الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- القاعدة الثانية : ( الميسور لا يسقط بالمعسور )

هذه القاعدة الفقهية نقلها السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر عن الأشباه والنظائر للتاج السبكي ، كما أوردها الحافظ ابن رجب [ ص: 139 ] الحنبلي في قواعده [1]

. وقال عنها السبكي : ( وهذه القاعدة من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منعه ما استطعتم ) [2]

، وذكر الإمام أن هـذه القاعدة من الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة [3]

ومعنى القاعدة : أن المأمور به إذا لم يتيسر فعله على الوجه المطلوب، بل تيسر فعل بعضه، فلا يسقط فعل هـذا البعض المتيسر بتعسر فعل البعض الآخر، أي : بعدم القدرة على فعل الكل، بل يجب فعل القدر المتيسر فعله [4]

ومن هـنا : وجب على من قدر على أداء الصلاة قاعدا، أو على جنب، أو بالإيماء، أن يصلي كما يستطيع، ولا تسقط عنه الصلاة جميعها، بسبب تعذر إتيان بعض أركانها..

فقد جاء في الحديث الشريف : ( عن عمران بن حصين قال : كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال : صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ) [5] [ ص: 140 ]

وإن من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها : ( المشقة تجلب التيسير ) [6]

، وهي تعبر عن خصيصة من خصائص الشريعة الإسلامية ألا وهي : التيسير ورفع الحرج.

وإن مثل هـذه القاعدة ( الميسور لا يسقط بالمعسور ) ، يمكن الاستفادة منها في جميع جوانب الحياة، ولا تقتصر على أحكام العبادات.. فإذا عجز الدعاة عن تحقيق أمر الله عز وجل في جميع جوانب الحياة لضعفهم أو لظروف خاصة بهم، وأمكنهم تطبيق أحكام الله في بعض الجوانب دون بعض، فلا يجوز لهم أن يتوقفوا عن تطبيق ما أمكنهم، نظرا لما عجزوا عنه من إقامة الدين كاملا، فما لا يدرك كله، لا يترك جله.

وكثيرا ما فهم بعض الدعاة خطأ مقولة مشهورة لبعض الدعاة وهي : ( خذوا الإسلام جملة، أو دعوه جملة ) فذهبوا إلى ترك الممكن والمتيسر منه، وانتظروا تيسر تطبيق الإسلام كاملا، أو وجهوا النقد الشديد اللاذع إلى من استطاع أن يطبق بعض الجوانب دون بعض غافلين عن مثل هـذه القاعدة الفقهية !

فهناك فرق بين من يستطيع أخذ الإسلام جملة، وبين من لم يستطع ذلك مع اعتقاده بوجوب الأخذ به جميعا، وسعيه إلى الأخذ به من جميع أطرافه، وبين من ظن أن بإمكانه أن يتخير من [ ص: 141 ] الإسلام بعض جوانبه، ويترك بعضها، فيأخذ بشيء ويترك أشياء، مشوها بذلك وحدة الإسلام وكماله، وهذا هـو الذي ينزل عليه قول : ( خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة ) .

ومن المتفق عليه أن وجوب القيام بالأحكام الشرعية مقيد بالعلم بها أولا، والقدرة عليه ثانيا فمن جهل بعض الأحكام الشرعية - وكان ممن يعذر مثله في الجهل - كان معذورا فيما قصر فيه، ومن علم بها ولكنه عجز عن القيام بها بسبب من الأسباب، كان معذورا فيما قصر فيه أيضا.

فلا تقام الحجة على أحد في ذلك إلا بالعلم والقدرة معا.

وإلى هـذا المعنى أشار الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في أكثر من موطن في فتاواه، وكان مما قاله في حق النجاشي : (..وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها، لم يكن له دخل فيه لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرون عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم..

إلى أن قال: وكثيرا ما يتولى الرجل من المسلمين والتتار قاضيا، بل إماما، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هـناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. ) [7]

. فما أحوج الدعاة اليوم إلى تفهم مثل هـذه القواعد ليكونوا على بصيرة في دعوتهم! [ ص: 142 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية