الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثاني

التحقيق في حصول المقاصد الشرعية

المبحث الأول: المقاصد، تعريفها ومراتبها

أولا: دلالة مفهوم المقاصد لغة واصطلاحا

تعريف المقاصد لغة:

تعود كلمة «مقصد» إلى أصل: (ق، ص، د) ، ومواقعها في كلام العرب: الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان أو جور. هـذا أصله في الحقيقة، وإن كان يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل [1] .

فقصدت الشيء له وإليه قصدا من باب (ضرب) : طلبته بعينه، وإليه قصدي ومقصدي بفتح الصاد، واسم المكان بكسرها نحو مقصد معين، وبعض العلماء جمع القصد على: قصود، وهو جمع واقـع على السماع. وأما (المقصد) فيجمع على: مقاصد، وقصد في الأمر قصدا توسط، وطلب الأسد ولم يجاوز الحد. وهو على قصد؛ أي: رشد، وطريق قصد؛ أي: أسهل، وقصدت قصده؛ أي نحوه. [2] [ ص: 69 ] وقد ذهب د. طه عبد الرحمن إلى أن الفعل: «قصد»، مشترك بين ثلاثة معان، ينتج بناء عليها ثلاث اشتقاقات ذات دلالات مختلفة، يؤسس كل واحد منها لنظرية من النظريات الأصولية حسب التفصيل الآتي:

1 - «قصد» بمعنى هـو ضد الفعل: (لغا يلغو) . لما كان اللغو هـو الخلو عن الفائدة أو الدلالة، فالمقصد حصول الفائدة أو عقد الدلالة. واختص المقصد بهذا المعنى باسم «المقصود» فيقال: المقصود بالكلام، ويراد به: مدلول الكلام، وجمعه: المقصودات؛ وهي المضامين الدلالية.

2 - «قصد» بمعنى هـو ضد الفعل: (سها يسهو) . لما كان السهو هـو فقد التوجه أو الوقوع في النسيان، فإن القصد يكون على خلاف ذلك؛ هـو حصول التوجه والخروج من النسيان، واختص المقصد بهذا المعنى باسم «القصد»؛ وهو المضمون الشعوري أو الإرادي.

3 - «قصد» بمعنى هـو ضد الفعل: (لها يلهو) . لما كان اللهو هـو الخلو عن الغرض الصحيح وفقد الباعث المشروع، فإن القصد يكون على العكس من ذلك؛ هـو حصول الغرض الصحيح وقيام الباعث المشروع، واختص المقصد بهذا المعنى باسم «الحكمة»؛ ومعناه هـنا: المضمون القيمي، وأطلق عليه «المقاصد».

وتحصل من هـذا ثلاثة معان تمثل ثلاث نظريات مكونة لعلم: المقاصد، وهي:

- نظرية «المقصودات» الباحثة في المضامين الدلالية للخطاب الشرعي. [ ص: 70 ] - نظرية «القصود»: الباحثة في المضامين الشعورية والإرادية.

- نظرية «المقاصد»: والتي تبحث في المضامين القيمية للخطاب الشرعي [3] .

تعريف المقاصد اصطلاحا

لقد حرم هـذا المصطلح عند قدماء الأصوليين من إعطاء حد له حتى من الشاطبي نفسه، وفي تقديري إن عدم تعريف متقدمي الأصوليين لمصطلح: المقاصد، يعود إلى عدم تبلور علم المقاصد كمبحث مستقل في أصول الفقه في زمنهم؛ حيث كان مبثوثا في ثنايا مباحث المناسبة والمصلحة والاستحسان وسد الذرائع، أما الشاطبي فرغم كونه صاحب النقلة النوعية لعلم المقاصد بما قعد له وفصل فيه وجعله مبحثا مستقلا من مباحث أصول الفقه لا يقل عن المباحث الأخرى إن لم يفقها، إلا أن الرجل لم يكن معنيا بالحدود والرسوم، بل كان يرنو إلى مشروع تجديدي لأصول الفقه موجه للعلماء حيث يقول عن كتابه: «ألا ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان في علوم الشريعـة؛ أصـولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب» [4] . أما المعاصرون فقد اهتموا بإعطاء تعريف للمقاصد بعد أن أخذت حيزها المطلوب من علم أصول الفقه، واتضحت معالم النظرية وأبعادها. [ ص: 71 ]

- دلالة المقاصد عند الشاطبي

كما سبقت الإشارة فإن الشاطبي لم يعمد إلى وضع حد أو رسم للمقاصد، بل بدأ مباشرة ببيان المقاصد من خلال بيان أقسامها؛ فقسمها إلى قسمين: قصد الشارع، وقصد المكلف.

القسم الأول: قصد الشارع وقسمه إلى أربعة أنواع هـي:

- قصد الشارع إلى وضع الشريعة ابتداء؛ «أي: بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى، ويكون ما عداه كالتفصيل له، وهذا القصد الأول» [5] ، وهو الذي قال فيه الشاطبي : «تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو أن تكون ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية» [6] . وهذه المقاصد تجمعها قاعدة: « درء المفاسد وجلب المصالح ».

- قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام.

- قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.

- قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة.

القسم الثاني: قصد المكلف وخصصه لمقاصد المكلف في التكليف، مؤكدا أن العمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها.

وهذه التقسيمات تجمع مدلول المقاصد عند الشاطبي، الذي يمتد ليشمل المقاصد المصلحية والدلالية للخطاب الشرعي والمرتبطة في تحققها واقعا بامتثال المكلف. [ ص: 72 ]

تعريف المقاصد عند محمد الطاهر بن عاشور

أما محمد الطاهر بن عاشور فقد عمد بداية إلى تقسيم المقاصد بحسب العموم والخصوص، ثم أعطى لكل قسم تعريفه:

1 - مقاصد التشريع العامة «وهي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هـذا أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها، ويدخل في هـذا أيضا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها» [7] . وذكر من بين هـذه المقاصد العامة: حفظ النظام، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة المساواة بين الناس، وجعل الأمة قوية مرهوبة الجانب.

2 - مقاصد الشريعة الخاصة «وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة، ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس؛ مثل قصد التوثق في عقد الرهن، وإقامة نظام المنـزل والعائلة في عقدة النكاح» [8] .

ويجمع هـذين القسمين المقصد العام للتشريع وهو: «حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه؛ وهو نوع الإنسان» [9] . [ ص: 73 ]

تعريف علال الفاسي

أما علال الفاسي فقد عرفها بقوله: «المراد بمقاصد الشريعة : الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها» [10] . قاصدا بالغاية منها: مقاصدها العامة، وبالأسرار: المقاصد الخاصة لكل حكم من أحكامها الجزئية.

تعريف الريسوني

وعرفها الريسوني -جمعا بين تعريفي ابن عاشور وعلال الفاسي- بأنها: «الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد» [11]

تعريف إسماعيل الحسني

أما إسماعيل الحسني فقد اقترح تعريفا آخر فقال: «إنها الغايات المصلحية المقصودة من الأحكام والمعاني المقصودة من الخطاب» [12]

بيد أن الملاحظ على الشطر الثاني من التعريف: «المعاني المقصودة من الخطاب»، أنه إن كان المراد به: الحكم المقصودة للشارع، فهي داخلة بدلالة التضمن في الشطر الأول، أما إن كان مراده بها: دلالات الخطاب، فهذا لا يعد مقصدا بالمعنى الاصطلاحي، بل هـو مسلك للكشف عن مقاصد الخطاب. [ ص: 74 ]

التعريف المقترح

ويمكن تعريف المقاصد بأنها: «القيم المصلحية المغياة من الأحكام الشرعية، والمرتبطة في تحققها واقعا بالقصد الإرادي من المكلف».

ويمكن تفصيل هـذا التعريف كما يلي:

1 - المقصد القيمي من التشريع وهو جلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا فصله أئمة الأصول عند تطرقهم للمعاني والحكم التي من أجلها نزل الشرع، ويستفاد هـذا من غالب التعريفات السابقة، كما أشار إليه الشاطبي في النوع الأول من القسم الأول وهو «وضع الشريعة ابتداء»؛ وذلك لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وكثيرا ما يعبر عنها بالمعاني كما في قولـه: «الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هـي معانيها؛ وهي المصالح التي شرعت لأجلها» [13] .

وهذا ما أكده العز بن عبد السلام قبله بقوله: «والشريعة كلها مصالح؛ إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح» [14] . وهذا ابن تيمية يزيد الأمر بيانا فيقول: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها» [15] . [ ص: 75 ] «والمصالح ضربان: أحدهما حقيقي: وهو الأفراح واللذات، والثاني مجازي: وهو أسبابها. وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها أو تباح، لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى مصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح» [16] .

غير أن إطلاق المصالح على معناها الحقيقي أولى دفعا؛ لما قد يقع عند التطبيق من اشتباه بين المقاصد والوسائل، وإن كانت الوسائل على اختلاف مراتبها تعد مقاصد باعتبار مآلاتها.

وهذه القيم المصلحية للتشريع شاملة لأقسام ثلاثة:

أ - المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية كما في الأمثلة المتقدمة عند ابن عاشور .

ب - المقاصد الخاصة: وهي المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين أو في أبواب قليلة متجانسة. وقد اعتنى بهذا النوع ابن عاشور؛ فتناول منها: مقاصد الشارع في أحكام العائلة، والتصرفات المالية وغيرها.

ج - المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي تكليفي أو وضعي، وهي التي يشير إليها الأستاذ علال الفاسي بقوله: «الأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها، وهي التي تنطبق عليها أمثلة ابن عاشور من كون عقدة الرهن مقصودها التوثق، وعقدة النكاح مقصودها إقامة وتثبيت المؤسسة العائلية [17] . [ ص: 76 ]

2 - المقصد الإرادي من المكلف وله بعدان:

أ - إرادة الشارع من المكلف الدخول في التكليف، ائتمارا وانتهاء؛ ليكون قصده في العمل موافقا لقصد الشارع في التكليف.

ب - إرادة امتثال من المكلف لأمر الشارع فعلا وتركا؛ لتحقيق موافقة العمل للقصد من التكليف، باعتبار أن كل عمل المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر والنهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية مطلب الشارع في ذلك مدخل فلـيس إلا مقـتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق [18] .

ثانيا: مراتب المقاصد:

نظرا لما للمقاصد الشرعية من أهمية قصوى في تفهم الحكم الشرعي وتنزيله فقد حظيت بعناية العلماء من حيث تقسيمها وبيان مراتبها بما يعين على النظر الأولوي والموازنة بين المصالح والمفاسد من جهة، وبين مراتب المصالح أو المفاسد في ذاتها من جهة أخرى، ومن ثم فقد حصل تقسيم المقاصد باعتبارات مختلفة كما يلي:

1 - من حيث مدى الحاجة إليها، إلى: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.

2 - من حيث العموم والخصوص، إلى:

كلية: وهي العائدة إلى مجموع الأمة أو غالبيتها.

وجزئية: وهي العائدة إلى الأفراد. [ ص: 77 ] 3 - من حيث قوتها في ذاتها، إلى: قطعية، وظنية، ووهمية.

4 - من حيث شهادة الشرع لها بالاعتبار أو الإلغاء، إلى: معتبرة، وملغاة، ومرسلة.

بيد أن التقسيم الأول أهم وأجمع وألصق بجانب الاجتهاد التطبيقي، وعليه فسأقتصر على بيان هـذا التقسيم مع الإشارة إلى التقسيمات الأخرى عند الحاجة.

وهذه المراتب تصنف قوة من: الضروري، ثم الحاجي، ثم التحسيني، ولكل قسم منها تكملة مشروطة بعدم العودة على أصلها بالإبطال وإلا ألغيت.

1 - المقاصد الضرورية

وهي ما لا بد منها في قيام مصـالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين [19] .

وقد مثل جماهير علماء الأصول لهذا القسم بالكليات الخمس، محاولين في ذلك حصرها فيها وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وحكى القرافي إضافة البعض قسما سادسا وهو: حفظ العرض [20] ، وتبناه ابن السبكي [21] . [ ص: 78 ] ودافع عن هـذا الشوكاني فقال: «وقد زاد بعض المتأخرين سادسا وهو: حفظ الأعراض؛ فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى، وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد، وهو أحق بالحفظ من غيره؛ فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه أو ماله ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه، ولهذا يقول القائل:

يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول» [22]

وقد رد ابن عاشور على هـذه الدعوى معتبرا حفظ الأعراض ليس من الضروري بل هـو حاجي، وأن ما حمل بعض العلماء على عده ضروريا ما رأوه من ورود حد القذف في الشريعة، رافضا بذلك الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حد [23] .

ومن المعاصرين من طالب بصياغة جديدة لهذه المقاصد؛ لتشمل من بين ما تشمل: «حرية الفرد وحقوقه الأساسية» [24] ؛ نظرا لتغير الظروف الاجتماعية، وما ينتج عن الاحتكاك القائم بين الفرد والدولة؛ حيث يسود العالم الإسلامي استبداد مطلق وكبت للحريات وانتهاك للحقوق الأساسـية للفرد التي كفلتها الشريعة. والدافع إلى إضافة هـذا المقصد ما عساه أن ينتج عن إبراز هـذا المقصد أكاديميا وإعلاميا من حس [ ص: 79 ] حضاري وأخلاقي، يؤدي إلى تحسين وضع الحريات والحقوق الأساسية للمواطن المسلم في العالم الإسلامي.

وفي رأيي المتواضع أن الادعاءين كليهما: ادعاء انحصار المقاصد الضرورية في الخمس المعروفة، وادعاء عدم إيفاء هـذه الخمس بالمقاصد الضرورية صحيح من وجه وقابل للنقاش من وجه آخر. فإذا أردنا الاختصار والإجمال فالحصر في الخمس موف بالمطلوب، وكل ما رام بعض المتأخرين إضافته إلى الضروريات الخمس لا يخرج عند التحقيق عنها، فهو لا يعدو أن يكون تفريعا وتفصيلا للكليات الخمس.

أما إذا قصدنا التفصيل أو تسليط الضوء على بعض الضروريات لمعالجة ظاهرة من الظواهر التي تفشت في مجتمعاتنا، أو للفت الأنظار وترسيخ مبدأ من المبادئ أو قيمة من القيم فيمكن إضافة سادس وسابع وأكثر من ذلك، ولا مشاحة في الاصطلاح والتقسيم، ولكن دون الادعاء أن ما أضيف اكتشاف جديد وأن ما ذكره المتقدمون قاصر.

وإذا ما حقق في طبيعة هـذه الضروريات الخمـس فسيتضح شمولها؛ إذ هـي عائدة إلى مصالح الناس:

- بحفظ دينهم ومثلهم العليا، التي يمتازون بها إنسانيا وحضاريا، ويستهدفها سعيهم في حياتهم الدنيا.

- وحفظ أرواحهم وحقهم في الحياة؛ وجودا ماديا ومعنويا، عزة وكرامة. والوجود المعنوي هـو الذي جهد الإسلام في تحقيقه للإنسان في [ ص: 80 ] المجتمع البشري؛ إذ هـو المقصود من الوجود المادي، أما الوجود المادي المجرد فيشترك فيه سائر الكائنات الإنسانية، والوجود المعنوي قوامه المثل العليا والمبادئ والقيم الخالدة.

- حفظ أموالهم وتيسير سبل تنميتها، ووجوب استثمارها، والمال يمثل الجهد المجسد للإنسان، وثمرة سعيه المشروع، وهو قوام الحياة.

- حفظ عقولهم، التي هـي أساس إنسانيتهم وقوام فطرتهم، ومناط التكليف والمسئولية، وسبب التقدم الإنساني والحضاري من كل ما يشل طاقتها الفكرية، ويقضي بالتالي على الكرامة الإنسانية.

- حفظ نسلهم، الذي يمثل صورة وجودهم وحافز نشاطهم، وبقاء نوعهم في أجياله المتعاقبة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها [25] .

وحفظ هـذه الضروريات يتم من جانبين:

- جانب الوجود: بما يقيم أركانها ويثبت قواعدها.

- ومن جانب العدم: بما يدفع عنها الاختلال الواقع أو المتوقع [26] .

2 - المقاصد الحاجية

وهو ما تحتاج إليه الأمة؛ لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام، ولكنه يكون على حالة غير منتظمة، فلذلك كان لا يبلغ مبلغ الضروري. [27] ومن أمثلتها في العبادات: [ ص: 81 ] الرخص المخففة بالنسبة للحوق المشقة بالمرض والسفر؛ كإباحة الفطر للمريض والمسافر، وقصر الصلاة للمسافر، والتيمم لفاقد الماء.

وفي العادات؛ كإباحة الصيد، والتمتع بالطيبات مما هـو حلال؛ مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا.

وفي المعاملات؛ كالقراض، والمساقاة، والسلم، وسائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ الضرورات الخمس.

3 - المقاصد التحسينية

وهي من قبيل رعاية أحسن المناهج في محاسن العادات [28] وهو كل ما يتصل بالأخلاق الرفيعة، والكمالات النفسـية، والآداب العامة،

وما يزين الحياة ويجملها في إطار قواعد الشرع وحدوده: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف:32) ؛

لتكون الأمة بهية المنظر، مرغوبا في الاندماج فيها والتقرب منها من الأمم الأخرى. وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات؛ كالطهارات، وآداب الأكل والشرب، والمنع من بيع النجاسات.

وهذه الأمور وأمثالها كما يقول الشاطبي : «راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية؛ إذ ليس فقدانها بمخل بأمر ضروري ولا حاجي، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين» [29] . [ ص: 82 ]

أهمية هـذا الترتيب:

تبرز أهمية هـذا الترتيب للمقاصد فيما يلي:

أ - إن معرفة مقصد الشارع من الحكم الشرعي يعين على فهم النص على وجهه الصحيح، ومن ثم تساعد على حسن تنـزيله على الوقائع؛ سواء من جهة الاهتداء بفهم المقصد العام في تنـزيل الحكم الكلي على الجزئيات، أو الترجيح بين ما ظاهره التعارض.

ب - إن هـذا التقسيم يحدد مراتب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها؛ فالضروريات مقدمة على الحاجيات ، والحاجيات مقدمة على التحسينيات ، والنازل مكمل للعالي، فلا يراعى الحكم النازل -كالتحسيني مثلا- إذا عاد على الحاجـي أو الضـروري بالإخـلال، أما الضروري فلا يجوز الإخلال به إلا إذا أخل بكلي أهم منه؛ كالتضحية بالنفس في الجهاد للحفاظ على الدين. [ ص: 83 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية