المبحث الثاني: أدلة اعتبار المقاصد
في النصوص الشرعية -كما في المظاهر الكونية- شواهد كثيرة تشهد أن الله تعالى ما كون الكون وخلق الخلق وأنزل الشرائع وأرسـل الرسل إلا لمقاصد لا تستقيم الحياة الدنيا ولا الأخرى إلا بتحقيقها، ويمكن حصر هـذه الشواهد في مجالين: حكمة الله تعالى من الخلق، واستقراء أدلة الأحكام الشرعية.
أولا: حكمة الله تعالى من الخلق وإرسال الرسل
مما لا ريب فيه أنه ما من شريعة شرعت للناس إلا لتحقيق مقاصد مغياة مـنها، وقد ثبت لدينا قطعا أن الله تعالى حـكيم لا تجري أفعاله إلا على الحكمة في الخلق والتشريع، وهذا صريح دلالة اسمه «الحكيم» وما ورد من آيات بينات
منها قوله تعالى: ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) (الأنبياء:16) ،
وقوله: ( ربنا ما خلقت هـذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) (آل عمران:191) ،
وقوله: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) (المؤمنون:115) .
فالله تعالى ما خلق الكون اعتباطا بل لمقصد، وخلق الإنسان لتعميره.
«ومن أعظم ما اشتمل عليه خلق الإنسان قبوله التمدن الذي أعظمه وضع الشرائع له، وما أرسل الله الرسل وأنزل الشرائع إلا لإقامة نظام [ ص: 84 ] البشر» [1] ؛ لتحقيق مصالحهم ودفع المفاسد عنهم، ويشهد لهذه الحقيقة كثير من الآيات، منها:
قولـه تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25) ،
وقولـه: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) (المائدة:48) .
وهذا التشريع كان هـدى ونورا لأقوام الأنبياء؛
قال تعالى: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هـدى ونور ) (المائدة:44) ،
ثم قال: ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هـدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ) (المائدة:46) ،
ثم جاء تنزيل القرآن الكريم ليكون مصدقا لكل ما بين يديه من الكتب وقيما وشاهدا عليها، ومتجاوزا للآصار والأغلال التي ضربت على أتباعها،
قال تعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) (المائدة:48) .
فالشرائع كلها أنزلت لتحقيق الصلاح ودرء الفساد عن الخلق،
ويدل على ذلك قوله تعالى: ( هـذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ) (الجاثية:20)
وقولـه: ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) (يونس:57) . [ ص: 85 ] فهذه الآيات جلية الدلالة على كون بعثة الرسل ما كانت إلا لتحقيق مصالح الخلق، وأن مخالفهم حقيق بضنك الحياة وسوء المنقلب:
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) (طه:124) .
ثانيا: استقراء أدلة الأحكام
إن استقراء أدلة الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة يفيد كون أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بمقاصد للشارع آيلة لتحقيق الصلاح العام؛ الجماعي والفردي.
1 - أدلة الكتاب
أ - قولـه تعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) (النحل:90) ،
وحقيقة العدل بين شيئين أو شخصين المعادلة والموازنة بينهما في أمر ما، والمقصود بها طلب التزام التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. والعدل قيمة عليا من قيم التشريع، وهو «أصل الدين الذي بعث الله الرسل بإقامته»
[2] .
فالعدل مقصد بين للشارع، يبرز في تصريح الآية بالمفهوم المخالف له وهو النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه الثلاث جماع المفاسد التي تخرم جماع مصالح الناس وسعادتهم، و «هو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المعاملات، ولذا " قال [ ص: 86 ] ابن مسعود رضي الله عنه أن هـذه الآية: هـي أجمع آية في القرآن» " [3] .
ب - قولـه تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ) (الأنفال:24) ، فقد جعل الله تعالى الاستجابة لأمر الله ورسوله سببا للحياة، والحياة المرادة من الخطاب هـنا هـي الحياة الكاملة التي تتحقق فيها السعادة في بعديها الدنيوي والأخروي.
ويؤكد هـذا المقصد قوله تعالى: ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97) .
ج - قولـه تعالى: ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ) (البقرة:204) ، فقد نعى الله تعالى على أقوام كذبهم فيما يدعون من التمسك بهدى الإسلام وتعاليمه، وبين كذبهم فيما يقدمون عليه من إفساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل، وليس فعل ذلك إلا تدميرا لمقومات حياة الناس وخرما لمصالحهم.
د - الآيات الخاصة بالعبادات مقررة لتقصيدها، بالرغم مما اشتهر لدى كثير من العلماء أنها تعبدية محضة، غير أن القرآن عللها وناط بها مقاصد:
- فالصلاة ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (العنكبوت:45) . [ ص: 87 ] - والزكاة: ( تطهرهم وتزكيهم بها ) (التوبة:103) .
- والصيام : ( لعلكم تتقون ) (البقرة:183) .
- والحج: ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) (الحج:28) .
هـ - هـناك آيات كثيرة واردة في معرض التعليل لأحكام جزئية وهادية إلى مقاصد الشارع منها ومن أمثالها، ومن ذلك:
- قولـه تعالى في مقصد القصاص: ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) (سورة البقرة: 179) .
- وقولـه تعالى في مقصد النهي عن الخمر والميسر: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (البقرة:219) ،
وعنهما أيضا: ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) (المائدة:91) .
2 - أدلة السنة: ومن السنة
- ( قولـه صلى الله عليه وسلم : « الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون شعبة- فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) [4] . فقد جمع النص بين طرفين اثنين يمثلان بما بينهما حقيقة الدين التي مبتداها التوحيد وآخرها إماطة الأذى عن الطريق، وهو أبسط [ ص: 88 ] نموذج للحفاظ على مقاصد الشارع التي هـي مجموع المصالح؛ جليلها ودقيقها.
- ويعضد هـذا المعنى ( قوله صلى الله عليه وسلم : « كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) [5] .
- ( قولـه صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار ) [6] . والضرر: محاولة الإنسان إلحاق المفسدة بنفسه أو غيره، والضرار: أن يتراشق اثنان بما فيه مفسدة لهما، هـذه قاعدة كبرى أغلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منافذ الضرر والفساد أمام المسلمين، وتؤيد هـذه القاعدة قواعد أخر مثل: « الضرر يزال ».
3 - استقراء اجتهادات الصحابة القائمة على تشوف مراد الشارع
الصحابة رضي الله عنهم أفضل قدوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في فهم أحكام الكتاب والسنة وتحري مقاصدهما عند التطبيق، وكما يقول ابن القيم رحـمه الله: «وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها، وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعدل عنه إلى غيره البتة، والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر» [7] . [ ص: 89 ] ويقول الدهلوي : «أما معرفة المقاصد التي بنيت عليها الأحكام فعلم دقيق لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه، واستقام فهمه، وكان فقهاء الصحابة قد تلقوا أصول الطاعات والآثام من المشهورات التي أجمعت عليها الأمم الموجودة يومئذ كمشركي العرب، وكاليهود والنصارى، فلم تكن لهم حاجة إلى معرفة لمياتها عما يتعلق بذلك. أما قوانين التشريع والتيسير، وأحكام الدين فتلقوها من مشـاهدة مواقع الأمر والنهي، كما أن جلساء الطبيب يعرفون مقاصد الأدوية التي كانوا في الدرجة العليا من معرفتها» [8] .
وهناك نماذج كثيرة شاهدة على مدى فقه الصحابة لمقاصد الشريعة ومراعاتهم لها في فتاويهم وأقضيتهم وتعليمهم، منها على سبيل المثال:
أ - " توقف عمر رضي الله عنه في قسمة سواد العراق؛ حفظا لمصلحة الجماعة وأجيال الأمة المستقبلة قائلا: «لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم " [9] . ووجه الاستدلال هـنا أن عمر رضي الله عنه نظر إلى مصلحة الأجيال القادمـة، التي قـد لا تحظى بما يقيم أودها إذا قسمت الأراضي بين الفاتحين فقط؛ مما يحصر المال في أيدي فئة معينة تتوارثه دون الآخرين، وهذا مناف لمقصد العدل الـذي ما أنزلت الشرائع وأرسلت الرسل إلا لإقامته وتحقيقه. [ ص: 90 ] ب - " فتوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بتضميـن الصناع إذا لم يقدموا بينة على أن ما هـلك إنما هـلك بغير سبب منهم ولا تفريط، قائلا: «لا يصلح الناس إلا ذلك» " [10] .
وهو باجتهاده هـذا نظر إلى الحفاظ على مصالح الناس بعد أن قلت الأمانة في الصناع؛ لأن الحفاظ على المال من ضروريات التشريع.
ج- " اجتهاد معاذ بن جبل رضي الله عنه في أخذ الحلل اليمنية بدل العين من زكاة الحبوب والثمار قائلا: «ائتوني بخميس أو لبيس (منسوجات محلية) آخذه منكم مكان الصدقة؛ فإنه أهون عليكم، وأنفع للفقراء بالمدينة» " ، وفي رواية " «ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير» " [11] . فلما كان من مقاصد الزكاة المواساة بالمال وإغناء فقراء المسلمين وسد حاجتهم، وكان تحققه بغير العين أفضل في هـذه الحال، نظر معاذ رضي الله عنه في المقصد وأمضى حكمه على وفقه.
هذه النماذج المختارة تبين فضل الصحابة «الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا، وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا» [12] [ ص: 91 ]