الاستهلاكي، يسبق النوعين الآخرين، فهما من " العفو " ، والعفو لا يظهر إلا بعد الإنفاق الاستهلاكي، وإذا ظهر " العفو " ، فإن الإسلام يقضي بتوزيعه بين الإنفاق الاجتماعي والإنفاق الاستثماري.. ونعني بالإنفاق الاجتماعي: إسهام المسلم في الإنفاق على مصالح المجتمع.. ونعني بالإنفاق الاستثماري: الإنفاق على تكوين رأس المال، وزيادة قدرة الشخص على توليد الدخل.. وفي ترتيب هـذين النوعين من الإنفاق، فإن الفكر الإسلامي يقرر البدء بالإنفاق الاجتماعي، في حدود حد أدنى هـو الزكاة المفروضة، فهي نوع من الإنفاق الاجتماعي، يجب القيام به، قبل أي إنفاق استثماري، إذا بلغ " العفو " نصابا أو تجاوزه، فإن كان " العفو " دون النصاب، لم يجب فيه إنفاق اجتماعي إجباري، وكان وضعه وضع الباقي من " العفو " بعد أداء الزكاة. وهذا القدر من العفو، يعطي الإسلام الفرد حرية المفاضلة، بين توجيه إلى الإنفاق الاجتماعي، وتوجيهه نحو الإنفاق الاستثماري، الذي يحقق مصالح المجتمع.
ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هـذا التقسيم الثلاثي للإنفاق، فيما رواه [ ص: 56 ] الإمام مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بينا رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: إسق حديقة فلان. فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج، قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته، يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هـذا ماؤه: إسق حديقة فلان لا سمك، فماذا تصنع فيها؟ فقال: أما إذا قلت هـذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه ) [5] .. فهذا توجيه من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطريقة المرضي عنها في الإنفاق، بتوزيعه بين الأنواع الثلاثة، ومعلوم أن الإسلام يوجب البدء بالإنفاق الاستهلاكي على النفس ومن تلزم نفقته، فإذا وجد " عفو " بعد ذلك، أخرجت الزكاة بشروطها، وما بقي فوقها، فإن المسلم يفاضل في إنفاقه بين الإنفاق الاجتماعي والإنفاق الاستثماري، وهي مفاضلة تحكمها الظروف التي يجد نفسه محاطا بها، فقد يفضل نوعا من الإنفاق الاجتماعي على نوع من الإنفاق الاستثماري، وقد يفعل العكس.. وقد يوزع " العفو " الذي لديه بين نوعي الإنفاق بنسبة معينة في سنة من السنين، وبنسبة أخرى في سنة أخرى، وقد يوجد في ظروف تجعله يخصص كل " العفو " للإنفاق الاجتماعي، وقد يوجد في ظروف أخرى تجعله يخصص كل " العفو " للإنفاق الاستثماري [ ص: 57 ] وهكذا يتنافس النوعان على " العفو " ، وأفضلية أحدهما على الآخر متوقفة على أثر هـذا الإنفاق على تحقيق مصالح المسلمين.
غير أن مفهوم إنفاق " العفو " ، لا يكتمل تحديده بغير الوقوف على نوع التكليف، الذي يقع على عاتق مالك " العفو " ، فقد علمنا أن الأمر القرآني في قوله تعالى: " قل العفو " يفيد تكليف المسلم بإنفاق " العفو " ، حتى إن الفخر الرازي يقول: " سألوا عن مقدار ما كلفوا به: هـل هـو كل المال أو بعضه، فأعلمهم الله أن العفو مقبول " [6] . فما نوع هـذا التكليف؟ أفرض عين هـو، أم فرض كفاية ؟ وبعبارة أخرى: هـل إنفاق " العفو " فرض عين ، بحيث يجب على كل من لديه قدر منه، أن ينفقه بصورة من الصور السابق الإشارة إليها؟ وإذا لم يقم بذلك كان آثما، لأنه نكل عن القيام بما يجب عليه أن يقوم به شخصيا؟ أم أن إنفاق " العفو " فرض كفاية، فيكون المفروض على المسلمين أن يوجهوا قدرا من " العفو " يكفي لتحقيق مصالح المسلمين، وإذا قام بذلك البعض سقط التكليف عن الباقين، وأصبح تكليفهم رهنا بظهور حاجة كفائية جديدة؟ ويعني القول بفرض الكفاية هـنا: إنه يجب على كل فرد أن يترصد بالعفو من ماله أو جهده فرص التوظيف والتشغيل، وفرص سد حاجات الناس، فإن وجد حاجة، قام بسدها، وإن سبقه غيره إلى الوفاء بها، حق له أن يبقي " العفو " الذي لديه غير مستخدم، ولا يكون بذلك آثما.
والذي يظهر لي: أن الافتراض الثاني هـو الصحيح، إذ من المحتمل [ ص: 58 ] أن تفيض الإمكانيات عن الحاجات، ولو تسابق الناس إلى القيام بفروض الكفاية ، فسيقوم بها السابقون إليها، ولا معنى لتكرار القيام بها، ما دام في جهد من سبق الكفاية والغناء، وعندها يكون من حق من نوى القيام بالتكليف وسعى إليه، أن يحتفظ بإمكانياته، وأن يترقب سنوح فرصة أخرى في المجال نفسه أو في غيره، كي يسبق غيره إلى القيام بفرض كفاية آخر، يحقق به مصلحة للمسلمين، وهو في الحالين قد قام بالتكليف، ذلك أن في قيام من سبق قيام من الجميع، فقد كان الكل حريصين على القيام بما قام به من سبقو ( إنما الأعمال بالنيات ) [7] .
ومعنى هـذا: أن " العفو " عند كل فرد، متربص للفرص التي تسمح بولوج ميدان إنفاقي - اجتماعي، أو استثماري - بل ويتنافس مع " العفو " عند الآخرين، ليفوز بسد حاجة من حاجات المجتمع، لينال ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ويترتب على ذلك أن المجتمع يجد دائما من أفراده من يقوم بسد حاجاته، فإذا وجد جائع، تسابق الناس إلى إطعامه، وإذا وجد عار، تسابق الناس إلى كسوته، وإذا وجد مريض، تسابق أصحاب " العفو " إلى علاجه، وإذا وجدت حاجة إلى مشروع زراعي، أو صناعي، أو خدمي، تسابق أصحاب العفو إلى بنائه، وإذا وجدت حاجة إلى نوعية معينة من المهارات، تسابق أصحاب " العفو " إلى الإنفاق على توفيرها، وهكذا يضع كل صاحب " عفو " نصب عينيه أنه على ثغرة من الإسلام فلا يؤتين من قبله. ويصبح " العفو " مصدر تمويل التنمية الاقتصادية ، كلما احتاج المجتمع إنفاقا على ما يسهم في تحقيقها وجد من أصحاب العفو من يقوم به، متخليا عن ملكيته، [ ص: 59 ] أو محتفظا بها، تبعا لطبيعة الإنفاق الذي وجه " العفو " إليه.
وبهذا ينجلي أمام أعيننا مفهوم إنفاق " العفو " فهو تكليف يعم كل صاحب " عفو " من المسلمين، وقد يتمثل في الإنفاق على المصالح الاجتماعية، كما يتمثل في الإنفاق الاستثماري الذي يقوم به الفرد، ويحقق مصالح الجماعة، وإن الظروف التي تحيط بصاحب " العفو " هـي التي تحدد أي صور إنفاق " العفو " يفضل. [ ص: 60 ]