الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- القاعدة الثالثة : ( لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه )

وهي من القواعد المشهورة بين العلماء، امتلأت بها كتب القواعد الفقهية، وكتب الفقه والآداب والاحتساب، حتى كادت تكون محل اتفاق بين العلماء، اللهم إلا في بعض تفصيلاتها وقيودها [1]

وفي بيان معناها يقول الدكتور الزحيلي : ( المختلف فيه : هـو ما يقع بين المذاهب لاختلاف الأدلة، فلا يجب إنكار المختلف فيه لأنه يقوم على دليل، وإن ما يجب إنكاره فعل يخالف المجمع عليه، لأنه لا دليل عليه، وإن الإنكار المنفي في القاعدة مراد به : الإنكار الواجب فقط، وهو لا يكون إلا لما أجمع على تحريمه، وأما ما اختلف في تحريمه، فلا يجب إنكاره على الفاعل، لاحتمال أنه حينئذ قلد من يرى حله، أو جهل تحريمه ) .

ثم قال : ( وهذه قاعدة عظيمة متفرعة من أصل عظيم، لأن نسبة المختلف فيه إلى المحرم ليست بأولى من نسبته إلى المحلل، وهذا باعتبار استصحاب العدم الأصلي، وباعتبار الإنكار الواجب.. ) [2] [ ص: 143 ]

ويقول الإمام النووي : (..ثم العلماء، إنما ينكرون ما أجمع عليه الأئمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هـو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر : المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه.. ) [3]

وإن ما روي عن الإمام ابن تيمية - رحمه الله - من قوله : ( ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ) [4]

، فإنما يريد بذلك التفريق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد، ليخرج من القاعدة الخلاف الضعيف الذي ينكر، ومن هـنا قال السفاريني بعد نقله لكلام ابن تيمية هـذا : ( فأفهمنا رضي الله عنه : أنه إنما يتمشى عدم الإنكار في مسائل الاختلاف، حيث لم يخالف نصا صريحا من كتاب وسنة صحيحة صريحة، وإجماع قديم، وأما متى خالفت ذلك ساغ الإنكار.. وأفهم كلامه : أنه متى تعارضت سنتان، فلا يخلو، إما أن تقاربها في الصحة بحيث يسوغ العمل بها، وتصلح أن تكون دليلا، أولا ؟

فإن كان : فهي من مسائل الاجتهاد التي لا يسوغ الإنكار عليها، وإلا ساغ الإنكار.. ) [5] [ ص: 144 ] ومن هـنا صرح رحمه الله في الإجابة لما سئل عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد، فهل ينكر عليه أم يهجر، وكذلك من يعمل بأحد القولين ؟

فأجاب : ( الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإن كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم ) [6]

وقال في موطن آخر معقبا على القول بجواز الإنكار على المخالف: (..فأما أن مثل هـذه المسألة ونحوها من مسائل الاجتهاد، يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل، فهذا خلاف إجماع المسلمين ) [7]

وكذلك صرح الإمام ابن القيم بأن المراد من هـذا القول التفريق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد [8]

وما أحوج الدعاة اليوم إلى فقه هـذه القاعدة، وتطبيقها في مناهجهم وأساليبهم، فكم افترقت صفوف المسلمين اليوم من وراء الإنكار في بعض المسائل الاجتهادية، واختلف لذلك قلوبهم!! [ ص: 145 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية