الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في الاجتهاد التنزيلي

الدكتور / بشير بن مولود جحيش

الفصل الرابع

نماذج تطبيقية

المبحث الأول: حق الملكية بين المشروعية والتقييد

لقد أقرت الشريعة حق الملكية، وشرعت له من المؤيدات ما يثبته ويصونه ويحميه، بيد أنه مع ذلك قيدته بما لا يضـر بالغيـر؛ فردا كان أو جماعة، فحق الغير محافظ عليه شرعا.

ومن ثم فإن للحق الفردي صفة مزدوجة، فردية وجماعية في آن واحد؛ أما الفردية: فلأن الحق ليس بذاته وظيفة بل هـو ميزة، تخول صاحبها الاستئثار بثمرات حقه، فحق الفرد أصلا شخصي، وهو وسيلة لتحقيق المقصد المشروع، وفي هـذا اعتراف بكيان الفرد وتكريم له؛ إذ الشريعة رسالة تعتني أساسا بالفرد باعتباره اللبنة الأساس في بناء المجتمع. وأما الجماعية: فتبدو في تقييد هـذا الحق بمنع اتخاذه وسيلة إلى الإضرار بالغير؛ فردا أو جماعة، قصدا أو بغير قصد، بالنظر إلى مآلات استعماله بناء على غائية الحق وأصول التكافل والتضامن الاجتماعي، ومبدأ الاستخلاف القائم على حسن استغلال الموارد التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان [1] . [ ص: 135 ] وفي هـذا أبلغ دلالة على أن الملكية في الإسلام حق خاص ذو وظيفة اجتماعية؛ فإذا ما حدث تعسف من صاحب الحق في استعمال حقه بما يعود على المقصد الشرعي بالنقض، أو على مصالـح الغير بالضرر، أو استدعت ضرورة أو حاجة ماسة للدولة إلى تقييده، فإن الشريعة قد خولت السلطة الحاكمة صلاحية تقييد هـذا الحق، بعد تحقيق مناطه والنظر في مدى تحقيق ذلك التقييد لمقاصد الشريعة، والتبصر بمآلاته؛ صلاحا وفسادا، وعلى ضوء هـذا التحقيق والتبصر يتحقق الموقف من تقييد الحق؛ إقداما أو إحجاما.

وقبل المضي في بيان هـذه النماذج التطبيقية لا بد من تأكيد أن أموال الناس مصونة ولا يجوز للحاكم أن يتعرض لها بغير حق، وأن الناس مسلطون على أموالهم، ليس لأحد أن يأخذها، ولا شيئا منها بغير طيب أنفسهم، إلا في المواضع التي تلزمهم؛ لكون مصادرة أموال الناس وتقييدها بغير حق ظلم ظاهر، قاتل لروح العمل وفاعلية الإنجاز، ومؤذن بخراب العمران، وهذا ما يقرره ابن خلدون بعد ذكره لنماذج كثيرة من الظلم الواقع على حق الملكية، فيقول: «واعلم أن هـذه هـي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال» [2] . [ ص: 136 ]

أولا: فرض الضرائب على الأموال الخاصة

تعرف الضريبة لدى علماء المالية العامة بكونها: «فريضة إلزامية يلتزم الفرد بأدائها إلى الدولة، تبعا لمقدرته على الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة. فهي ذلك الجزء الذي تستولي عليه الدولة بما لها من حق السيادة من دخول الأفراد وأموالهم، باعتباره نصيب كل منهم في حمل الأعباء العامة» [3] .

وإذ تحدد مفهوم الضريبة فما هـو موقعها في النظام التشريعي الإسلامي، وكيف يمكن تكييفها؟

لقد عالج هـذه المسألة كثير من الأئمة الأعلام أبرزهم الغزالي والشاطبي؛ أما الغزالي فقد تناول هـذه المسألة في معرض حديثه عن المصالح المرسلة في: «شفاء الغليل»، تحت عنوان: «توظيف الخراج على الأراضي ووجوه الارتفاقات»، وذهب إلى جوازه مشروطا بتحقيق المصلحة، ومن ثم فعند دراسته لواقع عصره وظروفه تجاه هـذه المسألة رأى عدم جوازها؛ لعدم تحقق مناط هـذا التصرف، والذي هـو المصلحة، فقال: «فإن آحاد الجند لو استوفيت جراياتهم ووزعت على الكافة لكفاهم برهة من الدهر، وقدرا صالحا من الوقت، وقد تشمخوا بتنعمهم وترفههم في العيش، وتبذيرهم في إفاضة الأموال على العمارات ووجوه التجمل على سنن [ ص: 137 ] الأكاسرة... فكيف نقدر احتياجهم إلى توظيف خراج لإمدادهم وإرفاقهم، وكافة أغنياء الدهر فقراء بالإضافة إليهم».

ولكن إذا اختلف الواقع عما كان عليه عهد الغزالي، وحقق المجتهد في ذلك وتبين له وجه المصلحة وانتفت المآلات الناقضة لها، فالحكم يختلف، وفي ذلك يقول الغزالي : «فأما لو قدرنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود؛ لسد الثغور، وحماية الملك بعد اتساع رقعته، وانبساط خطته، وخلا بيت المال عن المال... فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال» [4] .

ويقرر الإمام الشاطبي هـذه المسألة في «الاعتصام» فيقول: «وهذه المسـألة نص عليها الغزالي في مواضـع من كتبه، وتلاه في تصحيحها ابن العربي في أحكام القرآن له، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع» [5] .

ويقول أيضـا: «إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود؛ لسد الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلا أن يوظـف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمرات وغير ذلك؛ كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلا من كثير، بحيث لا يجحف [ ص: 138 ] بأحد ويحصل المقصود، وإنما لم ينقل مثل هـذا عن الأولين لاتساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا... فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإسلام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار» [6] .

وهنا يؤصل الإمام الغزالي قاعدة ضابطة لتدخل الإمام العادل في مثل هـذه القضية لرعاية المصلحة العامة، فيقول: «إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع إلى دفع أشد الضررين وأعظم الشرين» [7] . وهذه هـي قاعدة: يختار أهون الشرين ، أو الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، أو يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام .

ويتضح مما سبق من تقريرات العلماء لمشروعية فرض ضرائب على أموال الناس، زائدة على ما نص عليه في الشرع من الزكاة وغيرها أن تطبيق هـذا الإجراء الطارئ لتقييد حق الملكية بالضرائب لا بد أن يبنى على ما يلي:

1 - دراسة واقع الدولة بكل ملابساته وظروفه، والتأكد من مسيس الحاجة لمثل هـذا الإجراء لإقامة فروض الكفاية، وعجز خزينة الدولة عن سد هـذه الحاجات، وهذا حسب ما تبين قد يتحقق في واقع دون واقع، مما يقتضي تحقيقا خاصا للمناط.

2 - إن هـذا الإجراء هـادف إلى تحقيق مقاصد شرعية أساسية لحماية البيضة بتقوية الجيش، أو لدفع ما نزل بالبلاد من خطر داهم أو كوارث طبيعية عامة؛ من زلازل أو فيضان أو مجاعة، وفي هـذا حفظ للدين من أن تخضد شوكته، وللأنفس من التلف. [ ص: 139 ] 3 - وعند اتخاذ هـذا القرار وإلزام الرعية به لا بد من التبصر بمآلات هـذا التطبيق. فإن كان يفضي إلى النتائج الحسنة المرجوة كان لا بد من إمضائه، وأما إن تبين عدم إفضائه إلى ذلك، وأنه لا ينتج عنه سوى إرهاق الرعية وإثقال كاهلها بهذه الضرائب فلا بد من الإحجام عنه.

ثانيا: التسعير

التسعير : هـو «أن يصدر موظف عام مختص بالوجه الشرعي أمرا بأن تباع السلع، أو تبذل الأعمال أو المنافع التي تفيض عن حاجة أربابها، وهي محتبسة أو مغالى في ثمنها أو أجرها على غير الوجـه المعتاد، والناس أو الحيوان أو الدولة في حاجة ماسة إليها، بثمن أو أجر معين عادل بمشورة أهل الخبرة» [8] .

ولقد قصد الشارع من تشريعه أحكام المعاملات هـدفا ساميا هـو تحقيق المصلحة والعدل، والتسعير قائم على هـذين الأمرين: أما الأمر الأول وهو تحقيق المصلحة فيبينه الإمام الباجي عند بيانه لمستند التسعير بقوله: «ووجهه -أي: التسعير الجبري- هـو ما يجب من النظر في مصالح العامة». وقوله أيضا: «وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه» [9] .. أما تحقيق العدل فيوضحه ابن تيمية بقوله: «إذا تضمن -التسعير الجبري- العدل بين الناس مثل [ ص: 140 ] إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب» [10] . ومن ثم فالتسعير ما شرع إلا لسد ذريعة الاستغلال حال الشدة واشتداد الأزمات والضيق؛ بغية تحقيق العدل متمثلا في المصلحة العامة الواقعة أو المتوقعة.

وقد ذهب جماهير العلماء إلى تحريم التسعير الجبري في الأصل، واختلفوا فيما دعت إليه الحاجة العامة بين محرم بإطلاق، وقائل بالجواز ( الحنفية ) [11] ، وموجب له عند اقتضاء المصلحة، وإلى هـذا الأخير ذهب مالك في رواية أشهب ، وبعض أئمة المذهب المالكي [12] ، وهو مذهب متأخري الحنابلة [13] .

أدلة التسعير؛ منعا وجوازا

اعتمد المانعون للتسعير بإطلاق على كونه حجرا على حرية الملاك المكفولة من قبل الشارع، وترجيح مصلحة المشتري الفردية على مصلحة البائع رغم تساويهما في الاعتبار شرعا، فضلا عن كون هـذا التسعير منافيا لمبدأ التراضي في العقود [14] . يقول الشوكاني : «ووجهه -رأي تحريم التسعير- أن الناس مسلطون على أموالهم، والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص [ ص: 141 ] الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم. وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقوله تعالى:

( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) (النساء:29) ».

ثم كونه كما يرى ابن قدامة المقدسي سببا رئيسا من أسباب التأزم الاقتصادي إذ يقول مؤيدا قول بعض أصحاب المذهب: «قال بعض أصحابنا: التسعير سبب الغلاء؛ لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون، ومن عنده البضاعة يمتنع عن بيعها ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلا، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار، ويحصل الإضرار بالجانبين: جانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه، فيكون حراما» [15] .

أما الأدلة النقلية التي اعتمد عليها المانعون فمستفادة من السنة نصا لا من القرآن، ومن ذلك ( ما رواه أبو هـريرة قال: «جاء رجـل فقال: يا رسول الله، سعر. فقال: بل أدعو الله... ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر. فقال: بل الله يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة ) [16] . ( وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله هـو الخالق القابض الباسط [ ص: 142 ] المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال ) [17] . والنبي صلى الله عليه وسلم «لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه» [18] .

وخلاصة أدلة المانعين تعود في محصلتها ليس فقط إلى كون التسعير غير كفيل بتحقيق السعر العدل فحسب، بل هـو في الحقيقة سبب مباشر في الإضرار بالبائع والمشتري والمنتج والمستورد، وباقتصاد الدولة عامة، وما دام تحقيق مقصد العدل غاب، فضلا عما تئول إليه هـذه الوسيلة من أضرار جسيمة بالأمة، فإن حكمها التحريم والمنع مطلقا.

غير أن المجيزين للتسعير قد تشوفوا إلى تحقيق المصلحة والعدل، ورعاية مصالح العامة إذا تعسف التجار والمحتكرون في استعمال حقوقهم، وعملوا على إنهاك الأمة بالأسعار المرتفعة، أما في الظروف العادية فإن التسعير حكمه المنع استنادا إلى أدلة المانعين النظرية والنقلية؛ ولذلك نجد ابن تيمية يقسم التسعير إلى نوعين: أولهما: ظلم محرم. والثاني: عدل جائز، بل واجب. فيقول: « التسعير : منه ما هـو ظلم لا يجوز، ومنه ما هـو جائز» [19] .

ويبين تلميذه ابن القيم مناط كل منهما بقوله: «فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله تعالى لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس؛ مثل إكراههم على [ ص: 143 ] ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب... فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله. فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق. وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها، إلا بزيادة على القيمة المعروفة. فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل. ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هـهنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به» [20] .

وهذا التسعير الواجب قائم أساسا على رعاية المصلحة العامة التي نهض الشارع بوجوب اعتبارها، وهي دفع الظلم الواقع أو المتوقع عن العامة أو الدولة، أو دفع التعارض بين المصلحة العامة والخاصة والتوفيق بينهما، فهو محرم إذا أوقع ظلما بالتجار (وهو علة نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير على عهده) ، وهو واجب إذا تعين وسـيلة لدفع الظلم عن العامة.

وجماع الأمر كما قال ابن القيم : «إن مصـلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل» [21] .

والتسعير في خلاصته تدبير اجتهادي مصلحي ضروري يضطلع به [ ص: 144 ] من نيط به توجيه السياسة الاقتصادية في الأمة حالة تعارض المصلحتين: الخاصة والعامـة، ويفسح مجالا لتدخل ولي الأمر في توجيه حرية العمل أو التجارة، أو تقييد ممارسة حق الملكية والعمل على وجه لا يضر بجماعة المسلمين وأوطانهم؛ سواء أكان ذلك وقت الأزمات والظروف الاستثنائية القائمة، أو في الأحوال العادية إذا أسيئ التصرف في حق الملك إلى حد يخلق مثل تلك الأزمات، وهذا التدخل تكليف مفروض على ولي الأمر؛ لأن تصرفه على الرعية منوط بالمصلحة التي هـي أساس ولايته العامة.

كما أن التسعير تدبير وقائي يحول دون استغلال حاجة الناس بمنع الاحتكار وفرض التسعير الجبري، وهو في الوقت نفسه تدبير علاجي أيضا؛ يعالج الأزمة إبان وقوعها، وذلك بفرض التسعير إذا عجز أولياء الأمر عن المحافظة على حقوق الناس والبلاد إلا به. وبذلك كانت المصلحة المتوقعة كالواقعة، من حيث جلب المنافع، ودرء الأضرار والمفاسد، عملا بقاعدة: « الضرر يدفع بقدر الإمكان »، وقاعدة: « الضرر يزال »، وقاعدة: « درء المفاسد مقدم على جلب المصالح » وغيرها من القواعد [22] .

ثم إن التسعير كما يقول الدكتور الدريني في مذكراته: «آخر وسيلة يلجأ إليها حين العجز عن اتخاذ أي وسيلة أخرى لدفع الضرر العام، من جراء الاحتكار، أو التحكم في السعر، ويجب أن يشرع في الوقت وعلى الوجه الذي يغلب على الظن إفضاؤها إلى المقصود؛ أي يجب أن تكون [ ص: 145 ] مناسبة وملائمة... حتى إذا أفضت إلى ظلم أي من الفريقين منعت؛ لأن الظلم غير مشروع الوقوع، أو الإيقاع بحال من الأحوال» [23] .

وعلى ولي الأمر أن يقدر الظروف، وينظر في المآلات والعواقب بمشورة أهل الخبرة والعلم.

وهكذا تبين أن وجوب إعمال وسيلة التسعير مرتبط بشروط خلاصتها:

1 - دراسة الواقع واختباره، وتبين مدى حاجة العامة أو الدولة لإجراء التسعير؛ وذلك بالاستعانة بأهل الخبرة للتأكد من تحقق مناط هـذا الحكم، وهو العدل والمصلحة.

2 - التحقق من تحصيل مقصد رفع الظلم عن الطرفين عبر إجراء عملية الموازنة بين المصلحة الخاصة والعامة.

3 - التبصر بالمآلات في ضوء الظروف الملابسة، وأنه ليس لتطبيق وسيلة التسعير عواقب عكسية تعود على مقصدي العدل والمصلحة بالنقض، وهو ما قد يعود إلى إيقاع الظلم بالملاك من جراء تعسف الدولة في إجراء هـذه الوسيلة. [ ص: 146 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية