الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مكـانة الكتـابة العـربيـة

بات في وسعنا -بعد أن عرضنا لنظم الكتابة، وما نسب إلى الكتابة العربية من مآخذ، ومزايا تلك الكتابة- أن نفاضل بين العربية في كتابتها وغيرها من كتابات اللغات الأخرى.

ستستند مفاضلتنا إلى معايير موضوعيـة، سنشيـر إليها فيما بعد، كي نتجنب المحـاباة أو الأحكـام المفتقرة إلى العلمية أو الدقة.

أشرنا في الفصل الأول إلى ثلاثة نظم كتابية مستعملة في الوقت الحاضر، وهي: النظام الفكري، والنظام المقطعي، والنظام الألفبائي. وقد خرجنا بمحصلة مؤداها أن النظام الألفبائي هو الأفضل موازنة بالنظامين الآخرين، لما فيه من اختصار وسهولة، [ ص: 123 ] فضلا عن شيوعه. وعلى هذا سنسقط من مفاضلتنا اللغات التي تستخدم ذينك النظامين.

فإذا نظرنا إلى اللغات ألفبائية النظام، فسنجد نوعين من اللغات: اللغات ذوات التراث المكتوب كالألمانية والأسبانية...إلخ، ومنها العربية، واللغات التي تفتقر إلى تراث مكتوب. ويقصد بهذه الأخيرة اللغات المستكشفة حديثا في أفريقيا وأمريكا وغيرهما. وقد اصطنع علماء اللغة الذين اكتشفوا تلك اللغات نظاما كتابيا ألفبائيا للتعبير عن أصواتها، مستخدمين -في الغالب- الأبجدية الصوتية الدولية

[1] .

ولأن هذه اللغات المكتشفة حديثا ذات إرث كتابي قصير، أو معدوم، فلن تدخل في المفاضلة، ذلك أن كتابتها لم تتعرض -إذا صح التعبـير- لـ (ضغـط الاستعـمال) ، علاوة على أنـها لا تحمل ثقلا حضاريا أو عمقا تاريخيا. زد على ذلك أن من اصطنع لها نظاما كتابيا استفاد من مزالق الكتابات الأخرى، [ ص: 124 ] وموظفا في الوقت نفسه علمه اللغوي. فلو فضلنا كتابة من هذا النمط على كتابة أخرى، ولتكن الإنجليزية، فكأننا نفضل رضيعا على رجل بالغ، على أساس طراوة ونعومة بشرته، متناسين العوامل الأخرى كالقوة والخبرة والذكاء ...إلخ.

فإذا ما استبقينا -بعد هذا- اللغات ذوات التراث المكتوب، فسنواجه نوعين من اللغات الحية: والميتة. وتشمل الأخيرة اللاتينية، والسنسكريتية شبه المنقرضة [2] وغيرهما. ولن ندخل اللغات الميتة في مفاضلتنا هذه.

يلاحظ أن طائفة من اللغات الحية ذوات الإرث المكتوب غيرت كتابتها، كالذي حدث في التركية والفنلندية. ولا بد لنا أن ننحي هذا النمط من الكتابات عن المفاضلة، لأن الكتابة الجديدة لم تعد تخدم في الكتابات التي سبقتها.

فما كتب باللغة التركية باستخدام الخط العربي، غريب على الشاب التركي في الوقت الحاضر غرابة الكتابة التركية الحالية بالنسبة للعربي. ومن ثم تتساوى الكتابة التركية الحديثة مع [ ص: 125 ] كتابات اللغات المكتشفة حديثا من حيث افتقارها إلى العمق التاريخي والعراقة.

وبغية تلخيص التقسيمات السابقة، نرسم المخطط الآتي:

[ ص: 126 ]

ولو تأملنا في هذا الصنف الأخير، أعني اللغات الحية التي لم تغير نظامها الكتابي، مع كونها حية وذوات إرث مكتوب وتتبع النظـام الألفبـائي، لوجد أنـها في معظمها لغات حديثة لا يزيد عمرها على ستمائة سنة [3] . واللغتان اللتان يمكن أن نلتفت إليهما، إلى جانب العربية هما: اليونانيـة والعبـرية [4] ، لمـا تتسـمان بـه من القـدم الـذي يمكـن أن يتـفـوقا بـه على الكتابة العربية [5] .

أما اليونانية فقد أشار مؤلفـا كتـاب (اللغـة اليونانيـة) ، إلى فروق عدة في نطق الأصوات بين اليونانيين القدماء واليونانيين اليوم [6] . بعبارة أخرى: بالرغم من وجود حروف [ ص: 127 ] مشتركة بين اليونانيتين، لا تحتفظ تلك الحروف بالقيمة الصوتية التي كانت لها في الماضي. غير أن الطريف أن المؤلفين، بعد إشارتهما هذه، أوضحا أن هذه الفروق بين النطقين القديم والحديث، قائمة على أساس المقارنة بين النطق الحالي من جهة، والنطق القديم في آخر تصور للجنة الرابطة الكلاسيكية عن كيفية ذلك النطق من جهة أخرى [7] .

بعبارة أخرى، ليس هناك من يقين أو تثبت من كيفية نطق الأغريق القدماء لأصواتهم، ومن ثم ينقح المختصون باليونانية القديمة تخيلهم لذلك النطق بين فترة وأخرى!

وإذا نظرنا إلى العبرية لوجدناها تتفوق على العربية في قدمها، بالرغم من أثر ذلك القدم في تغيرها وانكماشها. غير أن العبرية تفتقر إلى فونيمية العربية، وبعض مزاياها الأخرى، ويمكن تبيان ذلك في الأمور الآتية:

1. توجد في العبرية ستة أحرف تسمى حروف (بجد كفت) ، ينطق كل واحد منها بنطقين؛ أحدهما في حالة كونه معجما، والآخر في حالة [ ص: 128 ] كونه مهملا. فالباء مثلا تنطق باء إذا كان داخلها نقطة، وتنطق مثل حرف ( V ) الإنجليزي إذا كانـت مهملة. وقد سقطـت، ومنذ فترة طويـلة، الأصوات (غ، ذ، ث) وهي الأصوات المهملة المناظرة للجيم والدال والتاء المعجمة (على التتالي) .

2. كانت العبرية -وما زالت- تستخدم حرفين لكتابة صوت السين؛ وهما السين والسامخ.

3. تنطق العبرية الحديثة الطاء تاء، والعين همزة، والحاء خاء، والقاف كافا، وتنطق حرف الصاد على الطريقة الألمانية (تسس)



[8] . وهذا يعني أمرين:

أ/ أن القيمة الصوتية للحروف العبرية لم تعد هي نفسها الموجودة قديما. [ ص: 129 ]

ب / وجود أكثر من حرف للصوت الواحد (علاوة على السين والسامخ) . فلأن القاف تنطق حاليا كافا، بات في الكتابة العبرية كافان: أحدهما تكتب بما كان يدل على صوت القاف، والأخرى هي الحرف الأصلي الذي تكتب به الكاف من قبل. ويصح الأمر نفسه على التاء، والهمزة ...إلخ.

لو حاولنا -بعد هذا العرض- أن نفاضل بين الكتابة العربية وغيرها، فسوف نستند إلى المعايير الآتية:

1. الفونيمية.

2. الحفاظ على أعلى قيمة صوتية.

3. القدم.

أما المعايير الأخرى التي لم ندرجها فهي:

1. اتباع النظام الألفبائي.

2. كونها حية.

3. الوحدة (عدم اختلاف كتابة اللغة حسب الطائفة) . ويعود سبب عدم إدراجها إلى أنها متوفرة في معظم [ ص: 130 ] اللغات الأوربية، فهي معايير مشتركة، وإنما تتم المفاضلة على أساس التفرد.

وبطبيعة الحال تتفوق الكتابة العربية في المعايير الثلاثة الأولى على اللغات الأوربية، إما بالمعايير الثلاثة مجتمعة، كتفوقها على الكتابتين الفرنسية والإنجليزية في الفونيمية والحفاظ على أعلى قيمة صوتية والقدم، وإما بالمعيارين الثاني والثالث (كتفوقها على الأسبانية والألمانية بالحفاظ على أعلى قيمة صوتية، والقدم) .

ولو وازنا بين العبرية والعربية، لوجدنا أن العبرية تتفوق في كتابتها على الكتابة العربية بالقدم، في حين تتفوق العربية في كتابتها على الكتابة العبرية بالفونيمية والحفاظ على أعلى قيمة صوتية. وآية ذلك أننا نجد العربية قد تفقد صوتا واحدا هو الضاد -في لغة بعض القبائل- في حين نجد العبرية تفقد الغين، والذال، والثاء، والطاء، والعين، والحاء، والقاف، والصاد. وفي الوقت الذي نجد في العربية حرفا واحدا من غير مقابل صوتي، وهو الضاد، نجد في العبرية: السامخ، والحروف التي كانت تدل [ ص: 131 ] على الطاء، والعين، والحاء، والقاف، والصاد. فيكون مجموع الحروف التي لا تجد لها مقابلا في العبرية ستة أحرف، مقابل حرف عربي واحد. وهذا يؤكد رأينا بتفوق الكتابة العربية على الكتابة العبرية في المعيارين الأول والثاني.

غير أن التأمل في هذه المسألة يقودنا إلى القول: بأن هذا التفوق للكتابة العربية يسلب جزءا من تفوق العبرية في القدم، لأنه يجعلها كاليونانية. أي أننا لا نتحدث عن كتابة عبرية أقدم من الكتابة العربية، وهي (أي الكتابة العبرية) محتفظة في الوقت نفسه بالقيم الصوتية نفسها لحروفها عبر تاريخها كله، وإنما نتحدث عن عبرية بثلاث مراحل من حيث القيمة الصوتية والفونيمية: المرحلة الأولى التي كانت العبرية فيها تنطق بالأصوات: غين، وذال، وثاء، والمرحلة الثانية التي خلت فيها العبرية من تلك الأصوات الثلاثة، والمرحلة الثالثة هي التي خلت منها العبرية من الطاء، والعين، والحاء، والقاف، والصاد [9] .

نستطيع أن نخلص مما سلف إلى أن العربية في كتابتها [ ص: 132 ] متفوقة على الكتابتين العبرية واليونانية وغيرهما من لغات العالم الحية. وهي -بناء على ذلك- أفضل كتابة في العالم وفقا للمعايير التي استخدمناها.

وقد أغفلنا -عامدين- حقيقة مهمة، وهي أن الكتابة مفتاح للمكـتـوب، ومن ثم يحظى المفتاح بأهمية تتناسب مع ما يقود إليـه. ولو قومنا الكتابة العربية حسب هذا المقياس، لوجـدنا أنـها ليست خيـر مفتاح فحسب، بل خير إقليد لأعظم خزانة.

فقد حملت هذه الكتابة القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، وملايين الصفحات المسطرة في ميادين العلم المتنوعة والمتشعبة، مما يزيدها تفوقا وفضلا على لغات أخرى قد تضارعها (أو تفوقها) في القدم، ولكنها لا تمتلك الثقل الحضاري والمعرفي الذي حظيت به الكتابة العربية. [ ص: 133 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية