الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تمهيد

أولا: تعريف الاجتهاد

الاجتهاد لغة

الاجتهاد : افتعال من «الجهد» بالضم على لغة الحجاز، والفتح على لغة غيرهم، ومعناه: الطاقة والمشقة، وهو مصدر من جهد في الأمر جهدا، من باب: نفع، إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب [1] . وجهده الأمر والمرض جهدا: إذا بلغ منه المشقة، ومنه جهد البلاء.

وعليه فهو من بذل «الجهد» وهو الطاقة، أو تحمل «الجهد» وهو المشقة، وجيء بصيغة الافتعال للمبالغة في الفعل.

جاء في اللسان: «والاجتهاد والتجاهد: بذل الوسع والمجهود، " وفي حديث معاذ : اجتهد رأيي. " الاجتهاد: بذل الجهد والطاقة، والمراد به: رد القضية التي تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأي الذي رآه من قبل نفسه من غير حمل على كتاب أو سنة» [2] .

وهذه المعاني وطيدة الصلة بالمعنى الاصطلاحي كما سيتبين؛ إذ إن المجتهد يبذل وسعه وطاقته مبالغا في ذلك إلى درجة المشقة والإجهاد في [ ص: 27 ] سبيل درك حكم شرعي أو إيقاعه من غير ألو. غير أن المعنى اللغوي أوسع مجالا مما هـو عليه عند أهل الاصطلاح الأصولي والفقهي، فالاجتهاد هـنا شامل للحسيات والمعنويات بأنواعها وأفرادها.

وقد وردت كلمة «جهد» بفتح الجيم وضمها في ستة مواضع في القرآن الكريم،

وهي قوله تعالى:

1 - ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) (الأنعام:109) .

2 - ( ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ) (المائدة:53) .

3 - ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) (التوبة:79) .

4 - ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (النحل:38) .

5 - ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ) (النور:53) .

6 - ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ) (فاطر:42) . [ ص: 28 ]

الاجتهاد في الاصطلاح

لقد تباينت تعريفات الاجتهاد بين الإطلاق والتقييد، وليكن البدء بالمطلق نزولا لما دونه:

أ - انطلاقا من التعريف اللغوي للاجتهاد يخلص إلى كونه بذل أقصى ما في وسع وطاقة الإنسان العقلية والجسدية لبلوغ هـدف مرجو وغاية منشودة، ومن ثم صح إطلاقه على الخبير في مختبره للوصول إلى حقيقة علمية تجريبية، وعلى الجراح في إجراء العملية الجراحية، وعلى الباحث الاجتماعي في دراسة ظاهرة اجتماعية؛ ما لبيان أسبابها وطرق علاجها إن كانت سيئة، وهلم جرا.

كما يطلق على عمل عالم الشريعة الناظر في الأدلة؛ لفهم خطاب أو استنباط حكم أو تنـزيله.

وهذا المعنى الواسع هـو ما عناه الإمام ابن حزم حين عرف الاجتهاد العام بقوله: «إنه استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه حيث يرجى نواله، أو يتيقن الوصول إليه» [3] .

واستحضارا لهذا المعنى الواسع للاجتهاد ساهمت أجيال العلماء المسلمين في بناء صرح الحضارة الإسلامية عبر التاريخ، فلم يقتصر تفكيرهم عند سماع لفظة الاجتهاد على الأمور الفقهية فحسب، بل شمل [ ص: 29 ] اجتهادهم العلوم المختلفة، وأعملوا عقولهم في كل ما يجد من أمور عقلية أو شرعية، أو غيرها مما هـو خادم للدين ومعمر للدنيا لتحقيق مهمة الاستخلاف؛ إذ الإسلام نسق مفتوح لكل العقول المبدعة المجتهدة في إطار المبادئ الكلية للشريعة وروحها ومقاصدها العامة.

ب - أما الاجتهاد المقيد بالعلوم الشرعية فيعرف بحسب العلم المجتهد فيه مما هـو مقصود أصالة أو تبعي خادم للأول.

فإذا جئنا للقرآن الكريم نجد أن الله تعالى قيض له حفظة، جيلا عن جيل، بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف الأطفال الأصاغر فضلا عن القراء الأكابر.

وهكذا جرى الأمر في كل علـوم الشريـعة؛ فقيض الله لكل علم رجالا بذلوا غاية وسعهم في وضـع منهجيته ورسـم حـدوده وبيان مقاصده.

فقد اجتهد علماء اللغة في وضع قواعد اللغة، وهم وإن لم يخرجوها من العدم، فقد قننوها وقعدوها بعد أن كانت تؤخد سليقة ونشأة وعادة، وأصبحت تؤخذ دراسة وعلما، وإن اجتهادهم جعلهم يتفرقون في بعض القواعد إلى أكثر من رأي [4] . [ ص: 30 ] وفي علم الحديث سخرت جهود كثير من العلماء بحثا عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة، فميزوا الصحيح من السقيم، ورسموا منهجا واضحا ودقيقا في الجرح والتعديل والذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، وصار علم مصطلح الحديث رواية ودراية ثمرة للاجتهاد في حفظ السـنة، وهكذا في سـائر العلوم الشـرعية الأخرى.

فالاجتهاد بمفهومه الأصلي الواسع يشمل -فضلا عن الفقه واللغة- فقه الدعوة، وأصول الفقه، وفقه سنن الله في الكون، وفي قيام الحضارات وسقوطها، وغيرها من أنواع العلوم وفروعها.

وعليه إذا أردنا -كما يقول الدكتور الفاروقي رحمه الله- «أن نعيد للإسلام شمولـه الأول وتأثيره في جميع شئون الحياة وجب علينا أن نعمم الاجتهاد ونوسعه؛ لأنه سبيلنا إلى الاستحضار -أي: جعل الإسلام حاضرا في كل مناهج الحياة- والتنشيط؛ أي: جعله مؤثرا في حياتنا» [5]

بيد أن الاجتهاد في اصطلاح أهل الأصول يبرز فيه اتجاهان في بيان حده؛ اتجاه: اعتمد البعد الاستنباطي. والآخر: يتجه فضلا عما سبق إلى تنـزيل الحكم على الواقع وتكييفه به بما يحقق مقاصد الشارع. [ ص: 31 ]

الاتجاه الاستنباطي

ركز أصحاب هـذا الاتجاه في تعريفاتهم على الجانب الاستنباطي النظري؛ أي: استنباط الحكم الشرعي للواقعة المستجدة من الأدلة التفصيلية؛ سواء كان هـذا الاستنباط مبنيا على العلم أو الظن، ولكن دون إدخال جانب الاجتهاد التطبيقي. وقد تنوعت تعريفاتهم للاجتهاد بين الإطلاق والتقييد:

ففي حين ذهب الطوفي إلى أن الاجتهاد: «بذل الجهد في تعرف الحكم الشرعي» [6] . دون تقييد له بطلب علم أو ظن.

ونجد الغزالي قبله قيده بالعلم فقال هـو: «بذل المجتهد الوسع في طلب العلم بأحكام الشريعة» [7] ، ثم قال: «الاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب، بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب» ، وإن كانت هـذه الزيادة والبيان معاني مستفادة بدلالة التضمن في «بذل الوسع»؛ إذ ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) .

وكل من سبق؛ سواء اشترط العلم أو لم يشترط لم يصرح بقيد [ ص: 32 ] كون الأحكام المطلوب دركها عملية، وإن كان ذلك متضمنا في الحد وحاضرا في ذهن المعرف، غير أن الإمام الشوكاني صرح بذلك فعرفه بأنه: «بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط» [8]

وهكذا فالحدود فـي غالبيتها العظمى متقاربة، ويخلص منها إلـى كون الاجتهاد:

1 - بذل للوسع المفضي إلى العجز عن المزيد؛ سدا للطريق أمام المتسرعين والمقصرين، الذين يخطفون الأحكام خطفا، دون بذل جهد ولا عمق فهم.

2 - إنه عمل على التوصل إلى حكم الشارع في النازلة من النص ظني الدلالة، أو مما لا نص فيه عبر القواعد المعتبرة.

3 - إن الحكم المراد دركه هـو الحكم الشرعي العملي، وليس حكما عقليا ولا حسيا، فهذه لا ينطبق عليها التعريف الاصطلاحي للاجتهاد الوارد هـا هـنا.

4 - إن قيد «الاستنباط» مخرج لما يدرك من الأحكام من النصوص ظاهرا أو بحفظ المسائل أو استعلامها من المفتي أو بالكشف عنها في كتب العلم، فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي، وهذا الاستنباط إمكان الفقيه الذي صار الفقه له [ ص: 33 ] سجية، وتهيأ لاستخراج الأحكام الشرعية من مآخذها [9] ، وفي هـذا درء لمفاسد مدعي الاجتهاد من غير أهله.

الاتجاه الاستنباطي التطبيقي

وأبرز من يمثله الإمام الشاطبي ، الذي جعل الاجتهاد ضربين [10] :

أحدهما: الاجتهاد التطبيقي الذي لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة، وعبر عنه بـ: الاجتهاد في تحقيق المناط ، ومعناه: «أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله». ويعبر عن هـذا أيضا بـ: إيقاع الأحكام الشرعية على مناطاتها، وهو: إجراؤها على أفعال الناس فردية وجماعية؛ حتى تقع وفقا لإرادة الله، لتحقيق مصالح الخلق التي رعتها الشريعة.

أما الثاني: فهو الاجتـهاد الذي يمكن أن ينقطـع، وقسمه إلى ثلاثة أقسام:

الأول: تنقيح المناط للتمييز بين ما هـو معتبر من الأوصاف في الحكم مما هـو ملغى.

الثاني: الاجتهاد القياسي.

الثالث: نوع خاص من تحقيق المناط العام. [ ص: 34 ] وهذا الضرب الثاني داخل في مفهوم الاجتهاد الاستنباطي، الذي قال عنه الشاطبي : «إن الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علم مستقل بنفسه» [11] . وقد عرفه فقال: «استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم» [12] .

ومن خلال ما أصله الإمام الشاطبي وفصله للاجتهاد التطبيقي خصوصا والاستنباطي عموما خلص الدكتور عبد الله دراز في تعليقه على «الموافقات» إلى تعريف الاجتهاد بكونه: «استفراغ الجهد، وبذل غاية الوسع؛ إما في درك الأحكام الشـرعية وإما في تطبيقها» [13] . وهو ما ذهب إليه الشيخ أبو زهرة في أصوله [14] .

وقد حاول الدكتور فتحي الدريني صياغة تعريف جامع مانع للاجتهاد في بعديه المذكورين آنفا فقال: «بأنه بذل الجهد العقلي من ملكة راسخة متخصصة؛ لاستنباط الحكم الشرعي العملي من الشريعة؛ نصا وروحا، والتبصر بما عسى أن يسفر تطبيقه من نتائج على ضوء قواعد أصولية مشتقة من خصائص اللغة وقواعد الشرع، أو روحه العامة في التشريع» [15] . [ ص: 35 ] وبعد أن تبين معنى الاجتهاد في بعديه الاستنباطي والتطبيقي يمكن الخلوص إلى إعطاء حد لمفهوم الاجتهاد التطبيقي بأنه: إعمال العقل من ذي ملكة راسخة متخصصة في إجراء حكم الشرع، الثابت بمدركه الشرعي، على الوقائع الفردية والجماعية؛ تحقيقا لمقاصد الشارع، وتبصرا بمآلات التنزيل.

ثانيا: شرعية الاجتهاد التطبيقي (التنزيلي) وضرورته

الاجتهاد التطبيقي (التنـزيلي) ؛ إعدادا وإجراء، مطلب شرعي دعا إليه القرآن وأكدته السنة ببيان، وشهدت له السوابق التاريخية بالاعتبار، فضلا عن كونه ضرورة حيوية لتطور المجتمع وتغير المصالح وتشعبها وطروء النوازل المفتقرة إلى تكييفها حسب ما يناسبها من أحكام ضابطة لها؛ لتسير الحياة وفق حقائق الوحي ومقررات التنزيل.

فالقرآن الكريم وكل العقل مهمة الفهم والاستنباط، وكذلك مهمة التطبيق والتبصر بالمآلات في ضوء ما يلابس الحياة من أحداث، وما يلم بها من ظروف وطوارئ، وقد تعددت الآيات الداعية إلى التبصر والتعقل والاعتبار، والنظر في ملكوت السموات والأرض لمعرفة سنن الله وآياته فيها.

وقد أمر الله برد الأمر عند استشكاله إلى أهل الاستنباط والفهم عن الله ورسوله

فقال: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) (النساء:83) . [ ص: 36 ] وجعل عملية الشورى دأب المؤمنين

فقال:

( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) (الشورى:38) ،

والشورى عملية استكشاف للرأي الأصوب عبر الاجتهاد المعتبر.

وهذا مدون علم الأصول الإمام الشافعي -رحمه الله- يقرر ما سبق فيقول: «إن الله جل ثناؤه من على العباد بعقول، فدلهم على الفرق بين المؤتلف والمختلف ، وهداهم إلى سبيل الحق؛ نصا ودلالة». ثم ضرب لذلك مـثلا بنصب الله للبيت الحرام ثم «أمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه أو تأخيه إذا غابوا عنه، وخلق لهم سماء وأرضا وشمسا وقمرا وجبالا ورياحا،

فقال: ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) (الأنعام:97) .

وكان عليهم تكلف الدلالات بما خلق لهم من العقول التي ركبها فيهم؛ ليقصدوا قصد التوجه للعين التي فرض عليهم استقبالها» [16] .

وقد دعت السنة إلى الاجتهاد وممارسته وحضت على ذلك، ورتبت للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا؛ لقاء قصد درك المراد الإلهي، ( فقد روى الشافعي بسنده إلى أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ) [17] . [ ص: 37 ] وقد استنكر الخطيب البغدادي قول من قال: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ أجر وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم أقرب؛ لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد؟ وأجاب عن ذلك بأن: «هذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمخطئ أجرا على خطئه، وإنما جعل له أجرا على اجتهاده، وعفا عن خطئه؛ لأنه لم يقصده، وأما المصيب فله أجر على اجتهاده وأجر على إصابته» [18] .

وقد أجمع الصحابة على مشروعية الاجتهاد، وتشهد لذلك أفعالهم، واشتهر ذلك خصوصا عن الخلفاء الأربعة، ويعد الاجتهاد منهج رواد التجديد عبر مسيرتنا الحضارية التاريخية في محاولاتهم لإصلاح حال الأمة، وتخليصها من عوامل الضعف والتخلف التي تعيقها عن تحقيق المستوى الحضاري، الذي وكل إليها استشرافه لتتحمل مسئوليتها كأمة شاهدة على الناس.

ثم إن كون الاجتهاد ضرورة تشريعية وحيوية لتدبير شئون الأمة في ضوء حقائق الشرع قد ( صرح به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) [19] .

والمجدد قد يكون فردا أو جماعة، ومهمة هـؤلاء المجددين أن ينفوا عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. [ ص: 38 ] ومنطلق التجديد قواعد الشرع، ومنهجيته، ومرجعيته، وثوابته، فليس هـو نسخ للقديم، ولا تأسيس على غير قواعد بل هـو تفاعل حيوي داخل فكر قائم يستهدف البنية الفكرية لتمكينها من تلبية الحاجات المعاصرة.

وهذا دور أولياء أمر الأمة -علماء وأمراء- في ممارسة مسئولياتهم على المستويين النظري والعملي؛ لمواجهة التحديات الحضارية والمعرفية والفكرية التي تواجه الأمة، ثم الانطلاق بها قدما نحو تفعيل دورها في إنقاذ البشرية من معاناتها، ولا يمكن الانطلاق في ذلك إلا بعقول تجديدية غير مخلدة إلى التقليد ولا التعصب إلى المذهب.

والقائم على الاجتهاد ينـزل منـزلة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ بيانا لأحكام الشرع، وتبليغا وتبشيرا بها، وإجراء وتنفيذا لها، وهذا ما يؤكده الإمام الشاطبي بقوله: «فإذا بلغ الإنسان مبلغا يفهم فيه عن الشارع قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها فقد حصل له سبب في تنـزله منـزلة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا؛ لما يحمل بين جنبيه من معاني النبوة، وإن لم يكن نبيا». [20]

ومهمة الاجتهاد التطبيقي يقتضيها الوضع البياني للقرآن الكريم الذي ورد كليا في غالب أحكامه؛ سواء من حيث تفصيل أحـكام الجزئيات، أو من حيث تحقيق مناطاتها لتنزيلها على أحكامها، فاقتضى الأمر بذل جهد على الصعيدين: إثبات الحكم، وتنـزيله. وكما يقول الإمام [ ص: 39 ] الشاطبي : «تعريف القرآن الكريم بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئيا فمأخذه على الكلية؛ إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل»

[21] .

ويدل على هـذا المعنى -بعد الاستقراء المعتبر- أنه محتاج إلى كثير من البيان؛ لدرك أحكام أنواع وأفراد الوقائع وتكييفها بها، وذلك أن العالم وارث النبي صلى الله عليه وسلم ، فالبيان في حقه لا بد منه من حيث هـو عالم، ودليل ذلك ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء، وهو معنى صحيح ثابت، ويلزم كونه وارثا قيامه مقام مورثه في البيان، وإذا كان البيان فرضا على المورث لزم أن يكون فرضا على الوارث [22] .

وهذا يؤكد وفاء النصوص الكلية بغالب أحكام أفعال العباد، وهو القول الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسـلمين، ومنهم من يقول إنها وافية بجميع ذلك، «وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة، التي هـي أقوال الله وأقوال رسوله، ولم يدرك شمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هـي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى، فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحـكام أفعال العباد... ومن ذلك لفظ: الربا، فإنه يتـناول كل ما نهي عنه من ربا النسأ وربا الفضل ، والقرض الذي يجر منفعة وغير [ ص: 40 ] ذلك، فالنص متناول لهذا كله، لكن يحتاج في معرفـة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك، وهذا الذي يسمى: تحقيق المناط ». [23]

والبعد الكلي للنصوص يسند القول: بأن الاجتهاد لا يتحقق في دوائر الجزئي والفرعي، فقد يسـتطيع عـقل الفقيه أن يوازن أو يرجح أو يلفق في الجزئيات والفروع، أما أن يجتهد أو يبدع فذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بالتعامل مع الكليات والأصول وبعقل كلي.

والاجتهاد منهج لإقامة شرع الله ونهوض بأمانة الاستخلاف، وغاياته الأولى تجسيم مبدأ العدل الشامل الذي يمثل المصلحة الحقيقية للأمة، والمصلحة هـي مقصود الشارع وغاية الحكم، ولا يمكن تحقيق هـذا القصد -استنباطا أو إيقاعا- بمعزل عن الاجتهاد، «فالاجتهاد بالرأي والعدل متلازمان إذن، فلا اجتهاد بالعقل المجرد، ولا عدل بدون اجتهاد بالرأي في الشرع» [24] .

ومبدأ العدل في الإسـلام مطلق، لا يتأثر بولاء أو عـداء، أو فقر أو غنى، بل هـو مقرر شرعا حقا إنسانيا مشتركا، فرض الاجتهاد في طلبه وتحقيقه بين البشر كافة. [ ص: 41 ] ثالثا: مقومات الاجتهاد التطبيقي (التنزيلي)

للاجتهاد التطبيقي (التنـزيلي) الهادف إلى حسن تنـزيل الأحكام على الوقائع مقومات رئيسة يمكن تحديدها في الآتي:

الأول: الواقعة المعروضة: محتفة بملابساتها وظروفها [25] ، في دورة الحياة السائرة، والتي يراد معرفة حكم الشارع فيها بما يحقق مقاصده؛ سواء كان الحكم مدركا نصا أم اجتهادا.

الثاني: الحكم الثابت من مدركه الشرعي: والمتسم «بالتجريد والعموم والجزاء غالبا» [26] ؛ سواء ثبت بالنص أم تبينت معالمه بالاجتهاد الاستنباطي عبر أقسامه المختلفة؛ بيانا، أو قياسا، أو استصلاحا، مما شهدت له بالاعتبار أصول الشريعة الكلية ومقاصدها وقيمها العليا، التي تجمعها قاعدة: ( درء المفاسد وجلب المصالح ) .

الثالث: الملكة الاجتهادية المشرفة على مدارك الأحكام [27] واستنباطها، والخبيرة بالوقائع وملابساتها، والقادرة على تكييف طوارئها لهدي الشريعة بما يحقق مقاصدها المبتغاة من التشريع، بعيدا عن المآلات والتداعيات الخطيرة التي تخرم ما من أجله الشرع نزل.

وترشيدا لعملية الاجتهاد التطبيقي وتفعيلا لها، جاء هـذا البحث الذي يعالج أصوله الكلية، التي يعد إهمال تحقيقها واعتبارها نذير شؤم بنتائج التطبيق السيئة التي طلب الشارع سد ذرائعها ودرء مفاسدها. [ ص: 42 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية