خاتمة
ناقشنا على مدى المطالب الستة السابقة، فكرة : " إنفاق العفو في الإسلام، بين النظرية والتطبيق " ، ونستطيع في نهاية هـذه الدراسة، أن نقرر : أن الفكر الإسلامي، يختزن في جعبته الكثير من الأفكار، القادرة على أن تمنح هـذه الأمة مقومات الصمود، واجتياز مختلف التحديات، التي تواجه مسيرتها، أيا كانت ميادين وطبيعة هـذه التحديات. وإن إيماننا بإمكانيات الفكر الإسلامي، ليس مصدره إيماننا بصلاحية الإسلام، لإصلاح كل عصر، وكل مكان، فحسب، وإنما مصدر هـذا الإيمان - فوق ما سبق - هـو الرؤية العقلية، والمشاهد العملية، لإمكانيات هـذا الفكر، والتي تجلى لنا جزء منها في دراستنا عن " العفو " ، وإمكانية اتخاذه مصدرا، تنطلق منه الأهداف، ومحورا تدور حوله السياسات، الكفيلة بجعل هـذه الأمة تحتل مكان الشهادة على الدنيا من جديد، وتؤدي دور الريادة للآخرين، مرة ثانية.
إن فكرة " إنفاق العفو " كما مرت بنا، تتلخص في تجنيد مختلف الطاقات، وتوجيهها إلى إشباع الحاجات، وفاء بفروض الكفاية ، وذلك من منطلق الرغبة لا الرهبة، ومن منطلق الشعور بالمسئولية، والقيام بالواجبات. إن جوهر الفكرة يقوم على شعور الفرد بمسئولية الوفاء بتكليف يراه، فيبدأ في إعداد العدة، واستنفار الطاقات، التي لم يكن ليشعر بامتلاكها، قبل شعوره بالتكليف الملقي عليه، وهذا هـو الذي تحتاجه مجتمعاتنا، حتى يتحول إنسانها إلى إنسان فاعل، يحس بدوره، ويرى هـدفه، ويسعى إليه. [ ص: 150 ]
لقد لاحظ " هـيرشمان " ، في معايشته لواقع العديد من البلاد المختلفة، أن هـناك " اعتمادا متبادلا، بين قرارات الاستثمار، وقرارات الادخار، إلى حد كبير، وفي الوقت نفسه، تتوقف الإضافات إلى المدخرات على فتح فرص الاستثمار، وعلى إزالة المعوقات المختلفة للنشاط الاستثماري، أكثر من توقفها على الدخل المتزايد " [1] إن مضاعفات الادخار القومي من الدخول القائمة أمر ممكن، إذا نحن تمكنا من إيجاد الرغبة في الادخار لدى المواطنين، فالذي يفتقده الكثير من الناس في بلادنا، ليس الدخل القابل للادخار، وإنما الرغبة في القيام بالادخار، والتي يدفعها أمران :
الإحساس بالتكليف بالادخار.
وجود الفرص المفتوحة للاستثمار.
وفي معظم بلادنا، يغيب الحافزان، فلا يشعر الناس بأن إنفاق " العفو " من إمكانياتهم واجب عليهم، ولا تفتح النظم القائمة الطريق إلى الاستثمار، وإنما توصده، أمام كل من يحاول ولوجه، بفعل الشروط البيروقراطية، التي وضعت أمام كل راغب في الاستثمار.
لقد وقفت على منافذ الاستثمار في بلادنا، جهات بيروقراطية، لا تسمح لأحد باجتياز هـذه المنافذ، إلا إذا خضع لشروطها المتعنتة، التي ظاهرها المحافظة على مصلحة المجتمع، وباطنها ضرب هـذه المصالح، وتحقيق مصالح الفئات، التي وقفت تدعي حراسة منافذ [ ص: 151 ] الاستثمار، من أن يلجها أحد، على غير الشروط والمواصفات التي وضعوها.
إن هـذه العقبات، هـي أهم ما يئد الرغبة في الادخار لأنها تئد فرص الاستثمار، التي تلوح أمام أصحاب الإمكانيات، فإذا وئدت الرغبة، لم يبق أمام صاحب الدخل، إلا إنفاقه على المبالغة في استهلاك، والوصول فيه إلى أنماط، ما كان يحب أن يصل إليها، لو وجد منفذا لبعض دخله، إلى ميدان من ميادين الاستثمار.
وإذا وئدت هـذه الرغبة، فقد وئدت معها الكفاءات الإدارية، والإمكانيات البشرية، وروح الخلق والابتكار.
فإذا أعدنا فكرة إنفاق " العفو " في مصالح المجتمع إلى مكانها الصحيح، تكليفا واجبا على كل إنسان، وأقرت السلطات القائمة ببلوغ الناس سن الرشد، وحقهم في أن يلجوا بإمكانياتهم كل المجالات، داخل ضوابط شرعية، يستخلصها القادة الاقتصاديون، بما يحقق مصالح الفرد والجماعة، فإننا نكون قد وضعنا أقدامنا على أول طريق الانطلاق، وبخاصة أن بلادنا تمتلك كل مقومات الانطلاق، فهي تملك الموارد المادية المعطلة، وتملك الموارد البشرية، لكنها مهدرة، كما تملك الفوائض المالية، لكنها كامنة أو مهاجرة.
إن بعث فكرة التكليف بإنفاق " العفو " ، كفيل بتغيير أوضاع هـذه الموارد، فهو كفيل بتشغيل المعطل من الموارد المادية، وكفيل بإنقاذ المهدر من الموارد البشرية، وكفيل بظهور الكامن من الفوائض المالية، وبعودة المهاجر منها، فهو لم يهاجر إلا في غيبة " الفكرة " عن أصحاب [ ص: 152 ] هذه الفوائض، وإذا استيقظت " الفكرة " في نفوسهم، فسيسارعون إلى رددها داخل بلادهم. وهذا الفعل، سيغني عن اللجوء إلى القروض الأجنبية، التي استمرأتها بعض بلدان العالم الإسلامي، حتى غدت عبئا تنوء اقتصادياتها بحمله ؛ وفي إمكان فكرة التكليف بإنفاق " العفو " في سبيل الله، أن ترفع هـذا العبء عن كواهل هـذه البلاد، كما في إمكانها أن تحول دون ظهور المديونية الخارجية من الأساس، والتي تتناقض وشرف الانتماء إلى الإسلام.
إن فكرة إنفاق " العفو " في سبيل الله ومصلحة المجتمع، تؤصل لدينا فكرة الاعتماد على النفس - كما هـي أوامر الإسلام - وتسلك كل مواطن في عداد المكلفين ببذل ما يستطيع من جهد البشري، أو من ماله في سبيل الله،فهي بذلك تجمع الناس على هـدف محدد، هـو العمل على تقدم المجتمع، وتحسين أوضاع المواطنين، ولن يتأخر تحقيق هـذا الهدف ما دام السعي من أجله، قد أصبح جزءا من حياة الناس اليومية.
إن تمحور حركة الناس حول فكرة إنفاق " العفو " في سبيل الله، كفيل ببعث تيار التنمية الاقتصادية، وإعطائه مددا لا يتوقف، حتى يصل المجتمع إلى أعلى درجات التقدم المادي والروحي، كما هـي مواصفات مجتمع المتقين.إن الذي ينقصنا اليوم، ليس إلا المنهج الفعال، والأساليب المبتكرة، القادرة على اقتحام المشاكل والتخلص منها، ونعتقد أن فكرة التكليف بإنفاق " العفو " كما عرضت في الصفحات السابقة، قادرة على تقديم المنهج الفعال، وقادرة على الإيحاء بأساليب جديدة قادرة على اقتحام كل المشكلات، والخروج بأفضل النتائج.
والله ولي التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 153 ]