تقديم
بقلم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي جعل معرفة الوحي، والإيمان بالقرآن، سبيل الهداية إلى الرشد واكتمال العقل،
فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1 ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=2يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) (الجن:1-2) .
ووهب الإنسان العقل، وجعله وسيلة التحري والمقارنة والملاحظة والتجربة والاستدلال، للوصول إلى الإيمان بالله، الذي يعني غاية الكمال والرشاد،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=14 ( فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ) (الجن:14) .
كما جعل إبلاغ وحي الله إلى البشر وترشيد سلوكهم بتعاليمه والدعوة إلى ذلك، طريق الرشاد، وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة،
فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=22 ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=23إلا بلاغا من الله ورسالاته ) (الجن :22-23) .
وصلى الله على نبي الهدى، الرحمة المهدأة، الذي وضع برسالته عنا إصرنا والأغلال التي كانت علينا الذي بعث بالحنيفية السمحة، وصوب مسيرة الإنسانية، وبلغ بها رشدها:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3 ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة :3)
، وحال دون مسلك التعنت والغلو والتكلف، الذي يؤدي إلى غياب التوازن
[ ص: 11 ] وانضباط النسب، والوقوع في الكفر والفسوق والعصيان، والجهالة في التعامل مع الذات و (الآخر ) . الذي بلغ بأصحابه الأنموذج مرحلة الرشد والكمال،
قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7 ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هـم الراشدون ) (الحجرات :7) .
وبعد :
فهذا كتاب الأمة الثاني والثمانون (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ) للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ، في سلسلة كتاب الأمة الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة
قطر ، مساهمة في إعادة بناء النخبة، عقل الأمة ودليلها إلى الرشد، وترشيد حركة العمل الإسلامي، وتوسيع دوائر الطائفة القائمة على الحق، واستنباتها والبلوغ بها جميع مساحات الحياة وآفاقها المتعددة، لتشكل الأنموذج المثير للاقتداء، وتجسد معاني الإسلام في حياتها، وتبرهن على خلوده وقدرته على الإنتاج العملي في كل زمان ومكان كما تسهم في استرداد دور الأمة المسلمة، وبعث فاعليتها، لتؤدي رسالتها في الشهادة والقيادة وتحقيق إنسانية الإنسان، واستنقاذ البشرية من أزماتها المتلاحقة، وفك قيود التقليد، ورفع الإكراه والتسلط، وإطلاق العقل لتحري الصواب واستبانة الرشد من الغي:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256 ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) (البقرة :256) ، وتصويب معايير النظر للأشياء والأفعال والحكم
[ ص: 12 ] عليها، مهتدية في ذلك بقيمها التي تشكل مرجعيتها، وتتجلى في تجربتها الإنسانية التاريخية.
ولعل السؤال الكبير الذي يبقى مطروحا باستمرار: هـل بلغ العمل الإسلامي مبتغاه، وحقق أهدافه؟ وهل عرف العاملون للإسلام كيف يتعاملون مع القيم الإسلامية، وعرفوا كيف ينزلونها على واقع الناس، بحسب الاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة، على مستوى الفرد والمؤسسة والأمة والدولة؟ أم أن هـناك الكثير من الإصابات والإخفاقات والاحباطات قد يكون سببها سوء التقدير للاستطاعة، أو للظروف المحيطة، أو للاثنين معا، أو سوء الفقه للقيم الإسلامية، أو سوء الفقه للواقف محل الحكم والتنزيل، والانحباس ضمن بعض المحفوظات والاجتهادات الفقهية لعصر آخر، يختلف في كثير من مشكلاته وظرفه وإمكاناته؟
وهل الفشل والإخفاق كان كليا، بمعنى أن العمل الإسلامي لم يحقق شيئا يذكر من طموحاته وأهدافه، وأنه كان خارج الحياة والمجتمع، وانسحب وغزل نفسه عن التأثير في الأمة؟ أم أنه حقق بعض أهدافه، وأخفق في بعضها الآخر؟ وهل أفادته هـذه العزلة، وحققت الغرض عند من يراها، فكانت سببا في النمو الذاتي وتوفير الجهود والإمكانات لتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية، والحماية من التأثير الاجتماعي، وإعادة التأهيل والتدريب على المعاني الإسلامية؟ وهل ربح العاملون أنفسهم بذلك وخسروا مجتمعاتهم؟ أم أن هـذه
[ ص: 13 ] العزلة فتحت الباب على مصراعيه لكثير من الأمراض والإصابات، ولم تورث إلا الانغلاق والتعصب والتشرذم والتحزب والعجب بالنفس، والتعالي على الناس، وتضييق مفهوم الأخوة الشامل، وقصور الرؤية الفقهية عن الإحاطة بقضايا الأمة، وكانت سببا في تشكيل أجسام منفصلة عن الأمة يسهل اختراقها وضربها ومحاصرتها والكيد لها والإيقاع بينها، وسببا في إغلاق أقنية الحوار والتواصل بينها، ليصبح بأسها بينها شديدا؟
وعلى الجملة : هـل حصلت بعض الإصابات والإخفاقات للعمل، وتحققت بعض النتائج، فجاءت الحسنات لتذهب السيئات، وتستر السوءات، أم أن مشروعات العمل الإسلامي فشلت بإطلاق، على مستوى الفرد، والمجتمع، والأمة، والدولة ؟
هل استطاع العمل الإسلامي أن يؤسس نماذج مثيرة للاقتداء، أم وظف ليكون في خدمة أفراد بدل أن يكون الأفراد في خدمته؟ هـل استطاع أن يؤسس عملا متميزا عن الواقع الذي يعيشه الناس، حتى يتمكن من الارتقاء بهم إلى مستوى الإسلام، أم أنه حمل نفس الإصابات والأمراض، ولم يختلف عن الآخرين إلا بالعناوين، بينما يلتقي معهم بالمضامين؟
هل دليل النجاح وتحقيق الهدف ومعياره هـو الوصول إلى إقامة الدولة بشتى الوسائل، علما بأن الدولة بحد ذاتها لا تخرج عن أن تكون وسيلة للعمل للإسلام وليست هـدفا بحد ذاتها؟ وهل إقامة الدولة بدون
[ ص: 14 ] شروطها ومقوماته نجاح أم بدء الارتكاس والسقوط إلى الهاوية، كحال الكثير من المبادئ والأحزاب والجماعات التي كانت الدولة إسقاطا لها وسقوطا لبادئها، على مستوى الإنسان والأرض، والأمة ؟
لا شك أن هـناك العشرات من علامات الاستفهام التي تحتاج إلى الكثير من التفكير والتأمل والبحث والتحليل، وذلك بامتلاك أدوات ذلك البحث ودقة التعامل معها، لتكون صالحة للعظة والعبرة والوقاية الحضارية.
إن الدراسة المتأنية، والتحليل الشامل، والتقويم السليم، في ضوء الإمكانات المتوفرة والاستطاعات المتاحة، والظروف المحيطة، والوسائل المستخدمة، والتحديد الأمين للسلبيات والإيجابيات المتحصلة، هـي السبيل إلى تحديد مواطن الخلل، والإفادة من المعالجة، والارتقاء إلى الأفضل.. أما التعميم بالقول : بأن العمل فشل، وأن المشروعات النهضوية لم تحقق غرضها، أو رفع شعار (أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان ) ، أو ما شاكل ذلك من الشعارات والذرائع، فهو نوع من العامية أو عمى الألوان، والعجز عن الفرز والتحليل، والعجز عن التقدير، وتكريس العلل والأمراض.
وهل الإشكالية الحقيقية تكمن في عدم التحديد بدقة للأهداف المرحلية، التي تتوازى مع الإمكانات والاستطاعات، محل التكليف، ومراعاة الظروف المحيطة، لتكون تلك الأهداف المعلنة معينة على تقويم العمل بدقة، والانتقال إلى المرحلة التالية، أو بناء اللبنة التالية، أم أن
[ ص: 15 ] الهروب إلى التعميم والسباحة في بحر بدون شواطئ والسير العشوائي يسهل التفلت من المسئولية، وتصعب معه عملية التقويم والمراجعة، ونستمر بالضجيج وضرب الطبول ورفع الأصوات، ونقتصر على المراوحة في مكاننا إن لم نتراجع؟
هل تطاولنا إلى طلب بلوغ أهداف لا تتناسب مع استطاعاتنا فأخفقنا، فلم نبلغ أهدافنا التي تطاولنا لها، وخسرنا بذلك التطاول ما كان يمكن تحقيقه من خلال استطاعتنا، أي خسرنا الموقعين معا، حيث تركنا ما نملكه إلى ما لا نملكه ؟
وهل وصلنا إلى حد الإدراك والفقه بأننا مكلفون بحدود استطاعتنا ووسعنا
لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16 ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن: 16) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286 ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ،
وأننا لسنا مكلفين ابتداء بما يخرج عن استطاعتنا ولو كان من فروع الإسلام، لأن التكليف في هـذه الحالة يرد على غير محله ؟ وهل نمتلك القناعة والاطمئنان أننا إذا استنفدنا استطاعتنا ووسعنا فقد طبقنا الإسلام المطلوب منا في هـذه الحالة، أو المرحلة، وبذلك نعصم أنفسنا من الإحباطات ومرارات الفشل، ونضع لبنة على الطريق، ونرتفع بالبناء إلى وضع لبنة أخرى ؟
وأخيرا، وليس آخرا، هـل سألنا أنفسنا قبل الإقدام على أي عمل :
لماذا نعمل هـذا العمل؟ وما هـي أبعاده وخطتنا الواضحة ووسائلنا المدروسة؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( الأعمال بالنية ولكل امرىء ما نوى ) - والنية ليست عزم القلب على الفعل فقط، وإنما رؤية أبعاد الفعل وأهدافه ووسائله المشروعة-
( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) (أخرجه
البخاري ) .
[ ص: 16 ]
وكيف نعمل ؟ وذلك بحسن استخدام وتوظيف إمكاناتنا من خلال الظروف المحيطة.
وماذا نقدم من العمل في هـذه المرحلة، وماذا نؤجل ونؤخر ؟
ومتى نعمل؟ مقدرين عنصر الزمن.
وبعد ذلك كله، هـل تحققت أهدافنا التي ابتغيناها من العمل، أم لحقها خلل بسبب سوء التقدير للإمكانات المتاحة، أو للظروف المحيطة، أو المبالغة في حجم الأهداف؟ وكيف يمكن أن تعود تلك النتائج بالإتقان والحيطة والحذر والعبرة والوقاية من الخلل في أعمال قادمة؟
أعتقد - والله أعلم - أن الإحساس بالعلل والإصابات والإخفاقات، قد تكون الخلافات حوله بسيطة إلى درجة تكاد لا تذكر، لكن المشكلة في نظري تكمن في الإدراك لهذه العلل، والإحاطة بعلمها، وتحديد مواطنها، والجرأة في التصدي لها، والمصارحة بها، ومعرفة أسبابها، ومن تم إبصار العلاج الدقيق لها والارتداد إلى طريق الرشاد.
ذلك أن المحزن حقيقة أن الإصابات جميعا تقع تحت مظلة الكتاب والسنة، ولا يعدم أي مسئول عنها من إيجاد المسوغات واختراع الذرائع التي يدفع بها المسئولية عن سوء أدائه أو سوء تقديره، ليصبح
[ ص: 17 ] الكتاب والسنة وبشكل غير مباشر المسئولان عن فشلنا.
وفي تقديري أن العشوائية والعمية وسوء التقدير ما تزال تسيطر على أعمالنا- والله أعلم - وأن الحاجز النفسي الذي ما يزال يحول دون التقويم والمراجعة وتحديد مواطن الخلل، والتعرف إلى أسبابه، والفقه بالفتوى الشرعية للحالات المتنوعة، أو الحكم المقتضي التنزيل على الواقع للمعالجة، هـو الخلط والالتباس بين قيم الدين المعصومة في الكتاب والسنة وصور التدين، التي هـي ثمرة لاجتهادات البشر، الالتباس بين القيمة والذات، بين الحق والرجال، بين المعيار والموضوع، والظن أن أي نقد أو نقض أو مراجعة أو تقويم ومعايرة لصور التدين ومحاولة التصويب وبيان مواطن الخلل والتعرف على أسبابه تمهيدا لمعالجتها يعني - فيما يعني - النيل من نصوص الدين المعصومة، والجراءة على الدين نفسه، لوجود هـذا التلبس والإصرار عليه من بعض العاملين للإسلام حماية لأنفسهم، أو الالتباس في بعض الأذهان، الأمر الذي يحول بينهم وبين طرح الصور التي قد تكون مشوهة أو مغشوشة، أو حتى مدسوسة، للمناقشة والنقد والتقويم.
إن بعض أصحاب الهالات والهيلمان الذين يعتبرون أنفسهم فوق النقد الذي خضع له صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى البدريين الذين غفر الله لهم، يرون في الاعتراض على تصرفاتهم أو فهوم بعضهم ومناقشتها، اعتراضا على ما ينتسبون إليه من قيم، والاعتراض على القيم في نظرهم يؤدي إلى الاعتراض على الله منزل القيم – العياذ
[ ص: 18 ] بالله - وبذلك شاع مناخ السكوت عن النقد والتستر على الأخطاء، وتكرست الانحرافات، وتعطلت عمليات المراجعة والتصويب، وتوقف التجديد في الفهم بحسب الظروف والمتغيرات والمعطيات المعاصرة، علما بأن المراجعة والتقويم والتصويب لإعادة معايرة الواقع وتقويمه بقيم الكتاب والسنة، ونفي نوابت السوء، وإعادة النظر إلى قيم الكتاب والسنة وكيفيات تنزيلها بحسب الاستطاعات وفقه الواقع، هـو دين من الدين، أو تكليف شرعي، خاصة بالنسبة للرسالة الخاتمة، حيث توقف التصويب من السماء لصور التدين المنحرفة أو المغشوشة، التي تأتي ثمرة للتأويل أو التحريف، أو الغلو، أو التقليد، أو الغزو الثقافي.
لقد ناط الله سبحانه وتعالى التجديد والتصويب والتقويم بالإنسان المسلم، بما يمتلك من معايير معصومة خالدة في الكتاب والسنة، وذلك بفرضية حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كرقابة عامة في الأمة وعليها، كما كلف بموضوع المراجعة وانبعاث التجديد والإصلاح والترشيد من داخل الأمة ذاتها، بقوله عليه الصلاة والسلام :
( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (أخرجه
أبو داود في كتاب الملاحم، وصححه
السيوطي ) .
إن العقل والاجتهاد في ضوء هـدايات الوحي ومعايير الوحي الخالدة المعصومة، هـو المكلف بالتجديد والتقويم والمراجعة وتصويب صور التدين وفق قيم الدين، الأمر الذي كان منوطا بتتابع النبوات في التاريخ - كما أسلفنا - فأصبح في الرسالة الخاتمة من مهمة العقل
[ ص: 19 ] من هـنا ندرك عظم المخاطر التي تترتب نتيجة لتوقف عمليات التقويم والمراجعة والترشيد لصور التدين، وما يمكن أن تنتهي إليه من السوء، وعلى الأخص عندما يقدم أصحابها تأويلا لمسالكهم من القيم في الكتاب والسنة، الأمر الذي قد يلحق الإصابة بالقيم نفسها، والشك في قدرتها على الإحياء وانبعاث الأمة.
إن الخلط بين قيم الدين المعصومة وصور التدين الاجتهادية المظنونة التي يجري عليها الخطأ والصواب، حمل للعقل الإسلامي والواقع الإسلامي كثيرا من الإصابات الفكرية والعلمية والدينية والثقافية والحضارية بشكل عام، لأنه قتل الفاعلية، وأطفأ جذوة الحياة الممتدة، وقضى على القلق السوي أو القلق الحضاري الذي يحدثه الفرق بين القيم والواقع، وأبقى على الواقع المتخلف، وعطل السنن الإلهية في تعاطي الأسباب ومغالبة قدر بقدر، وخرج بالأمة من ساحة الحياة، وحول ماضيها إلى موقع مستقبلها، لعجزها عن الإنجاز في الحاضر واستشراف المستقبل.
ونحن لا ننكر هـنا أن الكثير من محاولات النقد والمراجعة والتقويم لصور التدين التي تأتي من الخارج الإسلامي، أو من خارج الذات، أو من أناس لا يؤمنون بالقيم الإسلامية أصلا في الكتاب والسنة، تخفي وراءها مكرا شديدا وعدوانا مقنعا، وفسادا باسم الإصلاح.. لا ننكر أن هـدف هـذه المحاولات ظاهره فيه الرحمة وباطنه
[ ص: 20 ] من قبله العذاب، وأن ذلك نابع من رقبة النيل من القيم نفسها، لا من أصحابها، ولا يراد بها تصويب صور التدين، وإنما يراد النيل من الدين نفسه، لكن هـذا على خطورته إلا أنه لا يجوز أن يعتبر مبررا لتوقف عمليات التحديد والمراجعة والتصويب والنقد وطرح صور التدين للحوار والمناقشة للوصول إلى السداد، بالسداد والصواب هـو الجدار الذي يحول دون النيل من الدين والتدين في نهاية المطاف.
وقضية أخرى لا بد من التوقف عندها، أو على الأصح لفت النظر إليها، وهي أن هـذه الصور والاجتهادات محل التقويم والتجديد والمراجعة إنما أنتجت في إطار القيم نفسها، وجاءت ثمرة لتنزيلها على الواقع، هـذا التنزيل الذي قد يصيب وقد يخطئ، لكنه على كل الأحوال إنما يتم ضمن الاعتراف بمشروعية القيم نفسها ومرجعيتها.. وهذا الاعتراف بالمشروعية يضمن لنا إيمان الجميع بهذه القيم ابتداء، وإمكانية اعتمادها والقبول بها معيارا للتقويم والتصويب، مهما كانت العقبات أمام ذلك من تحكم العادات والتقاليد وتضخم الذات، الأمر الذي يمنحنا إمكانات كبيرة للتغيير والإصلاح، وبذلك تفترق هـذه الاجتهادات عن صور التفكير والاجتهاد والإصلاح والتقويم الأخرى في الخارج الإسلامي، التي لا إطار ثابت لها ولا مرجعية متفق عليها لمعايرتها وتقويمها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر جدير بالتدبر أيضا أن القيم أو معايير التقويم هـنا ليست من وضع بشر، ولا من موافقاته ومواضعاته، وإنما هـي من مصدر خارج عنه، من الوحي، وبذلك فإن
[ ص: 21 ] المعيار المنزل من الله ثابت ومنضبط وغير منحاز، ولا يؤدي إلى تسلط واضعه على (الأخر ) ، إضافة إلى الإيمان به والاعتقاد بصوابه ودقته، واحترامه من داخل النفس، ذلك أن الإشكالية الكبيرة - فيما نرى - أن يكون المعيار من وضع الإنسان، وأن يكون الإنسان نفسه هـو موضوع المعايرة، الأمر الذي سوف ينتهي إلى الانحياز والقصور لعلم الإنسان المحدود، وعمره المحدود، والعوامل المتعددة المؤثرة عليه.
لذلك نقول : بأن الخطورة كل الخطورة أن ينقلب التدين إلى دين، وأن تنقلب صور التدين التي هـي ثمرة لاجتهاد الإنسان وفهمه إلى دين، وأن تنقلب المعادلة على عقبيها، حيث يعرف الحق بالرجال بدل أن يعرف الرجال بالحق، وعندها يصبح لكل إنسان معيار، ولكل إنسان كتاب وسنة، أو يصبح سلوك كل إنسان في منزلة الكتاب والسنة!
ولعل مما يتفرع عن ذلك ويترتب عليه أيضا، أن تصبح القواعد والاجتهادات والآراء الفقهية أو الفكرية هـي المعيار والقيمة، حتى ولو كانت مستمدة من القيم نفسها، أو أن تحل محل القيم المعصومة، الموحى بها، لأن هـذه القواعد والاجتهادات نتاج بشري، يجري عليه الخطأ والصواب، والزيادة والنقص والتعديل، حتى من صاحبها نفسه، الذي لا يمكن أن يقف عقله وتقديره عند حالة ويتجمد عندها، وإنما هـو في نمو مستمر، لذلك لا يجوز أن يحل رأي الشارح مهما كان محل نص الشارع بحال من الأحوال، حتى ولو كان رأي الشارح مستمدا من قول الشارع، فالمرجعية هـي قول الشارع في
[ ص: 22 ] الكتاب والسنة، بحيث تبقى هـذه القيم المعصومة، هـي المرجعية ومعيار التقويم لوزن ومعايرة اجتهادات البشر.
ونحن بهذا لا ننكر دور الاجتهادات والآراء والقواعد الفقهية والأصولية في البناء المنهجي وأهمية الإفادة منها واستصحابها لفهم القيم وكيفيات تنزيلها على واقع الناس، وإنما الذي ندعو إليه أن نستصحب القيم التي أنتجتها، ونفيد من هـذه الاجتهادات، بالعودة إلى القيم وإعمالها، وليس الاستغناء عن القيم بها، لأنها في النهاية من مواضعات البشر الذي يجري عليهم الخطأ والصواب - كما أسلفنا.
ونرى أنه من المفيد معاودة التأكيد أننا لا نطلب العودة إلى التعامل مع معايير بالقفز من فوق التراث، ممن يحسن ذلك ومن لا يحسنه، ذلك أن هـذه الفهوم المتعددة والكثيرة تمنحنا المنهج ونماذج مضيئة من التعامل مع الكتاب والسنة، وإنما نطلب بالعودة إلى الينابيع الأولى من خلال التراث نفسه.
لكن لا نعتبر هـذه الفهوم وهذا التراث بديلا عن قيم الكتاب والسنة، والاستمرار في اجتهادات التنزيل على الواقع بكل متغيراته، مع الإفادة من تجارب الماضي.
ولقد لمح
الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله هـذه الأبعاد، وهو المشتغل باستقراء التاريخ الحضاري، والمسكون طيلة حياته بقضية وقصة الحضارة، نشوءا وسقوطا وشروط نهضة، حيث يرى، بعد الاستقراء المتنوع للحضارات المتعددة، أن الحضارة لا تنطلق إلى من
[ ص: 23 ]
الفكرة الدينية، التي تطبع الفرد بطابعها الخاص وتوجهه نحو غايات سامية، وأنه لا يمكن للحضارة أن تظهر إلا " في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا... تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام " .
وقد يكون من المطلوب في هـذا المجال أن نبين أن القيم أو المعايير في الكتاب والسنة، ليست مبادئ وقيما مثالية خيالية وأفكارا مجردة بعيدة عن الواقع وقابلية التطبيق، وأن الإيمان بها والتطلع لها هـو محاولات حالمة بمجتمع فاضل أو مدينة فاضلة، وإنما الذي يميز هـذه القيم ويؤكد واقعيتها وقابليتها للتطبيق من خلال عزمات البشر وقدراتهم واستطاعاتهم وظروفهم، أنها تجسدت في حياة الرسول البشر صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، على مختلف الأصعدة، في مرحلة السيرة.
والملفت حقا، أن تحصل من خلال الفهم والتطبيق صور للتدين تستدعي التصويب، كنوع من التدريب وبيان معالم شرعة التأسي، كما أنها طبقت وجسدت من خلال القرن المشهود له بالخيرية، ليكون ذلك دليلا على قابليتها للتطبيق السليم، وبذلك يشكل تطبيق فترة السيرة وخير القرون معيارا للفهم، ودليلا لصور التدين السليم، وسبيلا للتعامل مع القيم من خلال الواقع المتغير، لأن أصول المشكلات الإنسانية تكاد تكون واحدة تقريبا.
لكن إشكالية التدين أو المشكلة عندنا، أننا اكتفينا بترديد
[ ص: 24 ] حديث
( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. ) (أخرجه
البخاري ) ، والتفاخر بذلك الجيل القرآني الفريد، وحاولنا إسقاط ذلك على واقعنا بكل سلبياته - والإسقاط شيء، والتنزيل والمقاربة بحسب الاستطاعة شيء آخر - لمعالجة مركب النقص دون أن نجتهد لاستخلاص الصفات والخصائص التي كانت سبب تلك الخيرية، لتأهيل مجتمعاتنا وأفرادنا بها، تربية، وتعليما، وإعلاما، وتقويما، ومرجعية، ومراجعة.
فالسيرة وخير القرون تشكل المرجعية التطبيقية أو مرجعية صور التدين، والقرآن والسنة يشكلان مرجعية قيم الدين.
وقضية أخرى، لا بد من فتح ملفها لمزيد من التدبر والتفاكر والتشاور والتثاقف أيضا، وهي أننا نؤمن جميعا ونسلم بقيم الكتاب والسنة أو نصوص الدين - ومصطلح النص هـنا يعني آية أو حديث صحيح، وبهذا المدلول، لا يمكن اعتبار أقوال المجتهدين ولا الفقهاء ولا قواعدهم قيما أو نصوصا - لكن تبقى الإشكالية الكبيرة التي تدعو لمزيد من الاجتهاد، وقد تتعدد فيها الاجتهادات ووجهات النظر، ولا ينفع معها الحفظ ومجرد إيراد النصوص للاستشهاد، هـي في كيفية التعامل مع هـذه المعايير وتنزيلها على الواقع الملائم أو المستدعي لها، لتشكيل حلا وتقويما له، أو معالم لطريقه ومسيرته.
ما هـو المعيار الملائم أو النص المقتضي التنزيل دون سواه لهذه الحالة، مع التسليم ابتداء بأن جميع النصوص التي نزلت لجميع
[ ص: 25 ] الحالات هـي معايير لكن يبقى كل معيار لحالة أو لواقع معين، وإلا لما تنوعت النصوص وتعددت؟ ذلك أن الخلل في تنزيل المعيار أو تنزيل الحكم الشرعي على غير محله، لا يقل من حيث النتيجة عن الخطر في تجاوزه إلى معايير من الخارج الإسلامي.
ذلك أن تجاوز الحكم الشرعي إلى غيره يبقي الأمل مرجوا في الإصلاح، حيث يستمر اعتقاد الناس أن التخلف والسقوط هـو بسبب الانسلاخ عن قيم الدين.. لكن تنزيله على غير محله، أو عدم اعتبار حالته، يحدث إشكالات ومخاطر قد لا تقتصر على الواقع وإنما تمتد لتنال من المعيار والحكم الشرعي ومدى الثقة به.
إن الاجتهاد في توافر شروط المحل لتنزيل الحكم، أو لاستدعاء الحكم لمعالجة الحالة، والاجتهاد في اختيار المعيار أو الحكم المناسب لهذه الحالة دون غيره، في هـذه المرحلة أو ما يمكن أن يسمى فقه الحالة، وفقه المعيار الذي يلائمها ويناسبها، لا يقل أهمية عن حفظ المعايير ونقلها وفقه مدلولاتها.
وفي اعتقادي أن الكثير من إشكالات العمل الإسلامي وتخبطه وارتباكه وإحباطاته وعدم نضجه ورشده الكامل، ناتج عن العجز في فقه الحالة تماما، وفقه الاستطاعة، وفقه الظروف.. ولعل مصطلح فقه الحالة يغني عن ذلك كله، إضافة إلى فقه المعيار وحسن اختياره للتنزيل على هـذه الحالة، ذلك أن المعايير كالأدوية والأمصال
[ ص: 26 ] واللقاحات الدوائية، وأن لكل داء دواءه، فإذا أصاب الدواء الداء برئ المريض بإذن الله، وإذا أعطي الدواء لغير دائه اشتد المرض، وقد يموت المريض.. فالعلة إذن ليست بوجود الأدوية وتعددها وتنوع الأمراض، وإنما العلة في تشخيص الحالة المرضية ووصف الدواء الملائم لها.. العلة في الطبيب المعالج.. واختيار الدواء الملائم لحالة المريض ودائه، واختيار دواء دون غيره، لا ينتقص من قيمة سائر الأدوية الأخرى، وإنما التعامل المغلوط معها هـو الذي ينتقص من قيمتها والثقة بها.
إن الأحكام الشرعية ومسيرة السيرة النبوية التطبيقية وسيرة خير القرون غطت المساحات البشرية جميعا، في مجالات الدعوة والدولة، والسلم والحرب، والأسرة والمجتمع والأبوة والعلاقات الاجتماعية، والشدة المادية والرخاء، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، والتعامل مع (الآخر ) والمعاهدات الدولية، ووضعت لكل حالة حكمها..
فكم نلمح من الآفاق مثلا بين قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77 ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ( النساء:77) ،
وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106 ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (النحل:106) ،
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( فإن لم يستطع فبقلبه ) (أخرجه
مسلم ) ،
وبين قوله سبحانه وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=39 ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) (الأنفال:39)
وكم نكون أغبياء إذا تطاولنا إلى القتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، ونحن لا نأمن من الفتن على أنفسنا، ومن أن يتحول قتالنا
[ ص: 27 ] وتكون تحشيداتنا لتصنع فتنا؟ ويحضرني هـنا " ما رواه
عبيد الله عن
نافع عن
ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة
ابن الزبير ، فقالا: إن الناس قد ضيعوا وأنت
ابن عمر وصاحب النبي صلى عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم علي دم أخي، فقالا: ألم يقل الله :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=39 ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ، فقال : (قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله » ( أخرجه
البخاري في كتاب التفسير) .
وكم نكون بائسين إذا نزلنا خطاب وقيم النصر على ساحة الهزيمة، وقيم الدعوة على مجال الدولة، وأحكام فترة الاستضعاف والتعايش مع الأصنام في مكة على لحظة الانتصار والتمكين في فتح مكة، ونزلنا ما ورد من نصوص في فساد وانحراف العقائد الأخرى على أساليب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وانطلاق الحوار من كلمة سواء ومجادلة ( الآخر ) بالتي هـي أحسن ومشروعية القبول به - والقبول لا يعني إقراره على ما هـو عليه - ونزلنا خطاب الحرب والتعبئة العسكرية على مساحات الحوار والإقناع والمجادلة بالتي هـي أحسن، ذلك أن تنوع مواصفات الخطاب القرآني بحسب الحالات التي يعالجها ويتنزل عليها يقتضي الفقه بذلك كله، وأن لكل حالة حكمها وحلها، أما مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محالها فسوف يؤدي إلى الكثير من التداعيات والمجازفات والإصابات وغياب الفقه والوعي والرشد.
[ ص: 28 ]
ونستطيع أن نقول هـنا : إن من الأهمية بمكان لعملية التنزيل التي نحن بصددها وما اصطلحنا على تسميته بفقه الحالة، استيعاب أسباب النزول للآيات وأسباب الورود للأحاديث، التي هـي أشبه بوسائل إيضاح معينة للتعامل مع النص، ومدى ملائمة المحل، وتوفر شروطه لتنزيل حكم النص الشرعي.
ولعل هـذا يمنحنا أيضا ملمحا لبعض حكم نزول القرآن منجما، ونزول الأحكام متدرجة لتناسب الأحوال والمحال التي عليها الناس واستطاعاتهم، وتترقى بهم من خلال أحوالهم، كما يمنحنا ملمحا لبعض حكم عدم ترتيب آيات القرآن وسوره حسب أزمنة النزول، لأن أقدار التدين غير ثابتة، والظروف من حولنا غير ثابتة، واستطاعاتنا غير ثابتة، لذلك فالاستطاعة تستدعي الحكم أو النص الملائم، وليس قالب الزمن، على الرغم من أهميته، فقد يرتفع قدر التدين وتتعاظم الاستطاعة فيتعاظم التكليف والمسئولية، وقد يرتكس قدر التدين وتتدنى الاستطاعة لسبب أو لآخر فيكون من الأحكام الشرعية ما يوافق الاستطاعة، ولعل مشروعية الرخص والضرورات تنطلق جميعا من هـذا المنطلق،
والله تعالى يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16 ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ( التغابن:16) .
إن هـذه الرحابة في الأحكام تمكن من تغطية جميع مساحات الاستطاعة والإفادة منها وترتقي بها، حتى محل التكليف الواحد قد يأخذ حكمين مختلفين بحسب حالتيه المختلفتين.
[ ص: 29 ]
ففي عام المجاعة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخار لحوم الأضاحي للدافة (الفقراء الذين يدفون على المدينة ) ، وفي عام الرخاء أباح ادخار لحوم الأضاحي فقال:
( .. إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا ) ( أخرجه
مسلم ) ، لذلك نرى أن الحكم يتردد بين الحظر والإباحة بسبب الحالة والمحل الذي عليه الناس، والحظر والإباحة حكمان شرعيان.
وكذلك قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم
لعمار بن ياسر رضي الله عنه عندما أكره على النطق بكلمة الكفر تحت شدة العذاب وخاف على نفسه،
فنزل:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106 ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (النحل:106) ،
قرآن يتلى إلى يوم القيامة لأن حالة
عمار يمكن أن تتكرر حيث قال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فإن عادوا فعد ) (أخرجه
الحاكم وصححه) .
وهكذا نرى وكأن المحال والاستطاعات تستدعي الأحكام الشرعية المناسبة لها، والأحكام الشرعية المناسبة تنتشل الحالات، وترتقي بالاستطاعات، ليصبح الصعب سهلا، ويتحول المستحيل بالنسبة للإمكانات ليصبح صعبا.
وقد تكون المشكلة في الأوهام التي استقرت في بعض الرءوس الجاهلة، مصداقا لقوله عليه السلام :
( ..حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) ( أخرجه
البخاري ) ، بأن كل حافظ لنصوص الفقه، أو حامل للفقه، حتى لو كان وعاء أو مسجلة،
فالرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
[ ص: 30 ] ( فرب حامل فقه إلى من هـو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ) (أخرجه
الترمذي وحسنه) ، لذلك فإن عملية الحفظ والشحن والتفريغ على الواقع دون إدراك استطاعته ليست فقها، وإنما نسخة مكررة من كتاب فقه، متحركة من عصر إلى عصر، ومن مجلس إلى مجلس.
لقد أدى مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محالها إلى الكثير من التناقض والتضاد، ودعا إلى التعسف في التعامل مع النصوص، نسخا وترجيحا، وما إلى ذلك، حيث ذهب بعض القائلين بالنسخ إلى اعتبار آية السيف ناسخة لم يربو عن مائة آية من آيات الدعوة والحوار والمجادلة بالتي هـي أحسن، في حين أن المشكلة - فيما نرى - هـي في فقه الحالة وما يلائمها من الحلول الشرعية،
ففى مرحلة وحالة قد يكون الحكم :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77 ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ( النساء:77 ) ،
وفي حالة قد يكون:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=190 ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) (البقرة:190) ،
وفي حالة التعبئة العامة:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=123 ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) (التوبة:123) ،
وفي حالة العاهد والموادعة:
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8 ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة:8) .
هذا من وجه، ومن وجه آخر فمن الفقه الإدراك بأنه لا بد من الإحاطة بمن المخاطب بإنفاذ الأحكام وتنزيلها، فهناك أحكام منوط تنفيذها بالسلطة المسلمة، كالحدود والتعزيرات والمعاهدات والحكم
[ ص: 31 ] والقضاء... فالخطاب فيها، بما يسمى عبارة النص عند علماء الأصول، للحاكم المسلم وأجهزته القضائية والسياسية والإدارية، ولذلك لا يمكن بحالة من الأحوال أن يقيم الفرد من نفسه بديلا عن الحاكم فيوقع الحدود ويعقد المعاهدات ويقاضي الناس، فيقطع يد السارق ويرجم الزاني ويقاص القاتل، وإنما نصيب الفرد من الخطاب، أو ما يسمى إشارة النص، هـو العمل بحسب استطاعته على إقامة الدولة التي تنفذ هـذه الأحكام.
وهناك أحكام منوط إنفاذها بالفرد، كما هـو معلوم، فلا يتحلل منها ويعطل الأحكام الشرعية بحجة غياب الدولة المسلمة، الأمر الذي يشكل النقيض لما سبق، وكلا الطيفين موجود على ساحة العمل الإسلامي.
كما أن هـناك أحكاما تمثل فروضا عينية مطلوبة من كل فرد، لا تبرأ ذمته ولا يخرج من عهده التكليف إلا بإقامتها، وأحكاما تمثل فروضا كفائية محلها المجتمع كله، إذا أداها بعض أفراده على الوجه الأكمل سقط الإثم عن الباقين، وهكذا فإنه لا بد من إدراك الحالة، ومواصفات الخطاب، ومن المخاطب، ومحال التنزيل، وتوفر شروط الاستطاعة.
وهنا نرى أنه لا بد من دفع التباس قد يتبادر لبعض الأذهان، وهو أن شريعة الله، بكل أحكامها، إنما تقع في حدود وسع المكلف، وأن التكليف من الله لا يكون إلا ضمن مقدور الإنسان بشكل عام، من أعلاها استطاعة إلى أدناها، لكن الأحكام تدور مع الاستطاعات، صعودا وهبوطا وكون الحكم يدور مع الاستطاعة دليل على أن
[ ص: 32 ] التكليف إنما هـو بحدود الوسع
لذلك نقول : إن التكليف ابتداء إنما يقع في حدود الوسع والاستطاعة، وأن الإنسان إذا استفرغ جهده واستطاعته فقد برأ ذمته وخرج من عهدة التكليف، وطبق الإسلام المشروع في حقه، ولو لم يستكمل جميع أحكامه. وبهذا نقول : بأن الإسلام يبدأ مع الإنسان من الحالة التي هـو عليها، ويترقى ويتدرج به، فإذا زادت استطاعته زاد تكليفه وهذا لا يعني الانتقاء من الأحكام، ولا تقطيع الصورة الإسلامية، ولا الدخول في غرف الانتظار لتقوم الدولة الإسلامية، والمجتمع المسلم، وإنما البدء من حدود الاستطاعة، في الوقت الذي يرى المسلم الصورة الشاملة، ويحدد موقعه فيها في ضوء استطاعته.
لذلك يمكن القول: بأننا منذ هـذه اللحظة وفي ضوء استطاعتنا، بإمكاننا أن نطبق الشريعة على أنفسنا من خلال الأحكام المستطاعة، ولا عذر لنا في عدم تطبيقها، ولا ننتظر وتنطلي علينا لعب الحواة بأننا لا نستطيع أن نطبق الإسلام إلا بعد تأهيل المجتمع ومعالجة مشكلاته القائمة، وندخل في النفق الطويل المظلم، وإنما نقول : بأننا نطبق ما نستطيع من الإسلام، ونؤهل المجتمع بالإسلام الذي نستطيعه، إذ كيف نؤهل المجتمع بقيم ومبادئ أخرى، ومن ثم يكون مستعدا لتطبيق الإسلام؟!
نعود إلى القول : بأن معرفة الوحي تمنحنا الدين، ومعرفة العقل تقدم لنا التطبيق والتنزيل، تمنحنا التدين، وفي ذلك لا بد من اعتبار معرفة
[ ص: 33 ] الوحي هـي المعيار ومعرفة العقل هـي محل المعايرة وموضوع المعايرة، وأن التباس هـذا الأمر يؤدي إلى اضطراب في المعايير - كما أسلفنا - وازدواج لها، وانحياز لأصحابها، وعدم استقرار لقيمها، وإن الدين الحق هـو في استمرار عملية التصويب والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتجديد، والمعايرة للواقع، وتقويمه بقيم الوحي، وأن نقد الواقع وصور التدين هـو علامة صحة وحراسة وتسديد، وهو تكليف شرعي لا يمس بعصمة الدين وقدسية نصوصه وصحتها وخلودها.
إن العدول عن معايرة صور التدين بقيم الدين، يؤدي إلى الانحراف والخروج والمغالاة والتحريف والتأويل.
وإن التباس صور التدين بنصوص الدين وعدم إدراك مواصفات الخطاب في الكتاب والسنة، ومحل الخطاب والاستطاعة، يؤدي إلى منح أصحابه ذرائع لسفك الدماء واستباحة الأعراض، باسم مصلحة الدعوة ونصرة الدين.
إن صور التدين المغشوش وغياب الفقه للنص ومحله، والاستطاعة وحدودها، والانفصال عن جسم المجتمع، والنزول إلى المخابئ باسم مصلحة الدعوة وحمايتها، عطل المشاورة والمناقشة والمراجعة والمثاقفة والمفاقهة، وأفرز بعض الزعامات التي قد تفتقر إلى الحد الأدنى من الزاد الشرعي، كما أفرز الكثير من الكتاب المتحمسين للقضية الإسلامية، الذين سارعوا إلى اقتحام الساحة بدون أدوات وزاد شرعي مطلوب، بدأوا في التنظير للعمل الإسلامي فأوقعوه في حفر وأسقطوه في جحور
[ ص: 34 ] لا يعلمها إلا الله، وساهموا سلبيا بحالات الارتباك والاضطراب وغياب المعايير الشرعية.
إن سوء الفهم للأحكام الشرعية ومنازلها، وفقه الحالات التي عليها الناس والمجتمعات، ودفقات الحماس التي لم تتوفر لها الأوعية الشرعية المناسبة أو المرجعية الشرعية الصحيحة التي تؤطرها، أدت إلى الكثير من المجازفات والممارسات والتضحيات والإساءات، والإسهام بإنهاك العمل الإسلامي، وإجهاض القيم، وشل حركة الدعوة إلى الله، وعزلها ومحاصرتها في المجتمعات باسم مصلحة الدعوة.
فباسم الدعوة قد تنهب الأموال، وتستباح الأعراض، وتستحل الدماء البريئة، وباسم مصلحة الدعوة والانتصار لها تدمر أجيال وتزهق أرواح، وتبدد طاقات، وتوضع تضحيات في غير محلها.. إن الفهم المغشوش للنصوص وعدم الفقه بمجالاتها، والإدراك لمحال تنزيلها، والعبث فيها، وعدم إدراك من المخاطب ومن هـو محل الخطاب، وغياب فقه الاستطاعات، والقدرة على تحديد موقع الاقتداء في السيرة، والفعل النبوي، أدى إلى العبث بالأحكام الشرعية
إنها رؤى عمية، ورايات عمية، حيث تحل الحزبيات محل العصبيات القبلية القديمة، فنخسر أنفسنا ونحن نظن أننا نحسن صنعا.
لذلك لا بد أن تقوم عمليات مراجعة جريئة وشجاعة تعيد للأطر الشرعية والمرجعيات اعتبارها، وللمعايير تحكيمها، ونعاود النفرة في
[ ص: 35 ] الدين لنصرة المظلوم برد الظلم، ونصرة الظالم بردعه، وندور مع الحق حيث يدور.
والكتاب الذي نقدمه يعتبر محاولة طيبة وتوجه لا يزال يستدعي الكثير من البحث والمتابعة والحوار والمناقشة والتشاور لتأطير العمل الإسلامي بمرجعياته في الكتاب والسنة، والاجتهاد للإفادة من التراث الفقهي المستصحب للنصوص بشكل خاص للإجابة عن مشكلات الحاضر، وتخليص العمل من بعض المجازفات المفتقرة لحسن التقدير والفقه الشرعي على حد سواء، وإبراز دور القواعد الفقهية كمناهج معينة تهتدي بها الاجتهادات وتسدد طريقها وتطمئن إلى سلامة السير.
وللأخ الباحث جهد دائب في التأسيس والتأصيل لأساليب الدعوة إلى الله وقضاياها، ومحاولات لضبط منهجها بقواعد ومحددات ومعالم واضحة، أملا في تخليصها من الكثير من الاضطراب والمسالك العشوائية.
وعلى الجملة يمكن القول : بأن ما قدمه الباحث لا يخرج عن كونه نوعا من الاجتهاد الذي يجري عليه الخطأ والصواب، ويكون محلا للمناقشة والحوار، ذلك أن الترجيح لوجهة على أخرى أو مسلك في العمل والدعوة على آخر قد يكون في كثير من الأحيان محل نظر، لأن الحالات المتنوعة والأحكام الشرعية المتعددة قائمة على التكامل وليس التقابل الذي يقود إلى الترجيح والنسخ والإلغاء، فلكل حالة حكمها الخالد الذي يستدعى كلما حصلت الحالة.
والله الهادي إلى سواء السبيل
[ ص: 36 ]
تقديم
بقلم : عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي جعل معرفة الوحي، والإيمان بالقرآن، سبيل الهداية إلى الرشد واكتمال العقل،
فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=1 ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=2يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ) (الجن:1-2) .
ووهب الإنسان العقل، وجعله وسيلة التحري والمقارنة والملاحظة والتجربة والاستدلال، للوصول إلى الإيمان بالله، الذي يعني غاية الكمال والرشاد،
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=14 ( فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ) (الجن:14) .
كما جعل إبلاغ وحي الله إلى البشر وترشيد سلوكهم بتعاليمه والدعوة إلى ذلك، طريق الرشاد، وسبيل النجاة في الدنيا والآخرة،
فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=22 ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنَ دُونِهِ مُلْتَحَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=72&ayano=23إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ ) (الجن :22-23) .
وصلى الله على نبي الهدى، الرحمة المهدأة، الذي وضع برسالته عنا إصرنا والأغلال التي كانت علينا الذي بعث بالحنيفية السمحة، وصوب مسيرة الإنسانية، وبلغ بها رشدها:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3 ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ) (المائدة :3)
، وحال دون مسلك التعنت والغلو والتكلف، الذي يؤدي إلى غياب التوازن
[ ص: 11 ] وانضباط النسب، والوقوع في الكفر والفسوق والعصيان، والجهالة في التعامل مع الذات و (الآخر ) . الذي بلغ بأصحابه الأنموذج مرحلة الرشد والكمال،
قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7 ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهِ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هـم الرَّاشِدُونَ ) (الحجرات :7) .
وبعد :
فهذا كتاب الأمة الثاني والثمانون (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي ) للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ، في سلسلة كتاب الأمة الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة
قطر ، مساهمة في إعادة بناء النخبة، عقل الأمة ودليلها إلى الرشد، وترشيد حركة العمل الإسلامي، وتوسيع دوائر الطائفة القائمة على الحق، واستنباتها والبلوغ بها جميع مساحات الحياة وآفاقها المتعددة، لتشكل الأنموذج المثير للاقتداء، وتجسد معاني الإسلام في حياتها، وتبرهن على خلوده وقدرته على الإنتاج العملي في كل زمان ومكان كما تسهم في استرداد دور الأمة المسلمة، وبعث فاعليتها، لتؤدي رسالتها في الشهادة والقيادة وتحقيق إنسانية الإنسان، واستنقاذ البشرية من أزماتها المتلاحقة، وفك قيود التقليد، ورفع الإكراه والتسلط، وإطلاق العقل لتحري الصواب واستبانة الرشد من الغي:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=256 ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) (البقرة :256) ، وتصويب معايير النظر للأشياء والأفعال والحكم
[ ص: 12 ] عليها، مهتدية في ذلك بقيمها التي تشكل مرجعيتها، وتتجلى في تجربتها الإنسانية التاريخية.
ولعل السؤال الكبير الذي يبقى مطروحًا باستمرار: هـل بلغ العمل الإسلامي مبتغاه، وحقق أهدافه؟ وهل عرف العاملون للإسلام كيف يتعاملون مع القيم الإسلامية، وعرفوا كيف ينزلونها على واقع الناس، بحسب الاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة، على مستوى الفرد والمؤسسة والأمة والدولة؟ أم أن هـناك الكثير من الإصابات والإخفاقات والاحباطات قد يكون سببها سوء التقدير للاستطاعة، أو للظروف المحيطة، أو للاثنين معًا، أو سوء الفقه للقيم الإسلامية، أو سوء الفقه للواقف محل الحكم والتنزيل، والانحباس ضمن بعض المحفوظات والاجتهادات الفقهية لعصر آخر، يختلف في كثير من مشكلاته وظرفه وإمكاناته؟
وهل الفشل والإخفاق كان كليًا، بمعنى أن العمل الإسلامي لم يحقق شيئًا يذكر من طموحاته وأهدافه، وأنه كان خارج الحياة والمجتمع، وانسحب وغزل نفسه عن التأثير في الأمة؟ أم أنه حقق بعض أهدافه، وأخفق في بعضها الآخر؟ وهل أفادته هـذه العزلة، وحققت الغرض عند من يراها، فكانت سببًا في النمو الذاتي وتوفير الجهود والإمكانات لتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية، والحماية من التأثير الاجتماعي، وإعادة التأهيل والتدريب على المعاني الإسلامية؟ وهل ربح العاملون أنفسهم بذلك وخسروا مجتمعاتهم؟ أم أن هـذه
[ ص: 13 ] العزلة فتحت الباب على مصراعيه لكثير من الأمراض والإصابات، ولم تورث إلا الانغلاق والتعصب والتشرذم والتحزب والعجب بالنفس، والتعالي على الناس، وتضييق مفهوم الأخوة الشامل، وقصور الرؤية الفقهية عن الإحاطة بقضايا الأمة، وكانت سببًا في تشكيل أجسام منفصلة عن الأمة يسهل اختراقها وضربها ومحاصرتها والكيد لها والإيقاع بينها، وسببًا في إغلاق أقنية الحوار والتواصل بينها، ليصبح بأسها بينها شديدًا؟
وعلى الجملة : هـل حصلت بعض الإصابات والإخفاقات للعمل، وتحققت بعض النتائج، فجاءت الحسنات لتذهب السيئات، وتستر السوءات، أم أن مشروعات العمل الإسلامي فشلت بإطلاق، على مستوى الفرد، والمجتمع، والأمة، والدولة ؟
هل استطاع العمل الإسلامي أن يؤسس نماذج مثيرة للاقتداء، أم وظف ليكون في خدمة أفراد بدل أن يكون الأفراد في خدمته؟ هـل استطاع أن يؤسس عملًا متميزًا عن الواقع الذي يعيشه الناس، حتى يتمكن من الارتقاء بهم إلى مستوى الإسلام، أم أنه حمل نفس الإصابات والأمراض، ولم يختلف عن الآخرين إلا بالعناوين، بينما يلتقي معهم بالمضامين؟
هل دليل النجاح وتحقيق الهدف ومعياره هـو الوصول إلى إقامة الدولة بشتى الوسائل، علمًا بأن الدولة بحد ذاتها لا تخرج عن أن تكون وسيلة للعمل للإسلام وليست هـدفًا بحد ذاتها؟ وهل إقامة الدولة بدون
[ ص: 14 ] شروطها ومقوماته نجاح أم بدء الارتكاس والسقوط إلى الهاوية، كحال الكثير من المبادئ والأحزاب والجماعات التي كانت الدولة إسقاطًا لها وسقوطًا لبادئها، على مستوى الإنسان والأرض، والأمة ؟
لا شك أن هـناك العشرات من علامات الاستفهام التي تحتاج إلى الكثير من التفكير والتأمل والبحث والتحليل، وذلك بامتلاك أدوات ذلك البحث ودقة التعامل معها، لتكون صالحة للعظة والعبرة والوقاية الحضارية.
إن الدراسة المتأنية، والتحليل الشامل، والتقويم السليم، في ضوء الإمكانات المتوفرة والاستطاعات المتاحة، والظروف المحيطة، والوسائل المستخدمة، والتحديد الأمين للسلبيات والإيجابيات المتحصلة، هـي السبيل إلى تحديد مواطن الخلل، والإفادة من المعالجة، والارتقاء إلى الأفضل.. أما التعميم بالقول : بأن العمل فشل، وأن المشروعات النهضوية لم تحقق غرضها، أو رفع شعار (أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان ) ، أو ما شاكل ذلك من الشعارات والذرائع، فهو نوع من العامية أو عمى الألوان، والعجز عن الفرز والتحليل، والعجز عن التقدير، وتكريس العلل والأمراض.
وهل الإشكالية الحقيقية تكمن في عدم التحديد بدقة للأهداف المرحلية، التي تتوازى مع الإمكانات والاستطاعات، محل التكليف، ومراعاة الظروف المحيطة، لتكون تلك الأهداف المعلنة معينة على تقويم العمل بدقة، والانتقال إلى المرحلة التالية، أو بناء اللبنة التالية، أم أن
[ ص: 15 ] الهروب إلى التعميم والسباحة في بحر بدون شواطئ والسير العشوائي يسهل التفلت من المسئولية، وتصعب معه عملية التقويم والمراجعة، ونستمر بالضجيج وضرب الطبول ورفع الأصوات، ونقتصر على المراوحة في مكاننا إن لم نتراجع؟
هل تطاولنا إلى طلب بلوغ أهداف لا تتناسب مع استطاعاتنا فأخفقنا، فلم نبلغ أهدافنا التي تطاولنا لها، وخسرنا بذلك التطاول ما كان يمكن تحقيقه من خلال استطاعتنا، أي خسرنا الموقعين معًا، حيث تركنا ما نملكه إلى ما لا نملكه ؟
وهل وصلنا إلى حد الإدراك والفقه بأننا مكلفون بحدود استطاعتنا ووسعنا
لقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16 ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (التغابن: 16) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286 ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ) (البقرة:286) ،
وأننا لسنا مكلفين ابتداءً بما يخرج عن استطاعتنا ولو كان من فروع الإسلام، لأن التكليف في هـذه الحالة يرد على غير محله ؟ وهل نمتلك القناعة والاطمئنان أننا إذا استنفدنا استطاعتنا ووسعنا فقد طبقنا الإسلام المطلوب منا في هـذه الحالة، أو المرحلة، وبذلك نعصم أنفسنا من الإحباطات ومرارات الفشل، ونضع لبنة على الطريق، ونرتفع بالبناء إلى وضع لبنة أخرى ؟
وأخيرًا، وليس آخرًا، هـل سألنا أنفسنا قبل الإقدام على أي عمل :
لماذا نعمل هـذا العمل؟ وما هـي أبعاده وخطتنا الواضحة ووسائلنا المدروسة؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( الأعمال بالنية ولكل امرىء ما نوى ) - والنية ليست عزم القلب على الفعل فقط، وإنما رؤية أبعاد الفعل وأهدافه ووسائله المشروعة-
( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) (أخرجه
البخاري ) .
[ ص: 16 ]
وكيف نعمل ؟ وذلك بحسن استخدام وتوظيف إمكاناتنا من خلال الظروف المحيطة.
وماذا نقدم من العمل في هـذه المرحلة، وماذا نؤجل ونؤخر ؟
ومتى نعمل؟ مقدرين عنصر الزمن.
وبعد ذلك كله، هـل تحققت أهدافنا التي ابتغيناها من العمل، أم لحقها خلل بسبب سوء التقدير للإمكانات المتاحة، أو للظروف المحيطة، أو المبالغة في حجم الأهداف؟ وكيف يمكن أن تعود تلك النتائج بالإتقان والحيطة والحذر والعبرة والوقاية من الخلل في أعمال قادمة؟
أعتقد - والله أعلم - أن الإحساس بالعلل والإصابات والإخفاقات، قد تكون الخلافات حوله بسيطة إلى درجة تكاد لا تذكر، لكن المشكلة في نظري تكمن في الإدراك لهذه العلل، والإحاطة بعلمها، وتحديد مواطنها، والجرأة في التصدي لها، والمصارحة بها، ومعرفة أسبابها، ومن تم إبصار العلاج الدقيق لها والارتداد إلى طريق الرشاد.
ذلك أن المحزن حقيقة أن الإصابات جميعًا تقع تحت مظلة الكتاب والسنة، ولا يعدم أي مسئول عنها من إيجاد المسوغات واختراع الذرائع التي يدفع بها المسئولية عن سوء أدائه أو سوء تقديره، ليصبح
[ ص: 17 ] الكتاب والسنة وبشكل غير مباشر المسئولان عن فشلنا.
وفي تقديري أن العشوائية والعُمِّية وسوء التقدير ما تزال تسيطر على أعمالنا- والله أعلم - وأن الحاجز النفسي الذي ما يزال يحول دون التقويم والمراجعة وتحديد مواطن الخلل، والتعرف إلى أسبابه، والفقه بالفتوى الشرعية للحالات المتنوعة، أو الحكم المقتضي التنزيل على الواقع للمعالجة، هـو الخلط والالتباس بين قيم الدين المعصومة في الكتاب والسنة وصور التدين، التي هـي ثمرة لاجتهادات البشر، الالتباس بين القيمة والذات، بين الحق والرجال، بين المعيار والموضوع، والظن أن أي نقد أو نقض أو مراجعة أو تقويم ومعايرة لصور التدين ومحاولة التصويب وبيان مواطن الخلل والتعرف على أسبابه تمهيدًا لمعالجتها يعني - فيما يعني - النيل من نصوص الدين المعصومة، والجراءة على الدين نفسه، لوجود هـذا التلبس والإصرار عليه من بعض العاملين للإسلام حماية لأنفسهم، أو الالتباس في بعض الأذهان، الأمر الذي يحول بينهم وبين طرح الصور التي قد تكون مشوهة أو مغشوشة، أو حتى مدسوسة، للمناقشة والنقد والتقويم.
إن بعض أصحاب الهالات والهيلمان الذين يعتبرون أنفسهم فوق النقد الذي خضع له صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى البدريين الذين غفر الله لهم، يرون في الاعتراض على تصرفاتهم أو فهوم بعضهم ومناقشتها، اعتراضًا على ما ينتسبون إليه من قيم، والاعتراض على القيم في نظرهم يؤدي إلى الاعتراض على الله منزل القيم – العياذ
[ ص: 18 ] بالله - وبذلك شاع مناخ السكوت عن النقد والتستر على الأخطاء، وتكرست الانحرافات، وتعطلت عمليات المراجعة والتصويب، وتوقف التجديد في الفهم بحسب الظروف والمتغيرات والمعطيات المعاصرة، علمًا بأن المراجعة والتقويم والتصويب لإعادة معايرة الواقع وتقويمه بقيم الكتاب والسنة، ونفي نوابت السوء، وإعادة النظر إلى قيم الكتاب والسنة وكيفيات تنزيلها بحسب الاستطاعات وفقه الواقع، هـو دين من الدين، أو تكليف شرعي، خاصة بالنسبة للرسالة الخاتمة، حيث توقف التصويب من السماء لصور التدين المنحرفة أو المغشوشة، التي تأتي ثمرة للتأويل أو التحريف، أو الغلو، أو التقليد، أو الغزو الثقافي.
لقد ناط الله سبحانه وتعالى التجديد والتصويب والتقويم بالإنسان المسلم، بما يمتلك من معايير معصومة خالدة في الكتاب والسنة، وذلك بفرضية حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كرقابة عامة في الأمة وعليها، كما كلف بموضوع المراجعة وانبعاث التجديد والإصلاح والترشيد من داخل الأمة ذاتها، بقوله عليه الصلاة والسلام :
( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (أخرجه
أبو داود في كتاب الملاحم، وصححه
السيوطي ) .
إن العقل والاجتهاد في ضوء هـدايات الوحي ومعايير الوحي الخالدة المعصومة، هـو المكلف بالتجديد والتقويم والمراجعة وتصويب صور التدين وفق قيم الدين، الأمر الذي كان منوطًا بتتابع النبوات في التاريخ - كما أسلفنا - فأصبح في الرسالة الخاتمة من مهمة العقل
[ ص: 19 ] من هـنا ندرك عظم المخاطر التي تترتب نتيجة لتوقف عمليات التقويم والمراجعة والترشيد لصور التدين، وما يمكن أن تنتهي إليه من السوء، وعلى الأخص عندما يقدم أصحابها تأويلًا لمسالكهم من القيم في الكتاب والسنة، الأمر الذي قد يلحق الإصابة بالقيم نفسها، والشك في قدرتها على الإحياء وانبعاث الأمة.
إن الخلط بين قيم الدين المعصومة وصور التدين الاجتهادية المظنونة التي يجري عليها الخطأ والصواب، حمل للعقل الإسلامي والواقع الإسلامي كثيرًا من الإصابات الفكرية والعلمية والدينية والثقافية والحضارية بشكل عام، لأنه قتل الفاعلية، وأطفأ جذوة الحياة الممتدة، وقضى على القلق السوي أو القلق الحضاري الذي يحدثه الفرق بين القيم والواقع، وأبقى على الواقع المتخلف، وعطل السنن الإلهية في تعاطي الأسباب ومغالبة قدر بقدر، وخرج بالأمة من ساحة الحياة، وحول ماضيها إلى موقع مستقبلها، لعجزها عن الإنجاز في الحاضر واستشراف المستقبل.
ونحن لا ننكر هـنا أن الكثير من محاولات النقد والمراجعة والتقويم لصور التدين التي تأتي من الخارج الإسلامي، أو من خارج الذات، أو من أناس لا يؤمنون بالقيم الإسلامية أصلًا في الكتاب والسنة، تخفي وراءها مكرًا شديدًا وعدوانًا مقنعًا، وفسادًا باسم الإصلاح.. لا ننكر أن هـدف هـذه المحاولات ظاهره فيه الرحمة وباطنه
[ ص: 20 ] من قبله العذاب، وأن ذلك نابع من رقبة النيل من القيم نفسها، لا من أصحابها، ولا يراد بها تصويب صور التدين، وإنما يراد النيل من الدين نفسه، لكن هـذا على خطورته إلا أنه لا يجوز أن يعتبر مبررًا لتوقف عمليات التحديد والمراجعة والتصويب والنقد وطرح صور التدين للحوار والمناقشة للوصول إلى السداد، بالسداد والصواب هـو الجدار الذي يحول دون النيل من الدين والتدين في نهاية المطاف.
وقضية أخرى لا بد من التوقف عندها، أو على الأصح لفت النظر إليها، وهي أن هـذه الصور والاجتهادات محل التقويم والتجديد والمراجعة إنما أنتجت في إطار القيم نفسها، وجاءت ثمرة لتنزيلها على الواقع، هـذا التنزيل الذي قد يصيب وقد يخطئ، لكنه على كل الأحوال إنما يتم ضمن الاعتراف بمشروعية القيم نفسها ومرجعيتها.. وهذا الاعتراف بالمشروعية يضمن لنا إيمان الجميع بهذه القيم ابتداءً، وإمكانية اعتمادها والقبول بها معيارًا للتقويم والتصويب، مهما كانت العقبات أمام ذلك من تحكم العادات والتقاليد وتضخم الذات، الأمر الذي يمنحنا إمكانات كبيرة للتغيير والإصلاح، وبذلك تفترق هـذه الاجتهادات عن صور التفكير والاجتهاد والإصلاح والتقويم الأخرى في الخارج الإسلامي، التي لا إطار ثابت لها ولا مرجعية متفق عليها لمعايرتها وتقويمها.
هذا من جانب، ومن جانب آخر جدير بالتدبر أيضًا أن القيم أو معايير التقويم هـنا ليست من وضع بشر، ولا من موافقاته ومواضعاته، وإنما هـي من مصدر خارج عنه، من الوحي، وبذلك فإن
[ ص: 21 ] المعيار المنزل من الله ثابت ومنضبط وغير منحاز، ولا يؤدي إلى تسلط واضعه على (الأخر ) ، إضافة إلى الإيمان به والاعتقاد بصوابه ودقته، واحترامه من داخل النفس، ذلك أن الإشكالية الكبيرة - فيما نرى - أن يكون المعيار من وضع الإنسان، وأن يكون الإنسان نفسه هـو موضوع المعايرة، الأمر الذي سوف ينتهي إلى الانحياز والقصور لعلم الإنسان المحدود، وعمره المحدود، والعوامل المتعددة المؤثرة عليه.
لذلك نقول : بأن الخطورة كل الخطورة أن ينقلب التدين إلى دين، وأن تنقلب صور التدين التي هـي ثمرة لاجتهاد الإنسان وفهمه إلى دين، وأن تنقلب المعادلة على عقبيها، حيث يُعرف الحقُ بالرجال بدل أن يُعرف الرجالُ بالحق، وعندها يصبح لكل إنسان معيار، ولكل إنسان كتاب وسنة، أو يصبح سلوك كل إنسان في منزلة الكتاب والسنة!
ولعل مما يتفرع عن ذلك ويترتب عليه أيضًا، أن تصبح القواعد والاجتهادات والآراء الفقهية أو الفكرية هـي المعيار والقيمة، حتى ولو كانت مستمدة من القيم نفسها، أو أن تحل محل القيم المعصومة، الموحى بها، لأن هـذه القواعد والاجتهادات نتاج بشري، يجري عليه الخطأ والصواب، والزيادة والنقص والتعديل، حتى من صاحبها نفسه، الذي لا يمكن أن يقف عقله وتقديره عند حالة ويتجمد عندها، وإنما هـو في نمو مستمر، لذلك لا يجوز أن يحل رأي الشارح مهما كان محل نص الشارع بحال من الأحوال، حتى ولو كان رأي الشارح مستمدًا من قول الشارع، فالمرجعية هـي قول الشارع في
[ ص: 22 ] الكتاب والسنة، بحيث تبقى هـذه القيم المعصومة، هـي المرجعية ومعيار التقويم لوزن ومعايرة اجتهادات البشر.
ونحن بهذا لا ننكر دور الاجتهادات والآراء والقواعد الفقهية والأصولية في البناء المنهجي وأهمية الإفادة منها واستصحابها لفهم القيم وكيفيات تنزيلها على واقع الناس، وإنما الذي ندعو إليه أن نستصحب القيم التي أنتجتها، ونفيد من هـذه الاجتهادات، بالعودة إلى القيم وإعمالها، وليس الاستغناء عن القيم بها، لأنها في النهاية من مواضعات البشر الذي يجري عليهم الخطأ والصواب - كما أسلفنا.
ونرى أنه من المفيد معاودة التأكيد أننا لا نطلب العودة إلى التعامل مع معايير بالقفز من فوق التراث، ممن يحسن ذلك ومن لا يحسنه، ذلك أن هـذه الفهوم المتعددة والكثيرة تمنحنا المنهج ونماذج مضيئة من التعامل مع الكتاب والسنة، وإنما نطلب بالعودة إلى الينابيع الأولى من خلال التراث نفسه.
لكن لا نعتبر هـذه الفهوم وهذا التراث بديلًا عن قيم الكتاب والسنة، والاستمرار في اجتهادات التنزيل على الواقع بكل متغيراته، مع الإفادة من تجارب الماضي.
ولقد لمح
الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله هـذه الأبعاد، وهو المشتغل باستقراء التاريخ الحضاري، والمسكون طيلة حياته بقضية وقصة الحضارة، نشوءًا وسقوطًا وشروط نهضة، حيث يرى، بعد الاستقراء المتنوع للحضارات المتعددة، أن الحضارة لا تنطلق إلى من
[ ص: 23 ]
الفكرة الدينية، التي تطبع الفرد بطابعها الخاص وتوجهه نحو غايات سامية، وأنه لا يمكن للحضارة أن تظهر إلا " في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجًا... تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام " .
وقد يكون من المطلوب في هـذا المجال أن نبين أن القيم أو المعايير في الكتاب والسنة، ليست مبادئ وقيمًا مثالية خيالية وأفكارًا مجردة بعيدة عن الواقع وقابلية التطبيق، وأن الإيمان بها والتطلع لها هـو محاولات حالمة بمجتمع فاضل أو مدينة فاضلة، وإنما الذي يميز هـذه القيم ويؤكد واقعيتها وقابليتها للتطبيق من خلال عزمات البشر وقدراتهم واستطاعاتهم وظروفهم، أنها تجسدت في حياة الرسول البشر صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، على مختلف الأصعدة، في مرحلة السيرة.
والملفت حقًا، أن تحصل من خلال الفهم والتطبيق صور للتدين تستدعي التصويب، كنوع من التدريب وبيان معالم شرعة التأسي، كما أنها طبقت وجسدت من خلال القرن المشهود له بالخيرية، ليكون ذلك دليلًا على قابليتها للتطبيق السليم، وبذلك يشكل تطبيق فترة السيرة وخير القرون معيارًا للفهم، ودليلًا لصور التدين السليم، وسبيلًا للتعامل مع القيم من خلال الواقع المتغير، لأن أصول المشكلات الإنسانية تكاد تكون واحدة تقريبًا.
لكن إشكالية التدين أو المشكلة عندنا، أننا اكتفينا بترديد
[ ص: 24 ] حديث
( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.. ) (أخرجه
البخاري ) ، والتفاخر بذلك الجيل القرآني الفريد، وحاولنا إسقاط ذلك على واقعنا بكل سلبياته - والإسقاط شيء، والتنزيل والمقاربة بحسب الاستطاعة شيء آخر - لمعالجة مركب النقص دون أن نجتهد لاستخلاص الصفات والخصائص التي كانت سبب تلك الخيرية، لتأهيل مجتمعاتنا وأفرادنا بها، تربية، وتعليمًا، وإعلامًا، وتقويمًا، ومرجعية، ومراجعة.
فالسيرة وخير القرون تشكل المرجعية التطبيقية أو مرجعية صور التدين، والقرآن والسنة يشكلان مرجعية قيم الدين.
وقضية أخرى، لا بد من فتح ملفها لمزيد من التدبر والتفاكر والتشاور والتثاقف أيضًا، وهي أننا نؤمن جميعًا ونسلم بقيم الكتاب والسنة أو نصوص الدين - ومصطلح النص هـنا يعني آية أو حديث صحيح، وبهذا المدلول، لا يمكن اعتبار أقوال المجتهدين ولا الفقهاء ولا قواعدهم قيمًا أو نصوصًا - لكن تبقى الإشكالية الكبيرة التي تدعو لمزيد من الاجتهاد، وقد تتعدد فيها الاجتهادات ووجهات النظر، ولا ينفع معها الحفظ ومجرد إيراد النصوص للاستشهاد، هـي في كيفية التعامل مع هـذه المعايير وتنزيلها على الواقع الملائم أو المستدعي لها، لتشكيل حلًا وتقويمًا له، أو معالم لطريقه ومسيرته.
ما هـو المعيار الملائم أو النص المقتضي التنزيل دون سواه لهذه الحالة، مع التسليم ابتداءً بأن جميع النصوص التي نزلت لجميع
[ ص: 25 ] الحالات هـي معايير لكن يبقى كل معيار لحالة أو لواقع معين، وإلا لما تنوعت النصوص وتعددت؟ ذلك أن الخلل في تنزيل المعيار أو تنزيل الحكم الشرعي على غير محله، لا يقل من حيث النتيجة عن الخطر في تجاوزه إلى معايير من الخارج الإسلامي.
ذلك أن تجاوز الحكم الشرعي إلى غيره يبقي الأمل مرجوًا في الإصلاح، حيث يستمر اعتقاد الناس أن التخلف والسقوط هـو بسبب الانسلاخ عن قيم الدين.. لكن تنزيله على غير محله، أو عدم اعتبار حالته، يحدث إشكالات ومخاطر قد لا تقتصر على الواقع وإنما تمتد لتنال من المعيار والحكم الشرعي ومدى الثقة به.
إن الاجتهاد في توافر شروط المحل لتنزيل الحكم، أو لاستدعاء الحكم لمعالجة الحالة، والاجتهاد في اختيار المعيار أو الحكم المناسب لهذه الحالة دون غيره، في هـذه المرحلة أو ما يمكن أن يسمى فقه الحالة، وفقه المعيار الذي يلائمها ويناسبها، لا يقل أهمية عن حفظ المعايير ونقلها وفقه مدلولاتها.
وفي اعتقادي أن الكثير من إشكالات العمل الإسلامي وتخبطه وارتباكه وإحباطاته وعدم نضجه ورشده الكامل، ناتج عن العجز في فقه الحالة تمامًا، وفقه الاستطاعة، وفقه الظروف.. ولعل مصطلح فقه الحالة يغني عن ذلك كله، إضافة إلى فقه المعيار وحسن اختياره للتنزيل على هـذه الحالة، ذلك أن المعايير كالأدوية والأمصال
[ ص: 26 ] واللقاحات الدوائية، وأن لكل داء دواءه، فإذا أصاب الدواءُ الداءَ برئ المريض بإذن الله، وإذا أعطي الدواء لغير دائه اشتد المرض، وقد يموت المريض.. فالعلة إذن ليست بوجود الأدوية وتعددها وتنوع الأمراض، وإنما العلة في تشخيص الحالة المرضية ووصف الدواء الملائم لها.. العلة في الطبيب المعالج.. واختيار الدواء الملائم لحالة المريض ودائه، واختيار دواء دون غيره، لا ينتقص من قيمة سائر الأدوية الأخرى، وإنما التعامل المغلوط معها هـو الذي ينتقص من قيمتها والثقة بها.
إن الأحكام الشرعية ومسيرة السيرة النبوية التطبيقية وسيرة خير القرون غطت المساحات البشرية جميعًا، في مجالات الدعوة والدولة، والسلم والحرب، والأسرة والمجتمع والأبوة والعلاقات الاجتماعية، والشدة المادية والرخاء، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، والتعامل مع (الآخر ) والمعاهدات الدولية، ووضعت لكل حالة حكمها..
فكم نلمح من الآفاق مثلًا بين قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77 ( كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ( النساء:77) ،
وقوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106 ( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (النحل:106) ،
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( فإن لم يستطع فبقلبه ) (أخرجه
مسلم ) ،
وبين قوله سبحانه وتعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=39 ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) (الأنفال:39)
وكم نكون أغبياء إذا تطاولنا إلى القتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، ونحن لا نأمن من الفتن على أنفسنا، ومن أن يتحول قتالنا
[ ص: 27 ] وتكون تحشيداتنا لتصنع فتنًا؟ ويحضرني هـنا " ما رواه
عبيد الله عن
نافع عن
ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة
ابن الزبير ، فقالا: إن الناس قد ضُيعوا وأنت
ابن عمر وصاحب النبي صلى عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم عليّ دم أخي، فقالا: ألم يقل الله :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=39 ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) ، فقال : (قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله » ( أخرجه
البخاري في كتاب التفسير) .
وكم نكون بائسين إذا نزلنا خطاب وقيم النصر على ساحة الهزيمة، وقيم الدعوة على مجال الدولة، وأحكام فترة الاستضعاف والتعايش مع الأصنام في مكة على لحظة الانتصار والتمكين في فتح مكة، ونزلنا ما ورد من نصوص في فساد وانحراف العقائد الأخرى على أساليب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وانطلاق الحوار من كلمة سواء ومجادلة ( الآخر ) بالتي هـي أحسن ومشروعية القبول به - والقبول لا يعني إقراره على ما هـو عليه - ونزلنا خطاب الحرب والتعبئة العسكرية على مساحات الحوار والإقناع والمجادلة بالتي هـي أحسن، ذلك أن تنوع مواصفات الخطاب القرآني بحسب الحالات التي يعالجها ويتنزل عليها يقتضي الفقه بذلك كله، وأن لكل حالة حكمها وحلها، أما مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محالها فسوف يؤدي إلى الكثير من التداعيات والمجازفات والإصابات وغياب الفقه والوعي والرشد.
[ ص: 28 ]
ونستطيع أن نقول هـنا : إن من الأهمية بمكان لعملية التنزيل التي نحن بصددها وما اصطلحنا على تسميته بفقه الحالة، استيعاب أسباب النزول للآيات وأسباب الورود للأحاديث، التي هـي أشبه بوسائل إيضاح مُعينة للتعامل مع النص، ومدى ملائمة المحل، وتوفر شروطه لتنزيل حكم النص الشرعي.
ولعل هـذا يمنحنا أيضًا ملمحًا لبعض حِكَم نزول القرآن منجمًا، ونزول الأحكام متدرجة لتناسب الأحوال والمحال التي عليها الناس واستطاعاتهم، وتترقى بهم من خلال أحوالهم، كما يمنحنا ملمحًا لبعض حِكَم عدم ترتيب آيات القرآن وسوره حسب أزمنة النزول، لأن أقدار التدين غير ثابتة، والظروف من حولنا غير ثابتة، واستطاعاتنا غير ثابتة، لذلك فالاستطاعة تستدعي الحكم أو النص الملائم، وليس قالب الزمن، على الرغم من أهميته، فقد يرتفع قدر التدين وتتعاظم الاستطاعة فيتعاظم التكليف والمسئولية، وقد يرتكس قدر التدين وتتدنى الاستطاعة لسبب أو لآخر فيكون من الأحكام الشرعية ما يوافق الاستطاعة، ولعل مشروعية الرخص والضرورات تنطلق جميعًا من هـذا المنطلق،
والله تعالى يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16 ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ( التغابن:16) .
إن هـذه الرحابة في الأحكام تمكّن من تغطية جميع مساحات الاستطاعة والإفادة منها وترتقي بها، حتى محل التكليف الواحد قد يأخذ حكمين مختلفين بحسب حالتيه المختلفتين.
[ ص: 29 ]
ففي عام المجاعة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخار لحوم الأضاحي للدّافة (الفقراء الذين يدفون على المدينة ) ، وفي عام الرخاء أباح ادخار لحوم الأضاحي فقال:
( .. إنما نهيتكم من أجل الدّافة التي دفّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا ) ( أخرجه
مسلم ) ، لذلك نرى أن الحكم يتردد بين الحظر والإباحة بسبب الحالة والمحل الذي عليه الناس، والحظر والإباحة حكمان شرعيان.
وكذلك قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم
لعمار بن ياسر رضي الله عنه عندما أكره على النطق بكلمة الكفر تحت شدة العذاب وخاف على نفسه،
فنزل:
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=106 ( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (النحل:106) ،
قرآن يتلى إلى يوم القيامة لأن حالة
عمار يمكن أن تتكرر حيث قال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فإن عادوا فعد ) (أخرجه
الحاكم وصححه) .
وهكذا نرى وكأن المحال والاستطاعات تستدعي الأحكام الشرعية المناسبة لها، والأحكام الشرعية المناسبة تنتشل الحالات، وترتقي بالاستطاعات، ليصبح الصعب سهلًا، ويتحول المستحيل بالنسبة للإمكانات ليصبح صعبًا.
وقد تكون المشكلة في الأوهام التي استقرت في بعض الرءوس الجاهلة، مصداقًا لقوله عليه السلام :
( ..حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ) ( أخرجه
البخاري ) ، بأن كل حافظ لنصوص الفقه، أو حامل للفقه، حتى لو كان وعاءً أو مسجلة،
فالرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
[ ص: 30 ] ( فرب حامل فقه إلى من هـو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ) (أخرجه
الترمذي وحسنه) ، لذلك فإن عملية الحفظ والشحن والتفريغ على الواقع دون إدراك استطاعته ليست فقهًا، وإنما نسخة مكررة من كتاب فقه، متحركة من عصر إلى عصر، ومن مجلس إلى مجلس.
لقد أدى مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محالها إلى الكثير من التناقض والتضاد، ودعا إلى التعسف في التعامل مع النصوص، نسخًا وترجيحًا، وما إلى ذلك، حيث ذهب بعض القائلين بالنسخ إلى اعتبار آية السيف ناسخة لم يربو عن مائة آية من آيات الدعوة والحوار والمجادلة بالتي هـي أحسن، في حين أن المشكلة - فيما نرى - هـي في فقه الحالة وما يلائمها من الحلول الشرعية،
ففى مرحلة وحالة قد يكون الحكم :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=77 ( كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ( النساء:77 ) ،
وفي حالة قد يكون:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=190 ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ) (البقرة:190) ،
وفي حالة التعبئة العامة:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=123 ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) (التوبة:123) ،
وفي حالة العاهد والموادعة:
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8 ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (الممتحنة:8) .
هذا من وجه، ومن وجه آخر فمن الفقه الإدراك بأنه لا بد من الإحاطة بمن المخاطب بإنفاذ الأحكام وتنزيلها، فهناك أحكام منوط تنفيذها بالسلطة المسلمة، كالحدود والتعزيرات والمعاهدات والحكم
[ ص: 31 ] والقضاء... فالخطاب فيها، بما يسمى عبارة النص عند علماء الأصول، للحاكم المسلم وأجهزته القضائية والسياسية والإدارية، ولذلك لا يمكن بحالة من الأحوال أن يقيم الفرد من نفسه بديلًا عن الحاكم فيوقع الحدود ويعقد المعاهدات ويقاضي الناس، فيقطع يد السارق ويرجم الزاني ويقاص القاتل، وإنما نصيب الفرد من الخطاب، أو ما يسمى إشارة النص، هـو العمل بحسب استطاعته على إقامة الدولة التي تنفذ هـذه الأحكام.
وهناك أحكام منوط إنفاذها بالفرد، كما هـو معلوم، فلا يتحلل منها ويعطل الأحكام الشرعية بحجة غياب الدولة المسلمة، الأمر الذي يشكل النقيض لما سبق، وكلا الطيفين موجود على ساحة العمل الإسلامي.
كما أن هـناك أحكامًا تمثل فروضًا عينية مطلوبة من كل فرد، لا تبرأ ذمته ولا يخرج من عهده التكليف إلا بإقامتها، وأحكامًا تمثل فروضًا كفائية محلها المجتمع كله، إذا أداها بعض أفراده على الوجه الأكمل سقط الإثم عن الباقين، وهكذا فإنه لا بد من إدراك الحالة، ومواصفات الخطاب، ومن المخاطب، ومحال التنزيل، وتوفر شروط الاستطاعة.
وهنا نرى أنه لا بد من دفع التباسٍ قد يتبادر لبعض الأذهان، وهو أن شريعة الله، بكل أحكامها، إنما تقع في حدود وسع المكلف، وأن التكليف من الله لا يكون إلا ضمن مقدور الإنسان بشكل عام، من أعلاها استطاعة إلى أدناها، لكن الأحكام تدور مع الاستطاعات، صعودًا وهبوطًا وكون الحكم يدور مع الاستطاعة دليل على أن
[ ص: 32 ] التكليف إنما هـو بحدود الوسع
لذلك نقول : إن التكليف ابتداءً إنما يقع في حدود الوسع والاستطاعة، وأن الإنسان إذا استفرغ جهده واستطاعته فقد برأ ذمته وخرج من عهدة التكليف، وطبق الإسلام المشروع في حقه، ولو لم يستكمل جميع أحكامه. وبهذا نقول : بأن الإسلام يبدأ مع الإنسان من الحالة التي هـو عليها، ويترقى ويتدرج به، فإذا زادت استطاعته زاد تكليفه وهذا لا يعني الانتقاء من الأحكام، ولا تقطيع الصورة الإسلامية، ولا الدخول في غرف الانتظار لتقوم الدولة الإسلامية، والمجتمع المسلم، وإنما البدء من حدود الاستطاعة، في الوقت الذي يرى المسلم الصورة الشاملة، ويحدد موقعه فيها في ضوء استطاعته.
لذلك يمكن القول: بأننا منذ هـذه اللحظة وفي ضوء استطاعتنا، بإمكاننا أن نطبق الشريعة على أنفسنا من خلال الأحكام المستطاعة، ولا عذر لنا في عدم تطبيقها، ولا ننتظر وتنطلي علينا لعب الحواة بأننا لا نستطيع أن نطبق الإسلام إلا بعد تأهيل المجتمع ومعالجة مشكلاته القائمة، وندخل في النفق الطويل المظلم، وإنما نقول : بأننا نطبق ما نستطيع من الإسلام، ونؤهل المجتمع بالإسلام الذي نستطيعه، إذ كيف نؤهل المجتمع بقيم ومبادئ أخرى، ومن ثمّ يكون مستعدًا لتطبيق الإسلام؟!
نعود إلى القول : بأن معرفة الوحي تمنحنا الدين، ومعرفة العقل تقدم لنا التطبيق والتنزيل، تمنحنا التدين، وفي ذلك لا بد من اعتبار معرفة
[ ص: 33 ] الوحي هـي المعيار ومعرفة العقل هـي محل المعايرة وموضوع المعايرة، وأن التباس هـذا الأمر يؤدي إلى اضطراب في المعايير - كما أسلفنا - وازدواج لها، وانحياز لأصحابها، وعدم استقرار لقيمها، وإن الدين الحق هـو في استمرار عملية التصويب والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتجديد، والمعايرة للواقع، وتقويمه بقيم الوحي، وأن نقد الواقع وصور التدين هـو علامة صحة وحراسة وتسديد، وهو تكليف شرعي لا يمس بعصمة الدين وقدسية نصوصه وصحتها وخلودها.
إن العدول عن معايرة صور التدين بقيم الدين، يؤدي إلى الانحراف والخروج والمغالاة والتحريف والتأويل.
وإن التباس صور التدين بنصوص الدين وعدم إدراك مواصفات الخطاب في الكتاب والسنة، ومحل الخطاب والاستطاعة، يؤدي إلى منح أصحابه ذرائع لسفك الدماء واستباحة الأعراض، باسم مصلحة الدعوة ونصرة الدين.
إن صور التدين المغشوش وغياب الفقه للنص ومحله، والاستطاعة وحدودها، والانفصال عن جسم المجتمع، والنزول إلى المخابئ باسم مصلحة الدعوة وحمايتها، عطل المشاورة والمناقشة والمراجعة والمثاقفة والمفاقهة، وأفرز بعض الزعامات التي قد تفتقر إلى الحد الأدنى من الزاد الشرعي، كما أفرز الكثير من الكتاب المتحمسين للقضية الإسلامية، الذين سارعوا إلى اقتحام الساحة بدون أدوات وزاد شرعي مطلوب، بدأوا في التنظير للعمل الإسلامي فأوقعوه في حفر وأسقطوه في جحور
[ ص: 34 ] لا يعلمها إلا الله، وساهموا سلبيًا بحالات الارتباك والاضطراب وغياب المعايير الشرعية.
إن سوء الفهم للأحكام الشرعية ومنازلها، وفقه الحالات التي عليها الناس والمجتمعات، ودفقات الحماس التي لم تتوفر لها الأوعية الشرعية المناسبة أو المرجعية الشرعية الصحيحة التي تؤطرها، أدت إلى الكثير من المجازفات والممارسات والتضحيات والإساءات، والإسهام بإنهاك العمل الإسلامي، وإجهاض القيم، وشل حركة الدعوة إلى الله، وعزلها ومحاصرتها في المجتمعات باسم مصلحة الدعوة.
فباسم الدعوة قد تنهب الأموال، وتستباح الأعراض، وتستحل الدماء البريئة، وباسم مصلحة الدعوة والانتصار لها تدمر أجيال وتزهق أرواح، وتبدد طاقات، وتوضع تضحيات في غير محلها.. إن الفهم المغشوش للنصوص وعدم الفقه بمجالاتها، والإدراك لمحال تنزيلها، والعبث فيها، وعدم إدراك مَن المخاطب ومَن هـو محل الخطاب، وغياب فقه الاستطاعات، والقدرة على تحديد موقع الاقتداء في السيرة، والفعل النبوي، أدى إلى العبث بالأحكام الشرعية
إنها رؤى عمية، ورايات عُمِيّة، حيث تحل الحزبيات محل العصبيات القبلية القديمة، فنخسر أنفسنا ونحن نظن أننا نحسن صنعًا.
لذلك لا بد أن تقوم عمليات مراجعة جريئة وشجاعة تعيد للأطر الشرعية والمرجعيات اعتبارها، وللمعايير تحكيمها، ونعاود النفرة في
[ ص: 35 ] الدين لنصرة المظلوم برد الظلم، ونصرة الظالم بردعه، وندور مع الحق حيث يدور.
والكتاب الذي نقدمه يعتبر محاولة طيبة وتوجه لا يزال يستدعي الكثير من البحث والمتابعة والحوار والمناقشة والتشاور لتأطير العمل الإسلامي بمرجعياته في الكتاب والسنة، والاجتهاد للإفادة من التراث الفقهي المستصحب للنصوص بشكل خاص للإجابة عن مشكلات الحاضر، وتخليص العمل من بعض المجازفات المفتقرة لحسن التقدير والفقه الشرعي على حد سواء، وإبراز دور القواعد الفقهية كمناهج مُعيِنة تهتدي بها الاجتهادات وتسدد طريقها وتطمئن إلى سلامة السير.
وللأخ الباحث جهد دائب في التأسيس والتأصيل لأساليب الدعوة إلى الله وقضاياها، ومحاولات لضبط منهجها بقواعد ومحددات ومعالم واضحة، أملًا في تخليصها من الكثير من الاضطراب والمسالك العشوائية.
وعلى الجملة يمكن القول : بأن ما قدمه الباحث لا يخرج عن كونه نوعًا من الاجتهاد الذي يجري عليه الخطأ والصواب، ويكون محلًا للمناقشة والحوار، ذلك أن الترجيح لوجهة على أخرى أو مسلك في العمل والدعوة على آخر قد يكون في كثير من الأحيان محل نظر، لأن الحالات المتنوعة والأحكام الشرعية المتعددة قائمة على التكامل وليس التقابل الذي يقود إلى الترجيح والنسخ والإلغاء، فلكل حالة حكمها الخالد الذي يُستدعى كلما حصلت الحالة.
والله الهادي إلى سواء السبيل
[ ص: 36 ]