الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

الدكتور / محمد أبو الفتح البيانوني

التطبيقات الدعوية على بعض هـذه القواعد

1- القاعدة الأولى ( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص )

وهي من القواعد المشهورة المتفق عليها بين العلماء، صدرت بها مجلة الأحكام العدلية، حيث نصت المادة (14) من مواد المجلة عليها. [ ص: 121 ]

ويريد العلماء بها أنه : إذا ثبت نص ما في قضية، وكانت دلالته على معناه دلالة صريحة واضحة كأن يكون مفسرا أو محكما في اصطلاح الأصوليين، فلا يجوز الاجتهاد في هـذه القضية، ولا العدول عن دلالة النص الوارد فيها إلى معنى آخر.

(ذلك لأن الحكم الشرعي حاصل بالنص، فلا حاجة لبذل الوسع في تحصيله، ولأن الاجتهاد ظني، والحكم الحاصل به حاصل بظني، بخلاف الحاصل بالنص فإنه يقيني، ولا يترك اليقيني للظني ) [1]

ولا يقتصر حكم هـذه القاعدة على النص الشرعي، وإنما يشمل كل نص صريح واضح ورد في قضية من القضايا، سواء كان نص دستور أو قانون عام، أو كان نص فرد في عقد من العقود، أو نص جماعة وقيادة في موضوع من الموضوعات.

فعندما ينص الشارع مثلا على تحريم لحم الخنزير، أو تحريم نكاح المتعة وما إلى ذلك، فلا يجوز لأحد أن يجتهد في حكم هـذه المسائل فيقول فيها بخلاف ما جاء النص به، لأن من شروط الاجتهاد المقبول شرعا أن يكون في (محله ) ومحله : عند عدم وجود النص، أو عند ورود النص الظني المحتمل لأكثر من معنى. [ ص: 122 ]

وعندما ينص امرؤ في العقد على صفة معينة مشروعة، أو شرط محدد مشروع، ويقبل بذلك الطرف الآخر من أطراف العقد، يكون النص ملزما للطرفين، وليس لأحد أن يجتهد في قبول أو رد هـذه الصفة أو ذلك الشرط المنصوص عليه، إذ لا اجتهاد في مورد النص.

وعندما تنص جهة قيادية مسئولة في مؤسسة من المؤسسات على جواز فعل أو منعه بما لا يخالف الشرع، يجب على الأتباع والعاملين في هـذه المؤسسة التقيد بالنص، ولا تجوز لهم مخالفته أو الاجتهاد فيه بما يخرج عن دلالته.. وهكذا فإن أي اجتهاد في موارد مثل هـذه النصوص الصريحة الواضحة مردود على صاحبه، ويستحق فاعله الإثم والعقاب على هـذه المخالفة.

ولا يستثنى من ذلك إلا صاحب النص نفسه إذا أراد التغيير فيه بالطريقة المشروعة، أو من كان في منصب الإمامة والمسئولية عن تنفيذ هـذا النص في حالة ترتب مفسدة كبرى على تنفيذه، تزيد على مفسدة إهمال النص وعدم العمل به في تلك الحالة.

ولو سمح لكل إنسان أن يجتهد في مقابلة النصوص، لتعطل العمل بها، وفقدت النصوص مشروعيتها ومصداقيتها وضاعت دلالتها بين الناس.

قال الله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) (النور:63) .

وقال : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون [ ص: 123 ] لهم الخيرة من أمرهم ) ( الأحزاب:36) .

ومن هـنا كان على جميع الناس الرجوع إلى نصوص مرجعياتهم الشرعية والإدارية، والتقيد بما ورد فيها، والتحرز من الاجتهاد وتأويل النصوص الواردة في مثل هـذه المواطن، حتى لو خالفت مثل هـذه النصوص اجتهادهم، ما داموا ملتزمين بتلك المرجعية، ومعترفين بها، ولا يتعارض هـذا الوجوب عليهم في الطاعة والخضوع لهذه المرجعية، مع بيان رأيهم ووجهة نظرهم، ومحاورتهم ومناقشتهم، فإن الحوار والمناقشة شيء، والالتزام والطاعة والتقيد بالنص شيء آخر.

فكما أنهم لا يمنعهم الالتزام والتقيد بالنص من حقهم في المناقشة والحوار في المسائل الاجتهادية، فإنه لا يبرر لهم مخالفة رأيهم، ولا مناقشتهم للنص، الخروج على النص وعدم الالتزام به.

ولا يخفى الأثر الكبير لتفهم هـذه القاعدة في سلوك كثير من أتباع الدعوات والعاملين في المؤسسات المختلفة، تجاه قياداتهم ومسئوليهم، وفي تجلية مفهوم الطاعة في المعروف لديهم، حيث أسيء فهمه لدى كثير منهم، فخرجوا عن الطاعة، ووقعوا في المخالفة من حيث لا يشعرون.

2- القاعدة الثانية : ( الاجتهاد لا ينقض بمثله )

هذه القاعدة من القواعد المشهورة المتفق عليها بين العلماء، وقد وردت ضمن قواعد مجلة الأحكام العدلية في المادة السادسة من موادها. [ ص: 124 ]

ويريد بها العلماء : أن الاجتهاد في المسائل التي يجوز فيها الاجتهاد، لا ينقض بمثله من اجتهاد آخر، فلو قضى قاض في حادثة ما باجتهاده، ثم تبدل اجتهاده فيها فقضى فيما رفع إليه من حادثة جديدة مشابهة بغير ما قضى به سابقا، فإن اجتهاده الأول ثابت لا ينقض بتغير ذلك الاجتهاد. ذلك لأنه لو نقض الاجتهاد الأول بالثاني، لجاز أن ينقض الثاني بالثالث وهكذا..ولأنه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير، وذلك يؤدي إلى عدم الاستقرار.

وكذلك لو كان القاضي المخالف للحكم في الحادثة الثانية شخص آخر غير القاضي الأول، فلا يجوز له نقض قضاء القاضي الأول، بل يجب عليه تنفيذه، وله أن يحكم بغير ذلك في غير تلك الحادثة بما يراه.

واستثني من ذلك حالة صدور القضاء مخالفا لنص شرعي صريح، والتأكد من الخطأ في تطبيق الحادثة على الحكم الشرعي، فإنه ينقض مثل هـذا القضاء عملا بالنص الشرعي، وتداركا للخطأ الثابت، وما إلى ذلك من حالات خاصة [2]

واستدل العلماء على هـذه القاعدة بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، وأن أبا بكر رضي الله عنه حكم في مسائل [ ص: 125 ] خالفه فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم ينقض حكمه، " وأن عمر رضي الله عنه حكم في المسألة المشركة في الميراث بعدم المشاركة، ثم حكم فيها بالمشاركة بخلاف ما قضى في نظيرها سابقا، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال : (تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي، وقضى في الجد قضايا مختلفة.. " [3]

فقد روى الإمام ابن القيم رحمه الله " عن عبد الرزاق بسنده عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: ( قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأمها، وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب، والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل : إنك لم تشرك بينهم في عام كذا وكذا ؟ فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم، " فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني، فجرى أئمة الإسلام بعده على هـذين الأصلين ) [4]

ويؤيد هـذه القاعدة الدليل العقلي المقتضي ضرورة تحقيق الاستقرار في الحكام والقضاء، وسد باب الفوضى والاضطراب فيها، حيث تتحقق بهذه القاعدة الموازنة الصحيحة بين ضرورة [ ص: 126 ] الرجوع إلى الحق في الاجتهاد من جهة، وبين ضرورة استقرار الأحكام والأقضية من جهة أخرى.

ومن هـنا: لا يصح لأحد، فردا كان أو جماعة، أن يخرج على حكم قضاء سابق في قضية من القضايا إذا ما صدر فيها قضاء من أهله، بحجة تغير القضاء والاجتهاد فيها، وإنما على الجميع العمل بالاجتهاد الجديد والقضاء الثاني فيما يستجد من حوادث وقضايا، كما لا يصح أن ينظر إلى المسائل المقضي بها سابقا بالقضاء الأول على أنها خطأ يجب الرجوع عنه، أو إثم وقع فيه صاحبه، ذلك لأن الاجتهاد السابق ولو ثبت خطؤه في نظر صاحبه فيما بعد، أو في نظر غيره إنما هـو خطأ اجتهادي مأجور عليه صاحبه من جهة، ولأن الاجتهاد الجديد المخالف للقضاء السابق صواب اجتهادي ويحتمل الخطأ أيضا من جهة أخرى.

ومن هـنا جاء في الحديث الشريف : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) [5]

وبقدر فهم مثل هـذه القاعدة يحسن الدعاة التعامل مع الحكام والقرارات الصادرة عن قياداتهم ومسئوليهم في الشئون الدعوية وغيرها، ويدفع شر الاضطراب والفوضى في التعامل مع القرارات والاجتهادات المتغيرة. [ ص: 127 ]

3- القاعدة الثالثة: ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )

هذه القاعدة وردت في المادة (39) من قواعد مجلة الأحكام العدلية، وهي من القواعد المشهرة المتفق عليها أيضا بين العلماء.

ويريد بها العلماء: أن الأحكام الشرعية المبنية على الأعراف والأزمان، لا ينكر تغيرها إذا ما تغيرت تلك الأعراف السابقة في الأزمان اللاحقة [6]

.. وفي هـذا يقول العلامة ابن عابدين في رسالته (نشر العرف ) : (كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان أولا للزم المشقة والضرر بالناس، وخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه ) [7]

ولا بد لفهم هـذه القاعدة فهما صحيحا من التنبه إلى ضابط الأحكام التي تتغير بتغير الزمان، [ ص: 128 ] وفي هـذا يقول الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي : ( اتفقت كلمة المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، هـي الأحكام الاجتهادية التي بنيت على القياس ودواعي المصلحة، فإذا أصبحت لا تتلائم وأوضاع الزمان ومصلحة الناس وجب تغييرها، وإلا كانت عبثا وضررا، والشريعة منزهة عن ذلك ولا عبث فيها، أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها بنصوصها الأصلية: الآمرة والناهية، كحرمة الظلم والزنى والربا وشرب الخمر والسرقة، وكوجوب التراضي في العقد، ووجوب قمع الجرائم وحماية الحقوق، فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان، بل هـي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها، قد تتبدل باختلاف الأزمنة والمحدثات، فوسيلة حماية الحقوق مثلا وهو القضاء، كانت محاكمة تقوم على أسلوب القاضي الفرد، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية، فيمكن أن تتبدل إلى أسلوب محكمة الجماعة، وتعدد درجات الاحتياط، فالتبدل في الحقيقة في مثل هـذه الأحكام، ما هـو إلا تبدل الوسائل للوصول إلى الحق، والحق ثابت لا يتغير.. ) [8]

وخوفا من أن تفهم القاعدة على غير معناها الصحيح، رأي بعض العلماء أن تقيد عبارتها بقولنا : ( لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان ) [9]

.. ويحسن تقييدها في نظري بقولنا : ( لا ينكر تغير الأحكام المبنية على الأعراف والأزمان بتغير الأزمان ) دفعا للبس في ذلك من جهة، ولتشمل القاعدة الأحكام النصية المبنية على الأعراف الزمنية أيضا من جهة أخرى. [ ص: 129 ]

ولو تفهم الناس عامة والدعاة خاصة، هـذه القاعدة على حقيقتها لعملوا على تغيير كثير من آرائهم واجتهاداتهم الدعوية وغيرها، التي قامت على مصالح زمنية متطورة، أو أعراف محلية متغيرة، مما يحقق للدعوة الإسلامية أصالتها ومعاصرتها، ويخرج بها عن الجمود في جانب المناهج البشرية، والأساليب والوسائل المتغيرة.

ولكم نجد في دعاة اليوم من يتمسك بمثل هـذه المتغيرات في المناهج والأساليب والوسائل، باسم المحافظة والأصالة، ويتخرج من الخروج عليها والتغيير فيها تحرجه من الخروج على النصوص الشرعية الثابتة، والأحكام القاطعة، والمبادئ اللازمة !!

في الوقت الذي نجد فيه بعض الناس يخرجون على الثوابت والمبادئ باسم المعاصرة والحداثة، وإذا روجعوا في ذلك، احتجوا بمثل هـذه القاعدة، وفهموها على غير وجهها، ووضعوها في غير محلها!!

فلا بد من فهم دقيق لهذه القاعدة، ومعرفة صحيحة بتطبيقاتها، لتسلم للدعوة الإسلامية أصالتها، وتتحقق معاصرتها.

ومن هـنا قال القرافي : ( الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ) [10]

4- القاعدة الرابعة : ( درء المفاسد أولى من جلب المصالح )

وردت هـذه القاعدة في المادة (30) من مواد مجلة الأحكام العدلية، وهي قاعدة مشهورة متفق عليها بين العلماء. [ ص: 130 ]

ويرد بها العلماء : أنه إذا تعارض درء المفاسد مع تحقيق المصالح قدم درء المفاسد على جلب المصالح، لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة.. واستدلوا عليها بأدلة منها :

1- قوله تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) ( الأنعام: 108) ، حيث نهى الله سبحانه عن سب الكفار وآلهتهم مع ما فيه من مصلحة تحقير دينهم وإهانتهم، لما يتسبب عنه من مفسدة مقابلة سبهم بسب الله عز وجل [11]

2- ( قوله صلى الله عليه وسلم : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) [12]

، فإن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات [13]

3- ولأن للمفاسد سريانا وتوسعا كالوباء والحريق، فمن الحكمة والحزم القضاء عليها في مهدها، ولو ترتب على ذلك حرمان من منافع أو تأخير لها [14]

4- كما يدل لهذه القاعدة منهج الشارع في تدرجه في بيان الأحكام الشرعية، وعدم إنزالها جملة واحدة، على الرغم من المصالح [ ص: 131 ] المترتبة على التعجيل بها، نظرا لما قد يترتب على ذلك من جلب مفاسد من وراء ذلك التعجل، كما صرح بذلك " حديث عائشة رضي الله عنها ، فقد روى البخاري عنها قولها في نزول القرآن الكريم : ( إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا : لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا : لا ندع الزنا أبدا " [15] وقد فرع على هـذه القاعدة أحكاما كثيرة، وانبثقت عنها فتاوى عديدة في موضوعات متنوعة

كما يحتاج إليها الدعاة كثيرا في موازناتهم الدعوية، ولا سيما عند تعارض المصالح والمفاسد،وعدم إمكان الجمع بين تحقيق المصلحة ودرء المفسدة.. فكثيرا ما يندفع بعض الدعاة إلى تحقيق مصلحة دعوية في اجتهادهم، غافلين عن المفاسد المترتبة على ذلك، مما يجعلهم في نهاية الأمر نادمين على ما أقدموا عليه !!

فكم من مفاسد عامة، ومنكرات كبرى ترتبت على إنكار منكر جزئي، أو جلب مصلحة عاجلة !

من هـنا كان من الضروري أن تترك الموازنات الدعوية الدقيقة في القضايا الكبرى الشائكة لأهل العلم والفقه، وأهل الحل والعقد في الأمة، الذين يحسبون لكل أمر حسابه، ولا تعميمهم المصالح العاجلة [ ص: 132 ] عن رؤية المفاسد الآجلة، ولا يدفعهم الحماس إلى حرق المراحل، واستعجال النتائج.

وعلى هـذا ينزل " قول الإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لولده عبد الملك لما سأله ( مالك لا تنفذ الأمور؟ فو الله لا أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق ؟ قال عمر : لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة " [16]

ويقول الإمام ابن تيمية - رحمه الله - مؤكدا هـذه القاعدة : (..ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هـو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات، وترك واجب، أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب.. وإذا كان قوم على بدعة وفجور، ولو نهوا عن ذلك وقع شر أعظم مما هـم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة، لم ينهوا عنه ) [17]

وقد سبق أن فصلت في هـذه المسألة، وتوسعت في النقول عن العلماء فيها، في كتاب : (جهاد الكلمة ) ، فيرجع إليه من شاء [18] [ ص: 133 ]

5- القاعدة الخامسة : ( لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح )

وردت هـذه القاعد في المادة (13) من مواد مجلة الأحكام العدلية، وهي قاعدة مشهورة متفق عليها بين العلماء.. ويريد بها العلماء : أنه إذا دلت الأحوال والقرائن على إرادة معنى معين يخالف ما صرح به، قدم التصريح على الدلالة، لأنه أقوى، ولأن دلالة التصريح يقينية، ودلالة الحال والقرائن ظنية، واليقين مقدم على الظن [19] وقد فرع عنها الفقهاء أحكاما فرعية كثيرة تعرف في محالها من كتب الفقه والقواعد.. وإن لهذه القاعدة آثارا عملية كثيرة في مختلف المجالات، إذا ما فهمت على وجهها الصحيح.

فلو صرح إنسان ما بأمر في مسألة عقدية أو فقهية أو دعوية، ثم دلت بعض تصرفاته وأحواله على خلاف ما صرح به، فلا يصح أن يحكم عليه بتلك التصرفات والأحوال، ويترك ذلك التصريح، فينسب إليه ما فهم من القرائن والأحوال والتصرفات.. لأن هـذه القرائن والأحوال والتصرفات تحتمل في دلالتها أمورا عديدة من خطأ أو نسيان، أو غفلة عن مقتضيات ذلك التصريح، مما يجعل دلالتها دلالة ظنية لا تقوى على معارضة دلالة التصريح الصادرة عنه..

اللهم إلا إذا روجع في ذلك، وصرح بخلاف ما كان قد صرح به [ ص: 134 ] سابقا، تصريحا ينسجم مع ما دلت عليه تصرفاته وأحواله..

ويمكن أن يلحق بهذا : ما لو صرح إنسان ما في مكان ما في كتبه بقول أو حكم بلفظ قاطع صريح، وداء في كلامه في موطن آخر ما يفهم منه غير ذلك، وليس صريحا في دلالته، فلا يصح أن تعتمد في حقه هـذه الدلالة، وترك النص الصرح القاطع، لأن اللفظ الصريح القاطع يقين، والدلالة المفهومة من اللفظ المحتمل شك، واليقين لا يزول بالشك.. ومن هـنا قدم الأصوليون : دلالة عبارة النص على دلالة الإشارة والدلالة والاقتضاء، عند التعارض، نظرا لقوة الدلالة الأولى على الثانية، وهكذا.

ومن الغفلة عن مثل هـذه القواعد وقع بعض الناس في أحكام خاطئة على بعض العلماء والدعاة، فنسبوهم إلى ما لم ينتسبوا إليه، ولقبوهم بألقاب لم تخطر لهم على بال، عملا بدلالة بعض مواقفهم وأحوالهم في اجتهاداتهم، وتجاهلوا ما صرحوا به في مواطن أخرى مما يدفع الظن والشك.. ولو أنصف أمثال هـؤلاء، لقدموا دلالة التصريح على دلالة الأحوال والتصرفات، وقدموا حسن الظن بالعلماء والدعاة على إساءة الظن فيهم، وحملوا حالهم على الأحسن دائما..

قال تعالى: ( وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) (النجم:28) ..

وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) (الحجرات:12) .

وجاء في الحديث الشريف : ( حسن الظن من حسن العبادة ) [20] [ ص: 135 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية