الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا : إجراء تطبيقات عقدية على عدد من القواعد.

سأكتفي في مجال التطبيقات بالتطبيق على خمس قواعد فقط في كل جانب من الجوانب مراعاة لحجم البحث، فمن ذلك :

1- قاعدة ( ولكن من رضي وتابع ) .

هذه القاعدة جزء من حديث نبوي شريف أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ( عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم قال : لا ما صلوا ) [1] .

يقول الإمام النووي في شرحة : وقوله صلى الله عليه وسلم : ولكن من رضي وتابع معناه: ولكن الإثم والعقوبة على أن من عجز عن إزالة المنكر لا يأثم بمجرد السكوت، بل إنما يأثم بالرضى به، أو بأن لا يكرهه بقلبه، أو بالمتابعة عليه [2]

ويظهر من سياق الحديث الشريف، ومن كلام الإمام النووي أن هـذه القاعدة تتعلق بباب التعامل مع الأمراء، وبباب الأمر بالمعروف والنهي علن المنكر، وليس بباب العقائد، وإنما استشهدت بها في جانب العقيدة نظرا لاستخدام بعض العلماء لها في باب العقيدة من جهة [3] ، [ ص: 67 ]

، ولتعلقها بعمل القلب وهو الرضى والإنكار من جهة أخرى، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

ويؤخذ من هـذه القاعدة أن مناط التكفير أو التأثيم في مشايعة الكفر أو الإثم، إنما هـو في الرضى به والمتابعة عليه، وليس مجرد السكوت عنه، وذلك لأن السكوت لا يصلح دليلا قويا على المتابعة والرضى، فقد يسكت المرء عن منكر من المنكرات مهما كان كبيرا، لجهله بحكمه، أو لخوفه من صاحبه، أو لعدم قدرته على الإنكار باللسان أو اليد، أو لترتب مفسدة أكبر في نظره على إنكاره له.. وما إلى ذلك، فيكتفي بالإنكار بقلبه عن طريق بغضه له وسخطه على فاعله.

وكثيرا ما يغفل بعض الناس عن مثل هـذه القاعدة فيحكمون بكفر بعض الناس أو تأثيمهم بمجرد سكوتهم عن مكفر أو مفسق، غافلين عن خطر الخطأ في ميدان التكفير والتأثيم ولا سيما لم يكن أهلا لذلك! [4] .

2- قاعدة ( كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق ) . هـذه القاعدة وردت على لسان عدد من علماء السلف، أمثال ابن عباس رضي الله عنه ، وطاووس وغيرهما. [5] ،

" فعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) ( المائدة:44 ) ، قال : كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. " [6] [ ص: 68 ]

وعن طاووس وغيره: ( ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر ) [7]

وورد عن كثير من العلماء تقسيم الشرك إلى شرك أصغر وأكبر [8]

ومما دعا العلماء إلى مثل هـذا التفريق بين كفر وكفر، وشرك وشرك، ورود نصوص شرعية كثيرة تطلق وصف الكفر أو الشرك، أو الظلم أو الفسق، أو تنفي وصف الإيمان عمن ارتكب كبيرة من الكبائر، مثل ما ورد في سورة المائدة : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) ، ومثل ما أخرجه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) [9]

وما أخرجاه أيضا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم قسون وقتاله كفر ) [10]

، وما أخرجه الترمذي وحسنه من قوله [ ص: 69 ] صلى الله عليه وسلم : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) [11]

، إلى غير ذلك من نصوص شرعية وقعت بعض الفرق بسببها في تكفير مرتكب الكبيرة دون انتباه إلى مثل هـذه القاعدة [12]

ويكن توضيح معنى هـذه القاعدة فيما يأتي : إن كلا من الكفر والظلم والفسق يكون على درجات، فكل ما ثبت بنص شرعي أنه كفر أو شرك، ودلت الدلائل الشرعية الأخرى على أنه ليس كفرا أو شركا مخرجا من الملة، فهو كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وكذلك كل ما ورد فيه الوعيد بأنه: ليس منا، أو تبرأ منه الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو نفى عنه وصف الإيمان، ودلت الدلائل الشرعية الأخرى أنه ليس مخرجا من الملة فهو من الكبائر التي قد يقع فيها المؤمن، ولا تخرجه عن مطلق وصف الأيمان.

ومن هـنا قال الإمام أحمد رحمة الله : ( من أتى هـذه الأربع : الزنا السرقة وشرب الخمر، والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم، ولا أسميه مؤمنا، ومن أتي دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان ) [13]

ومن هـذه القاعدة يظهر خطأ الذين كفروا المسلم بمجرد اقتراف الكبائر دون تفريق بين المستحل لها وبين غيره، مما وقع فيه بعض [ ص: 70 ] المتقدمين وكثير من المتأخرين اليوم، اعتمادا على مثل هـذه النصوص المطلقة دون تقييد لها بما يجب تقييده بما تفيده النصوص الأخرى والقواعد الشرعية العامة.

ولعل من القواعد الفرعية التابعة لهذه القاعدة، قول جمهور علماء أهل السنة: ( كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا ) [14]

، ومما يؤكده قوله تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) (الحجرات:14) .

3- قاعدة : ( الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ) .

4- قاعدة : ( ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) .

5- قاعدة : ( كدر الجماعة، ولا صفاء الفرقة ) .

وقد جمعت بين هـذه القواعد الثلاث نظرا لقوة الترابط والتكامل بينها.

أما القاعدة الأولى فقد وردت عن الصحابي الجليل عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه ، ورويت مرفوعة، [15]

وهي صريحة ببيان حقيقة الجماعة التي أمر الشارع بالتزامها، وأنها لا تكون مع الكثرة دائما، فلا يجوز أن يترك المسلم الحق ويأخذ بالباطل، لقلة الآخذين بالحق، وانصراف الناس عنه، كما لا يجوز أن يتمسك المسلم بالباطل [ ص: 71 ] وينحاز إليه بحجة أخذ الناس به وانصرافهم إليه.

فالحق ثابت، وواجب الأخذ به دائما، ولا عبرة بالاجتماع على الباطل،

قال تعالى :

( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) (المؤمنون:71) ،

وقال : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) (الأنعام:116) .

والمراد بالحق هـنا : الثابت قطعا، الذي لا يشوب ثبوته احتمال، وكان على وجه لا يقبل اجتهادا ولا تأويلا، وهو الذي ورد النهي عن التفرق فيه والاختلاف حوله،

قال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) ( آل عمران:105) .

ولا يراد به الحق الاجتهادي أو ما يسمى صوابا عند المجتهد، لأنه مختلف في حقيته، فقد يكون صوابا عند مجتهد وخطأ عند آخر. فإن مثل هـذا الحق الاجتهادي لا تنبغي معاملته معاملة ذلك الحق البين، ولا يجوز الافتراق بسببه، كما لا تجوز المفاصلة فيه، لأنه وإن كان صوابا وحقا عند من رآه، فهو يحتمل الخطأ في ذاته، وقد يراه غيره خطأ، ولهذا ورد عن الأئمة رحمهم الله قولهم: ( مذهبي صواب ويحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ ويحتمل الصواب ) [16]

فلو ترك الناس جميعا حقا ثابتا، ووقعوا جميعا في إثم قاطع [ ص: 72 ] - كما لو استباحوا الخمر والزني والربا- فالواجب على المسلم أن يتمسك بالحق في ذلك ولو كان وحده، أما لو اختلف قولهم في مسألة اجتهادية، ورأى بعضهم أن الحق في كذا، وخالفهم فيه غيرهم، فلا يجوز أن تفترق صفوفهم بسبب هـذا الخلاف، فلكل طرف أن يتمسك بما يراه حقا، إذا لم تترتب على هـذا التمسك بالحق الاجتهادي مفسدة راجحة، وإلا فلا بد أن يتنازل بعضهم عن اجتهاده لاجتهاد الآخرين، لأن الاجتماع على خطأ اجتهادي في نظر البعض، أولى من التفرق على صواب اجتهادي عند الآخرين [17]

ومن الغفلة عن مثل هـذا الفرق بين الحقين ( القاطع والاجتهادي ) وقع بعض الناس في التعصب لما يرونه حقا باجتهادهم، وعاملوه معاملة الحق المطلق، وتمسكوا به وفاصلوا من خالفهم على أساسه، وإذا راجعهم أحد في موقفهم، وأنكر عليهم افتراقهم بسببه، احتجوا عليه بهذه القاعدة ( الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ) !! ناسين أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، الذي رويت عنه هـذه القاعدة، هـو نفسه الذي قال وروى : " مارآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " [18]

، مفرقا بين ما رآه المسلمون باجتهادهم أنه حق، وبين ما قرره الشارع وأثبت حقيته !! [ ص: 73 ]

ويمكن في نظري أن يعتبر القول الثاني لابن مسعود رضي الله عنه ، قاعدة تابعة لقوله الأول، فتشكلان معا ضابطا شرعيا مهما لموقف المسلم من القضايا الاجتهادية وغيرها، وتكونان معا قاعدتين مكملتين لقاعدة : ( يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار ) ، التي سبقت في أمثلة القواعد العقدية الواردة في الأحاديث النبوية .

كما يمكن أن يلحق بهذه القواعد ما روي " عن علي رضي الله عنه من قوله : (كدر الجماعة ولا صفاء الفرقة " [19]

، إذ تؤكد هذه القاعدة ما قررته قبل قليل من أن الاجتماع على خطأ اجتهادي في نظر البعض، أولى من التفرق على صواب اجتهادي عند آخرين .

وما أخرجه البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه يؤيد ترجيحه التنازل عن الرأي الاجتهادي في سبيل الألفة والاجتماع، فعن عبيدة " عن علي رضي الله عنه قال ( اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي " [20]

، وجاء في الفتح أن سبب قوله هذا : أن عليا كان لا يحبذ بيع أم الولد - كما كان يرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ثم رجع عن ذلك وقال بالجواز، فقال له عبيدة : " رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة " ، فقال علي ما قال. [ ص: 74 ]

وفي رواية " عن عبيدة : ( بعث إلي علي وإلى شريح فقال : إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم .. " إلى آخر قوله السابق ) [21]

مما يزيد أهمية هـذه القاعدة أنها صدرت عن علي رضي الله عنه ، الذي عانى أكثر من غيره من وراء خلافه مع معاوية رضي الله عنه في شأن الخلافة.. ولعل مثل هـذه النتيجة التي توصل إليها بعد خلاف طويل، ترك بصماته وآثاره على حياة الأمة في عهده وعهد من بعده إلى اليوم، هـي التي نبهت ولده الإمام الحسن رضي الله عنه إلى ضرورة التنازل عما يراه حقا إلى الطرف الآخر، فحقن بذلك الدماء، وجمع الكلمة، مؤثرا الاجتماع - على الرغم من الكدر الذي فيه - على ذلك الصفاء النسبي المتوهم أو العارض في ذلك الافتراق، بعد أن عايش وذاق مع والده رضي الله عنه ويلات الافتراق والاقتتال بين المسلمين.

ولعل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل في حق الحسن رضي الله عنه :

( إن ابني هـذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) [22]

، تأييدا صريحا لهذا الموقف، وتأكيدا لصحة معنى هـذه القاعدة [23] [ ص: 75 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية