أ- التعريف بالقواعد الشرعية، وأنواعها ونشأتها وتطورها
لا بد للوقوف على تعريف للقواعد الشرعية من الوقوف على تعريف القواعد بوجه عام.. فالقواعد لغة : جمع قاعدة، ومن معانيها اللغوية: (الأساس ) ،
ومنه قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ( البقرة:127) ،
ومن معانيها أيضا : (الضابط ) ، وهو الأمر الكلي ينطبق على جزئيات [1]
أما القاعدة اصطلاحا، فهي : ( قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها ) [2]
، وتطلق على معان ترادف الأصل والقانون، والمسألة والضابط والمقصد.. ويظهر لمن تتبع موارد الاستعمالات : أن القاعدة هـي الكلية التي يسهل تعرف أحوال الجزئيات منها [3]
وتتعلق القاعدة بمختلف العلوم، فهناك قواعد أصولية وفقهية ونحوية، وهناك قواعد شرعية وعقلية وقانونية.. فلكل علم قواعده.
ومن مثل هـذه التعريفات السابقة يمكننا تعريف القواعد الشرعية بأنها: (أحكام شرعية كلية تنطبق على أحكام فرعية متنوعة ) ، وهو [ ص: 43 ] التعريف القريب المشابه لتعريفات أكثر العلماء الذين عرفوا القواعد الفقهية والأصولية، مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه وقيوده [4]
وهذا التعريف الذي اخترناه للقواعد الشرعية، أكثر شمولا من غيره لجميع أنواع القواعد الشرعية التي نتحدث عنها في هـذا البحث، لتشمل القواعد العقدية، والعبادية والتعاملية، والخلقية، والدعوية، وغيرها سواء اتخذت طابع القواعد الفقهية أو الأصولية.. أو كانت مما يعد من الضوابط أو القواعد..
وذلك مثل قوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) (هود:114) ،
وقوله : ( إن مع العسر يسرا ) (الشرح:6) ،
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) [5]
، وقوله: ( لا ضرر ولا ضرار ) [6]
وقول الأصوليين : ( الأمر للوجوب، والنهي للتحريم ..) ، وقول الفقهاء : ( الأمور بمقاصدها ) ، و ( المشقة تجلب التيسير ) ، و ( العادة محكمة ) ، وقول بعض الدعاة: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) ، وقول بعضهم : ( نحن دعاة لا قضاة ) ، وهكذا. [ ص: 44 ]
أنواع القواعد الشرعية وأقسامها
اختلفت أساليب العلماء في تقسيم القواعد الشرعية، تبعا لاختلاف موضوعاتها المتعلقة بها من جهة، وبحسب الحيثيات التي اعتبرت في التقسيم من جهة أخرى [7]
ولعل أقدم وأشهر تقسيم لها هـو تقسيمها إلى قواعد أصولية وقواعد فقهية، وخص بعضهم القواعد الشرعية الكبرى الخمس، وهي: ( الأمور بمقاصدها ، والضرر يزال ، والمشقة تجلب التيسير ، واليقين لا يزول بالشك ، والعادة محكمة ) ، بوصفها القواعد الكبرى، أو بأمهات القواعد الفقهية، نظرا لعمومها وشمولها لغيرها من القواعد الفرعية والأحكام الكثيرة، ومنهم من ألحق بها سادسة أو سابعة.
وقد اتجه أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله - في كتابه (المدخل الفقهي العام ) إلى تنسيقها وتنظيمها، فجعلها في قسمين أساسين، هـما : قواعد أساسية.. وقواعد فرعية.
ووزع القواعد التسع والتسعين التي صدرت بها مجلة الأحكام العدلية على هـذين القسمين، فكان منها أربعون قاعدة أساسية، وتسع وخمسون قاعدة فرعية، ثم وزع القواعد الفرعية على القواعد الأساسية بحسب طبيعة موضوعها ومتعلقاتها [8] [ ص: 45 ]
ولكن الذي أختاره في تقسيم القواعد الشرعية عامة: أن تقسم إلى قسمين أساسين: (قواعد شرعية عامة ) و (قواعد شرعية خاصة ) .
وأريد بالقواعد العامة : ( القواعد الشرعية المتعلقة بجميع الجوانب الشرعية المتنوعة أو بمعظمها، وإن غلب استخدامها في جانب خاص من الجوانب الشرعية أو أكثر ) ، وذلك مثل : أمهات القواعد الفقهية الخمس، وكثير من القواعد الأصولية والفقهية، والعقدية والعبادية، والخلقية والدعوية..
فإن هـذه القواعد وأمثالها يحتاج إليها العالم والباحث في مختلف العلوم، وتصلح أصولا وضوابط لمختلف تلك العلوم أو معظمها، سواء أكانت عقدية أم عبادية أم دعوية، على حد سواء، دون تفريق بين علم وآخر - وإن غلب عليها الاستعمال في جانب من جوانب تلك العلوم دون غيره بعض العصور والأزمان - وذلك نظرا إلى العلاقة الوثيقة بين مختلف العلوم الإسلامية والأحكام الشرعية من جهة، ولكونها قواعد شرعية عامة تتعلق بالحكم الشرعي المتعلق بجميع أفعال المكلفين والعباد، دون تفريق بين جانب وآخر، من جهة أخرى
فقاعدة ( الأمور بمقاصدها ) وقاعدة ( الأمر للوجوب ) مثلا، قواعد يحتاج إليها في الجانب العقدي، كما يحتاج إليها في الجانب العبادي والخلقي والدعوي.. ويستدل بها وبأمثالها على أحكام فرعية كثيرة في مختلف الجوانب، وإن غلب على تسمية القاعدة الأولى اسم القاعدة الفقهية، وعلى الثانية اسم القاعدة الأصولية.. وهكذا. [ ص: 46 ]
وأريد بالقواعد الخاصة : (القواعد التي يغلب عليها التعلق بجانب خاص من الجوانب الشرعية، فيحتاج إليها في علم من العلوم أكثر من غيره ) ، وذلك كالقواعد الأصولية والفقهية والعقدية والعبادية والدعوية.. وما إلى ذلك.
ثم يأتي تقسيم القواعد الشرعية بنوعيها العام والخاص إلى قواعد أساسية، وأخرى فرعية، وذلك بحسب درجة شمولها أو اقتصارها على أحكام محدودة.. فتكون القواعد الأساسية أشبه ما تكون بأساس للقواعد الفرعية، وتكون القواعد الفرعية أشبه ما تكون بالضوابط الفقهية أو الضوابط الأصولية والدعوية وغيرها.. وإن كلا من القواعد السابقة (العامة منها والخاصة، والأساسية منها والفرعية ) قد يكون دليلها نصا شرعيا معينا،
مثل قوله تعالى : ( والصلح خير ) (النساء:128) ،
أو قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) [9]
وقد يكون دليلها اجتهاديا مستنبطا من مجموعة النصوص الشرعية وعللها، أو من مختلف الأدلة الشرعية النقلية منها والعقلية مثل : المشقة تجلب التيسر و العادة محكمة .
كما قد تكون من المتفق عليه بين العلماء أو المختلف فيه.. إلى غير ذلك من صفات وسمات يمكن من خلالها تقسيم القواعد [ ص: 47 ] الشرعية إلى أقسام أخرى، وتصنيفها إلى عدة أقسام بحسب الحيثية التي ينظر إليها الباحث فيها والمصنف لها.
فإنه بهذا التقسيم الجديد للقواعد الشرعية يجتمع شتات القواعد كلها في إطار شرعي واحد، كما يتم توزيعها على جميع الجوانب الشرعية المحتاجة إليها، لتعمل جميعها عمل القواعد الأصولية والفقهية في مجالها، فتكون قواعد ضابطة، ومعالم مفهمة للأحكام الشرعية المتعلقة بها، دون تفريق بين أنواعها، فلا يؤدي هـذا التقسيم إلى إهمال القواعد العقدية أو الدعوية أو الخلقية من خلال العناية بالقواعد الأصولية والفقهية الغالبة، كما حدث ويحدث في الأوساط العلمية والعملية.
ويمكننا بعد هـذا التوضيح تصور تقسيم القواعد الشرعية على الوجه التالي :
ومما يجدر التنبيه إليه : أن وصف القواعد الشرعية ( بالكلية ) - كما جرى على ذلك كثير من الكاتبين فيها - لا يفيد تأسيس وصف جديد لها، وإنما يؤكد معناها الأصلي الذي سبق أنه ( قضية كلية.. ) ، ومن هـنا استغنيت عنه مكتفيا بوصفها بالشرعية، تمييزا لها عن غيرها من القواعد اللغوية والعقلية المجردة، وتعميما لها على مختلف الجوانب الشرعية المتعلقة بها، مع التسليم بأن التقسيم هـنا قضية اصطلاحية اجتهادية، ولا مشاحة في المصطلحات.
نشأة القواعد الشرعية وتطورها
نمكن إرجاع نشأة القواعد الفقهية إلى ( جوامع الكلم ) في القرآن والسنة، حيث وردت آيات كريمة، وأحاديث شريفة تشبه القاعدة في أسلوبها وصياغتها، وذلك من حيث الكلية والشمول..
وإذا كانت جوامع الكلم عبارة عن : (عبارات قصيرة تحمل معاني عظيمة ) فإن في كلام الله تعالى، وكلام رسوله الأمين، كثيرا من جوامع الكلم هـذه التي تحمل في طياتها وجوها كثيرة من البلاغة والإعجاز.
فما أبلغ وأجمل قول الله تعالى: ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) ( الأعراف:199) ،
وقوله: ( ما على المحسنين من سبيل ) (التوبة:91) ،
وقوله عز وجل : ( والصلح خير ) ( النساء:128) ،
وقول رسوله صلى الله عليه وسلم : ( العجماء جرحها جبار ) [10] [ ص: 49 ]
وقوله: ( لا ضرر ولا ضرار ) [11]
، وقوله : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) [12] ، إلى غير ذلك من نصوص كثيرة أشار إليها صلى الله عليه وسلم في حديثه عن بعض خصائصه، حيث يقول: ( أوتيت جوامع الكلم.. ) [13]
ولا غرابة أن يتأثر بالأسلوب القرآني والنبوي كبار الصحابة الكرام، وعلماء الأمة العظام، فتجري على ألسنتهم أمثال تلك العبارات الجامعة، ولا سيما في مقام الفتوى والقضاء !
فقد أخرج البخاري في صحيحه " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : مقاطع الحقوق عند الشروط " [14] ، كما روي " عن القاضي شريح الكندي قوله : من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه " [15]
وقد ملئت كتب المتقدمين من العلماء بأمثال تلك الأقوال الجامعة التي [ ص: 50 ] تعد أصولا لكثير من القواعد الفقهية التي صيغت فيما بعد [16]
ولقد جرى بعض الباحثين على تقسيم تاريخ نشأة القواعد الشرعية إلى ثلاثة أطوار أساسية هـي:
طور النشوء والتكون، وذلك من ( زمنه صلى الله عليه وسلم إلى أواخر القرن الثالث الهجري ) .
طور النمو والتدوين، وذلك من ( أوائل القرن الرابع إلى أواخر القرن الثالث عشر ) طور الرسوخ والتنسيق، وذلك من ( أوائل القرن الرابع عشر إلى يومنا هـذا ) [17]