الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول: التحقيق في مآلات التطبيق

مفهوم «التحقيق في مآلات التطبيق»

يشتمل هـذا المفهوم على ثلاث كلمات: التحقيق، والمآلات، والتطبيق. وليكن بيانها أولا فأول، لأخلص إلى بيان تصور شامل له.

أ - أما التحقيق : فقد سبق بيانه [1] ، بأنه مأخوذ من حق؛ أي ثبت، فهو يفيد الإثبات عند الأصوليين.

ب - وأما المآل : فأصله (أول) : وهو الرجوع، يقال: آل الشيء يئول أولا ومآلا: رجع، وأول إليه الشيء: أرجعه. وألت عن الشيء: ارتددت، ويقال: طبخت العصير حتى آل إلى الثلث أو الربع؛ أي رجع.

ويقال: (أول الحكم إلى أهله) ؛ أي: أرجعه ورده إليهم. قال الأعشى :

أؤول الحكم إلى أهله

والإيالة: السياسة من هـذا الباب؛ لأن مرجع الرعية إلى راعيها. قال الأصمعي : آل الرجل رعيته يئولها: إذا أحسن سياستها.

وتقول العرب في أمثالها: ألنا وإيل علينا؛ أي: سسنا وساسنا غيرنا. وآل الرجل أهل بيته من هـذا أيضا؛ لأنه إليه مآلهم وإليهم مآله [2] .

ويخلص مما سبق إلى أن المآل أو الإيال يطلق و يراد به: الرد [ ص: 108 ] والرجوع، والسياسة وحسنها، وأهل الرجل لأن إليه مآلهم وإليهم مآله؛ أي: رجوعهم ورجوعه.

ج - التطبيق : قال صاحب الكليات: تطبيق الشيء على الشيء: جعله مطابقا له، بحيث يصدق هـو عليه [3] . والمراد هـنا: إجراء الأحكام الشرعية على الأفعال الفردية و الجماعية؛ لتصبح مقاصد هـذه الأحكام أوضاعا ماثلة في المجتمع.

وبناء على ما سبق، فإن التحقيق في مآلات التطبيق يراد به: التحقق والتثبت مما يسفر عنه تنـزيل الحكم الشرعي على الأفعال من نتائج مصلحية أو ضررية تسهم في تكييف الحكم المراد سياسة الواقع به.

وذلك أن فعلا ما قـد يكون «مشـروعا لمصلحة فيه تسـتجلب، أو مفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هـذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية؛ وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى اسـتدفاع المفسدة إلى مفسـدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية» [4] . [ ص: 109 ] والتحقيق في مآلات تطبيق الحكم على الفعل يرتبط بما يئول إليه الفعل من نتائج وثمرات، بغض النظر عن مقصد الفاعل، وبحسب النتيجة يحمد الفعل أو يذم، ومن ثم يجرى عليه حكم المشروعية من عدمها.

أدلة اعتبار المآلات

لقد شهد لصحة اعتبار النظر في مآلات التطبيق -كأصل تطبيقي هـام في الاجتهاد الشرعي- استقراء أدلة الأحكام الشرعية؛ الأصلية منها والتبعية، وما مضى عليه الاجتهاد من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام رضوان الله عليهم، ثم التابعين وأئمة الإسلام الكبار، مما شكل رصيدا معرفيا وتشريعيا شاهدا لهذا الأصل الأصيل بالاعتبار، والذي تنبني عليه قواعد أصولية كثيرة كقاعدة الذرائع ؛ سدا وفتحا، وإبطال الحيل، والاستحسان . و من هـذه الأدلة ما يلي:

1 - قولـه تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) (الأنعام:108) .

فإنهم قالوا: لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن آلهتك. فنـزلت، فسب الأوثان سبب في تخذيل المشركين وتوهين أمر الشرك وإذلال أهله، ولكن لما وجد له مآل آخر مراعاته أرجح -وهو سبهم الله تعالى- نهي عن هـذا العمل المؤدي إليه مع كونه سببا في مصلحة ومأذونا لولا هـذا المآل [5] .

2 - وشبيه بما سبق ( قوله صلى الله عليه وسلم : «إن من أكبر الكبائر أن يلعن ) [ ص: 110 ] ( الرجل والديه. قيل: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه )

[6] .

3 - ( قولـه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في شأن إعادة بناء الكعبة: «يا عائشة، لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحجر؛ فإن قومك قصروا في البناء ) [7] . وذلك لخوفه صلى الله عليه وسلم مما قد يئول إليه الأمر من مفسدة أعظم؛ وهي تنكر قلوب العرب لذلك الصنيع، ومن ثم مجافاتهم لهذا النبي لاعتقادهم أنه هـادم للمقدسات ومغير لمعالمها.

4 - ( قولـه صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أرادوا أن ينهروا الأعرابي الذي كان يبول في المسجد: «لا تزرموه ) [8] . أي: لا توقفوه. فإذا كانت مفسدة بول الأعرابي الواقعة محدودة في تنجيس جزء من حرم المسجد، فإن إيقافه سيؤدي إلى مفسدة أكبر كتوسع الأماكن التي سينجسها فضلا عن جسمه وثيابه، وربما ترتب على ذلك ضرر صحي بالغ.

5 - إن أصل اعتبار المآلات مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، سار عليه الأئمة الكبار في اجتهاداتهم وفتاويهم:

- فهذا الإمام مالك رحمه الله: «أفتى الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم ، فقال له: لا تفعل؛ لئلا يتلاعب الناس ببيت الله» [9] . [ ص: 111 ] - " وهذا عبد الله بن مغفل أتته امرأة فسألته عن امرأة فجرت فحبلت، فلما ولدت قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل : ما لها ؟ لها النار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين:

( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) (النساء:110) ،

قال: فمسحت عينيها، ثم انصرفت " [10] .

فهو بعد أن أجابها - رضي الله عنه - جوابا زاجرا شديدا؛ لكي ترتدع وتتوب، رأى من حالها أن ذلك قد يدفعها إلى اليأس من رحمة الله، وهذا قد يئول بها إلى الانتحار أو التمادي في الفجور أو ما أشبه هـذا من المآلات السيئة، فعدل عن جوابه الأول إلى جواب آخر أليق بحالها [11] .

وعلى الجملة يشهد لاعتبار المآلات:

* جميع ما مر في أدلة اعتبار تحقيق المناط مما فيه اعتبار المآل؛ حيث يكون العمل في الأصل مشروعا لكن ينهى عنه لما يئول إليه من المفسدة، أو ممنوعا لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة.

* الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها -والتي أورد منها ابن القيم في إعلام الموقعين تسعا وتسعين وجها- فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز، فالأصل على المشروعية لكن مآله غير مشروع.

* الأدلة دالة على التوسعة ورفع الحرج كلها، فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل؛ لما يئول إليه من الرفق المشروع [12] . [ ص: 112 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية