الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في الاجتهاد التنزيلي

الدكتور / بشير بن مولود جحيش

المبحث الثاني: أقسام الأفعال بحسب قوة مآلاتها

إن تطبيق أي حكم من الأحكام الشرعية إذا تبين للمجتهد يقينا أو ظنا غالبا أنه مفض في ظرف معين إلى مآل يناقض مقاصد الشارع المغياة من التشريع، فإنه لا يجوز المصير إلى ذلك لمنافاته للنسق التشريعي العام في أهدافه ومقاصده. وهذه المآلات المناقضة للمقاصد تنقسم إلى أربعة أقسام من حيث قوة النتيجة المفضية إلى المفاسد:

القسم الأول: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا؛ كحفر البئر خلف باب الدار في طريق مظلم بحيث يقع فيه الداخل بلا شك.

وهذا القسم ينظر فيه: إن كان الفعل غير مأذون به، كمن حفر بئرا في الطريق العام، فإن ذلك يكون ممنوعا بإجماع فقهاء المسلمين، وأما إن كان أصل الفعل مأذونا فيه كمن يحفر بالوعة في بيته يترتب عليها هـدم جدار جاره، فهذا له نظران:

أحدهما: أصل الإذن، وقد لوحظ فيه نفع شخص المأذون له.

الثاني: الضرر المذكور الذي يلحق الناس معه.

وهنا يرجح جانب الضرر على جانب النفع؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، ولو أن الفاعل أقدم على ذلك فوقـعت منه أضرار يكون ضامنا لما يترتب عليه من ضرر، وهذا ما قاله بعض الفقهاء، وبعضهم نظر إلى أصل الإذن فلم يضمنه؛ لأنه لا يجمع بين الإذن والضمان [1] . [ ص: 113 ]

القسم الثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا؛ كحفر البئر في مكان لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغـذية التي غالبا لا تـضر، فهذا لا اعتبار فيه للمآلات، وهو باق على الأصل في الإذن فيه، وهو حلال لا شك فيه؛ لأن الشرع أناط الأحكام بغلبة المصلحة، ولا توجد في العادة مصلحة خالصة، ولا يعد هـنا قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة -مع معرفته بندرة المضرة في ذلك- تقصيرا في النظر، ولا قصدا إلى وقوع الضر، فالعمل إذن باق على أصل المشروعية.

والدليل على ذلك أن ضوابط المشروعات هـكذا وجدناها؛ كالقضاء بالشهادة في الدماء والأموال والفروج، مع إمكان الكذب والوهم والغلط. وكذلك إعمال خبر الواحد والأقيسة الجزئية في التكاليف، مع إمكان إخلافه والخطأ فيها من وجوه، لكن ذلك نادر فلم يعتبر، واعتبرت المصلحة الغالبة [2] .

القسم الثالث: ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة غالبا؛ كبيع السلاح إلى أهل الحرب، وبيع العنب إلى الخمار ونحوهما

[3] .

ويرجح اعتبار الظن هـنا لأمور ثلاثة:

1 - أن الظن الغالب في أبواب العمليات جار مجرى العلم، فالظاهر جريانه هـنا. [ ص: 114 ] 2 - أن سد الذرائع منصوص عليه، وهذا القسم داخل في مضمون النص؛ لأن سد الذرائع احتياط من المآلات الفاسدة، والاحتياط يوجب العمل بغلبة الظن.

3 - أن إجازة هـذا النوع داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه.

القسم الرابع: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا؛ كبيوع الآجال، فإنها تؤدي إلى الربا كثيرا لا غالبا، وهذا موضع نظر والتباس.

فإما أن ينظر إلى أصل الإذن بالبيع فيجوز وهو مذهب الشـافعي وأبي حنيفة؛ حيث نظرا إلى جانب الإذن، فلم يحرما الفعل، ولم يفسدا التصرف؛ وذلك لأن الفساد ليس غالبا، فلا يرجح جانبه؛ ولأن أساس التحريم أو البطلان هـو أنه ذريعة إلى باطل حرام، ومع عدم الغالبية القطعية لا يكون العقد أو الفعل ذريعة إلى البطلان، فلا موجب للتحريم، ولأن الأصل هـو الإذن، ولا يعدل عنه إلا بقيام دليل على الضرر فيه، وما دام الأمر ليس فيه غلبة ظن فإن أصل الإذن باق.

وإما أن ينظر إلى كثرة المفسدة -وإن لم تكن غالبة- فيحكم بالتحريم احتياطا وهو ما ذهب إليه مالك وأحمد لأسباب منها:

1 - أنه يراعى كثرة وقوع القصد إلى الربا في هـذه البيوع، أما القصد نفسه فلا ينضبط، وأما أنها ظنية الوقوع فقد تتخلف المفسدة في حالة من الحالات، وكثرة وقوع المفاسد مع قابليتها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع ويجب الاحتياط لها في العمل؛ لكون دفع المضار مقدما على جلب المصالح . [ ص: 115 ] 2 - ورود نصوص كثيرة بتحريم أمور مأذون فيها أصلا؛ لما تؤدي إليه من مآلات فاسدة، وإن لم يكن مقطوعا بها ولا غالبة، منها:

- ما رواه مسلم ( عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى وفد عبد القيس : «أن ينتبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم ) [4] . درءا لما قد يفضي إليه من مآل سيئ، وهو اتخاذ مثل هـذه الأمور ذرائع لشرب الخمر بالرغم من كونها ليست غالبة في العادة، وإن كثر وقوعها.

- وحرم صلى الله عليه وسلم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم.

- ونهى عن بناء المساجد على القبور، وعن الصلاة إليها.

- ومنها نهيه صلى الله عليه وسلم عن البيع والسلف، وعن ميراث القاتل، وعن تقدم شهر رمضان بصوم يوم أو يومين، وحرم صوم يوم عيد الفطر، وندب إلى تعجيل الفطر وتأخير السحور، إلى غير ذلك مما هـو ذريعة، وفي قصد الإضرار فيه كثرة، وليس بغالب ولا أكثري. والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة [5] .

فالحكم بالتحريم والمنع دفعا للمآلات الضارة المتوقعة إذا كان وقوعها أغلبيا أو أكثريا سائغ في سنن التشريع القائم على الاحتياط والتحرز، ولكن الإفراط فيه مذموم حتى لا تصير الشريعة مجموع أحوطيات، مما يكبل المكلفين بالآصار والأغلال التي ما جاء الإسلام إلا لوضعها عنهم. [ ص: 116 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية