المجال الأول: العفو من الجهد البشري
دلت الأحاديث التي مرت بنا في التمهيد السابق، أن المسلم مكلف بأن يبذل من فائض جهده، ومنافع بدنه، في إعانة إخوانه، وإصلاح مجتمعه، كما يجب عليه أن يبذل في هـذا السبيل جانبا من فائض ماله سواء بسواء، وهذا منطوق هـذه النصوص، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الأعمال الخاصة التي يمارسها الناس في حياتهم لا تستغرق - في الغالب - أوقاتهم، ولا تستنفد كل طاقاتهم، وإنما يبقى بعد أدائها الكثير من الوقت والطاقة، وأن المسلم مسئول عن وقته وطاقته، وفقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه ) [1] [ ص: 71 ] إذا جمعنا ذلك بعضه إلى بعض، تبين لنا أن الطاقات الفائضة من جهد الإنسان، مطلوب استخدامها، وغير مباح تعطيلها أو تبديدها، ولا يعفي مالكها من مسئوليته، قيامه بعمله الخاص على أكمل وجه، طالما أنه يملك الطاقة والجهد الفائضين عن أداء الأعمال الخاصة، وهو مكلف بالبحث عن ميدان نافع ينفق فيه جهده ووقته. هـذا الميدان قد يكون إعانة مادية للناس: ( تعين صانعا أو تصنع لأخرق ) [2] ، ( تعين الرجل في دابته ) [3] .
وقد يتمثل في تيسير الحياة العامة للناس؛ ( تميط الأذى عن الطريق صدقة ) [4] ، ( عزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس ) [5] .
وقد يتمثل في السعي مع إخوانه في قضاء حوائجهم، أو انخراطا في جماعة، ترعى شئون فئات خاصة من الناس: ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) [6] ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) [7] ، [ ص: 72 ] ( من خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا ) [8] ، ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) [9] .
وقد يكون هـذا الميدان دفاعا عن حقوق الإنسان، إذا افتات عليها الظالمون، بالسعي في رفع الظلم والدفاع عن المظلومين: ( أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر ) [10] .
وقد يكون هـذا الميدان تذكيرا بالله تعالى، ودعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، تبصيرا للناس، وإرشادا لهم إلى ما يصلح آخرتهم ودنياهم، وقد يكون سعيا لإثراء حياة الناس بقيم الحب والود والأخوة، وإصلاح ذات البين، وإطفاء ما يثور من نزاع بين الأفراد والجماعات: ( تعدل بين الإثنين صدقة ) [11] ، أي تصلح بينهما بالعدل.
وقد يكون ميدان إنفاق العفو من الجهد البشري، عملا اقتصاديا، يعود عليه بنفع مادي، كما يعود على المجتمع بسد حاجة من حاجاته، وفي الوقت نفسه، يعود على الشخص بالثواب الأخروي، فوق المصلحتين المذكورتين، ذلك أن الإسلام، يجعل كل عمل مباح، [ ص: 73 ] يمارس بنية صالحة، عبادة لها ثوابها في الآخرة، فوق مكاسبها المادية في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزأه أحد إلا كان له صدقة ) [12] ، ويقول: ( فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة ) [13] ، يقول: ( لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء، إلا كانت له صدقة ) [14] .
فإنتاج الطيبات في المجتمع الإسلامي هـدف، وكل طرق استخدامها بعد إنتاجها، تعود على منتجها بثواب، حتى ما يأكله منها هـو. وليس فوق ذلك حث على بذل الجهد في ممارسة الإنتاج، وتوجيه " العفو " من الجهد البشري إلى إثراء الحياة، بكل طيب من المنتجات.
وهكذا نرى ميادين إنفاق " العفو " من الجهد البشري، لا تقع تحت حصر، وإنما تكثر بقدر ما توجد وسائل وأساليب لنفع النفس والمجتمع، وهذا النوع من " العفو " ، يملكه كل صاحب مقدرة عضلية أو فكرية أو روحية، وحاجات المجتمع في حاجة إلى كل الطاقات، [ ص: 74 ] وإلى مداومة تشغيلها، وصيانتها وعدم تبديدها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما رؤى فارغا في أهله قط، إما يخصف نعله، أو يخيط ثوبه، أو ثوبا لمسكين . ( وسئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها - ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة ) [15] ، فهذه سيرته في أهله، أما حياته بين الناس، فقد كانت كلها تربية، وتعليما، وجهادا، وتشريعا، وعبادة لله تعالى في جميع الحالات. وهو - صلوات الله وسلامه عليه - الأسوة والقدوة لكل مسلم، قد علم المسلم أن لا ينسى - وهو في غمرة العطاء الدائم - لبدنه حقه في الراحة التي تجدد نشاطه، ولا ينسى لأهله حقهم في الرعاية والعناية، فهم أول ما يليه من المسلمين، ولا ينسى لزوره حقهم في الاهتمام بهم، فقد ( قال سلمان - رضي الله عنه - لأبي الدرداء - رضي الله عنه - وقد رآه قد شغل كل وقته بالطاعات: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر لك له، فقال: صدق سلمان ) [16] . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ قلت بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا ) [17] . [ ص: 75 ]
تلك بعض التكاليف التي يؤديها المسلم من فائض الطاقة البشرية لديه، ويمكنه أن يباشرها بصورة فردية، بيد أن معظمها يحتاج إلى تضافر الجهود، وجمع الطاقات بعضها إلى بعض، بغية توجيهها بما يكفل أكبر استفادة منها. ولما كان المسلم مطالبا بإتقان العقل، فإن الإتقان هـنا يتمثل في اللجوء إلى المنظمات التي تستطيع أن تجمع هـذه الطاقات بما يجعلها أكثر إنتاجية، ومن ثم فإن توجيه الطاقات البشرية الفائضة " العفو " ، يحتاج إلى إقامة تنظيمات شعبية، كل منظمة تتولى القيام بعمل من الأعمال التي تمثل فروض الكفاية في المجتمع الإسلامي، وينضوي تحت لوائها كل من يريد أن يعبد الله تعالى بالعمل الذي تتخصص فيه هـذه المنظمة، طبقا لإمكانياته وخبراته، ومن ثم نوع الفائض أو " العفو " من الجهد الإنساني، الذي يملكه. وعلى سبيل التمثيل فقط، يمن أن توجد: منظمة إعانة الصناع وتدريبهم، ورفع مستواهم الفني، وتوجيههم إلى المجالات التي تحتاج إليهم، ( تعين صانعا، أو تصنع لأخرق ) [18] .. ومنظمة للعناية بالطرق والإشراف على نظافتها، ومنع الاعتداء عليها، وحماية البيئة مما يلوثها، ( تميط الأذى عن الطريق صدقة ) [19] .. ومنظمة لحماية القيم ( أمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة ) [20] .. ومنظمة لرعاية أسر المجاهدين، [ ص: 76 ] ( من خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا ) [21] .. ومنظمة لرعاية اللاجئين والمشردين وإغاثتهم، ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) [22] .. ( والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ) [23] .. ومنظمة لرعاية الطفولة وكفالة الأيتام، ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هـكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما ) [24] .. ومنظمة لرعاية المرضى والمسنين والمعاقين، ( ابغوني في ضعفائكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم ) [25] .. ومنظمات للأبحاث العلمية في شتى المجالات، بحيث تقود البحث العلمي، وتقدم ثمراته ونتائجه إلى كل من يحتاج إليها، تطبيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ) [26] ، ويقول: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة ) [27] ويقول: ( من خرج في طلب [ ص: 77 ] العلم فهو في سبيل الله ) [28] .. ومنظمة للرفق بالحيوان والإحسان إليه ( قالوا يا رسول الله: إن لنا في البهائم أجرا، فقال: في كل كبد رطبة أجر ) [29] .. ومنظمات للدفاع عن حقوق الإنسان، وصيانة كرامته، وضمان تمتعه بالحقوق والحريات التي قررتها الشريعة لكل مسلم، فإن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ) [30] ، وعن أبي بكر الصديق رضوان الله تعالى عنه قال: ... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه ) [31] .. ومنظمات للإصلاح بين الناس، ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) [الحجرات:10]، ومنظمات للدعوة إلى الله تعالى: ( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) [يوسف:108]... إلى غير ذلك من المنظمات والهيئات التي يقيمها أفراد الأمة كي يتقنوا من خلالها أداء فروض الكفاية ، والتي إن لم تؤد، أثم كل قادر على القيام بها، وكل قادر على الدعوة إليها، والإسهام [ ص: 78 ] فيها، ما لم يبذل جهده في هـذا السبيل.
وسوف نناقش بمشيئة الله تعالى، دور بعض هـذه المنظمات في توجيه " العفو " من شتى الإمكانيات، وذلك في المطلب السادس الخاص بتوجيه " العفو " .