الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
5- القاعدة الخامسة : ( المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة )

هذه القاعدة تكاد تكون متفقا عليها بين العلماء وإن لم يرد نصها عند كثير منهم، وقد صرح بها بهذا اللفظ الإمام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع [1]

.. وهي أصل في عقد الموازنات [ ص: 148 ] وترتيب الأولويات، وفي هـذا المعنى يقول الإمام ابن تيمية : ( فالعمل الواحد يكون فعله مستحبا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية. والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم ، وقال لعائشة رضي الله عنها : ( لو لا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع، ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه ) [2]

فترك النبي صلى الله عليه وسلم هـذا الأمر الذي كان عنده أفضل الأمرين للمعارض الراجح وهو حدثان عهد قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.

ولذلك استحب الأئمة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هـو عنده أفضل، إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنه فصل الوتر أفضل، بأن يسلم في الشفع، ثم يصلي ركعة الوتر، وهو يؤم قوما لا يرون إلا وصل الوتر، فإذا لم يمكنه أن يتقدم إلى الأفضل، [ ص: 149 ]

كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر، أرجح من مصلحة فصله مع كراهتهم للصلاة خلفه.

وكذلك لو كان ممن يرى المخافتة في البسملة أفضل، أو الجهر بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، ففعل المفضول عنده لمصلحة الموافقة والتأليف التي هـي راجحة على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزا حسنا.. وكذلك لو فعل خلاف الأفضل لأجل بيان السنة وتعليمها لمن لم يعلمها، كان حسنا) .

إلى أن قال : ( فهذه الأمور وإن كان أحدها أرجح من الآخر، فمن فعل المرجوح فقد فعل جائزا، وقد يكون فعل المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح أحيانا لمصلحة راجحة، وهذا واقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هـو في جنسه أفضل، قد يكون في مواطن غيره أفضل منه ) [3]

وقال في موطن آخر : ( وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك اعتقد أن ذلك لترك حقه، أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له، لأن ذلك أصلح لذات [ ص: 150 ] البين، وإزالة التباغض والشحناء ) [4]

ويقول : ( وقد استحب أحمد أيضا لمن صلى بقوم لا يقنتون بالوتر، وأرادوا من الإمام أن لا يقنت لتأليفهم، فقد استحب أحمد ترك الأفضل لتأليفهم.. وهذا كله يرجع إلى أصل جامع، وهو: أن المفضول قد يصير فاضلا لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميت قد يصير واجبا للمصلحة الراجحة ودفع الضرر، فلأن يصير المفضول فاضلا لمصلحة راجحة أولى ) [5] .

وما أحوج الدعاة اليوم إلى فقه هـذه القاعدة وتطبيقها في كثير من المواقف تأليفا للقلوب، ودفعا للفرقة والبغضاء، في وقت تمسك فيه بعضهم بما يراه في اجتهاده، على الرغم من ظهور النفرة منهم، وافتراق القلوب الصفوف بسببهم [6] [ ص: 151 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية