مقدمة
واجهت اللغة العربية، التي شرفت بحمل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ودونت بها ملايين الصفحات التي تنطق بالعلم والمعرفة والحكمة، في ميادين الأدب والتاريخ والفلسفة والطب والرياضيات وغير ذلك، أقول: واجهت في العقود الماضية مخاطر جسيمة تمثـلت في الطـعن بها والغـمـز من قنـاتها، فهـذا يدعـو إلى اقتلاعها وقبرها وإحلال العامية محلها، وذاك ينادي بأن الإعراب فيها قصة اختلقها النحاة، وثالث يزعم أن العربية تسبب عقدا نفسية عند العرب!
ولم تنج الكتابة العربية من هذا السيل العرم، فعملت المعاول على ثلبها، والإشارة إلى معايبها، وضرورة استبدالها بكتابة أخرى.
يهدف هذا الكتاب إلى تناول هذه المسألة الأخيرة بالدرس والنقاش; فهو يحاول تمحيص الحجج والأسس التي استند إليها الداعون إلى تغيير الكتابة العربية.
فالكتاب، إذا، محاولة للإجابة عن سؤالين:
الأول: هل الكتابة العربية معيبة فعلا قياسا بالكتابات الأخرى؟ وإذا كانت هناك عيوب، فهل تنفرد الكتابة العربية بها؟ [ ص: 43 ]
الثاني: ما مكانة الكتابة العربية موازنة بالكتابات الموجودة؟
وإذا كان السؤال الأول قد سئل، وكثرت الإجابة بالإيجاب، فإن السؤال الثاني لم يبحث، على قدر ما أعلم.
وقد قسمنا الكتاب إلى ثلاثة فصول وحاشية.
تناول الفصل الأول التمهيد لبعض مشكلات الكتابة، والفروق بينها وبين الكلام، وأنواع النظم الكتابية.
وكان الفصل الثاني مخصصا لـ (المآخذ المنسوبة إلى الكتابة العربية ومناقشتها) ، عرضنا فيه حجج المنتقدين أولا، ثم عقبنا ذلك بمناقشتها حجة حجة، وتبع ذلك إشارة إلى نواقص في الكتابتين الفرنسية والإنجليزية، كي تتضح للقارئ حقيقة المزالق الموجودة في اثنتين من أشهر اللغات في العالم المعاصر. علاوة على أن هاتين اللغتين خاصة، كانتا مبعثا للإعجاب ومن ثم انتقاص الكتابة العربية.
وكرسنا الفصل الثالث لدراسة (مزايا الكتابة العربية ومكانتها) ، أظهرنا فيه المزايا الذاتية للكتابة العربية، وأجرينا بعد ذلك مفاضلة بين الكتابة العربية وكتابات تضاهيها في عراقتها.
أما الحاشية، فأشرنا فيها إلى الدواعي التي استخدمت أسبابا لتبديل الكتابة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، [ ص: 44 ] خاصة أن ذلك التبديل كان محفزا لبعض العرب (وغير العرب الآن) في دعوتهم إلى إلغاء الكتابة العربية.
حاول الكتاب، في معالجته، مراعاة المنهجية الآتية:
أولا: إن الكتـاب يناقـش الأفكـار، لا الأشخـاص، ولا النوايـا، ولا الأهداف التي رمى إليها دعاة التغيير، ولم يكن مدعاة ذلك إيماننا بأن دعاة تغيير الكتابة العربية مبرءون جميعا في الطوية والأغراض، ولكن لأن باحثين آخرين تكفلوا بتبيان هذا الجانب. وقد أهملنا للسبب نفسه، وبغية عدم إطالة الكتاب، تاريخ تلك الدعوات. فالمهم في هذا الكتاب ما قيل، لا صاحب القول، ولا مكان أو زمان قوله.
ثانيا: لم يشر الكتاب إلى (الحلول) التي تقدم بها أصحابها، لاعتقادنا أن المشكلة مفتعلة في جانب، مبالغ فيها من جانب آخر.
ثالثا: يخاطب هذا الكتاب القارئ المخلص، أي: من يقيم رأيه (أو يتخلى عنه) بناء على وجاهة الحجة، وسلامة المنطق، لا ذاك الذي تصلبت في رأسه الفكرة، سواء أتوفر الدليل أم انعدم. كما يخاطب القارئ المتمسك بكتابته العربية ولكن الدليل قد يعوزه.
وقد لايتفق القارئ مع النتيجة التي توصلت إليها فيما يخـص مكانـة الكتـابة العربيـة، ولكنـه سيـدرك في الأقل، أن دعاة التغيير [ ص: 45 ] لم يكونوا موضوعيين في عرضهم للحقائق. وإذا كان هذا القارئ المخلص من دعاة التغيير، فسيجد في الحقائق التي عرضتها (لا آرائي) ، مادة للتفكير وإعادة النظر.
رابعا: عمد الكتاب، في معـظم الحـالات، إلى مناقشـة المسائل بـ (منطق بارد) في مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل. وهو المنطق نفسه الذي يستخدمه كثير من دعاة التغيير، متهمين خصومهم بالابتعاد عن (العلمية) والموضوعية.
خامسا: وضع الكتاب نصب عينيه، عند معالجته لنقاط فنية متخصصة معينة، القارئ العادي، أو القارئ المتخصص في اللغة العربية بيد أنه غير ملم بالمفاهيم اللغوية الحديثة.
ولذلك عرضت تلك النقاط عرضا واضحا لا يقف حائلا دون فهم الكتاب أو المضي في قراءته.
أصل هذا الكتاب محاضرة عامة كنت قد ألقيتها في كلية الآداب، جامعة الموصل، احتفالا بيوم الضاد، سنة 1992م. وقد ارتأيت توسيعها، ومناقشة كثير من المسائل التي اضطررت إلى إغفالها تقيدا بالوقت المعهود للمحاضرة.
آمل أن يكون ذا نفع، والله من وراء القصد. [ ص: 46 ]