الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

في الاجتهاد التنزيلي

الدكتور / بشير بن مولود جحيش

المبحث الثالث: أدلة اعتبار تحقيق المناط

إن الناظر في السنة النبوية المطهرة وفتاوى وتطبيقات فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم ليجدهما مفعمين بالأدلة والشواهد على صحة اعتبار هـذا الأصل التطبيقي الهام، بل يجد أن السمة التي تسم فتاواهم وتوجيهاتهم الشخصية هـي تحقيق مناط الأحكام العامة والقواعد الكلية تبعا لظروف المستفتي أو الشخص محل التوجيه، وملابسات الواقعة المفتى فيها بما يراه المرشد أو المفتي الأنسب والأصلح للشخص أو لمعالجة النازلة، أو بما يمثل واجب الوقت في حق المحكوم عليه، وفيما يلي نماذج من ذلك:

أولا: من السنة النبوية

1 -إجابة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة عن سؤال واحد بإجابات مختلفة ومن ذلك:

أ - سؤاله عن أفضل الأعمال: حيث ورد في السنة أنه سئل مرات كثيرة عن: أفضل الأعمال، فكانت إجابته تختلف من شخص إلى آخر رغم اتحاد السؤال. وواضح أن السؤال كان من أشخاص تختلف أحوالهم، وفي ظروف مختلفة، فكانت إجابته صلى الله عليه وسلم إما بذكر أفضل الأعمال على الإطلاق، كما هـو الحال في الحديث الذي جعل فيه أفضل الأعمال الإيمان بالله تعالى، أو بحسب الشخص والحال وواجب الوقت. [ ص: 60 ] - ( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله». قال: ثم ماذا؟ قال: « الجهاد في سبيل الله». قال: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور ) [1] .

- ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة في أول وقتها.» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين ) [2] .

- ( وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مرني بأمر آخذه عنك. قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له ) [3] .

- ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «...وما أعطي أحد شيئا هـو خير وأوسع من الصبر». )

فهذا الحديث جاء في سياق توجيه قوم أعوزتهم القناعة وأكثروا من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات، فاقتضى المقام تذكيرهم بالصبر وتوجيههم إلى أنه خير ما يسع الإنسان في مختلف ظروفه. ( ففي الحديث أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم قال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر ) [ ص: 61 ] ( يصبره الله، وما أعطي أحد شيئا هـو خير وأوسع من الصبر ) [4] .

- ومنها ( قوله صلى الله عليه وسلم : «...وأفضل العبادة انتظار الفرج ) [5] .

- ومنها ( ما رواه عبد الله بن عمرو ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) [6] .

فتوجيه الأفضل فيما سبق ذكره لنوع من العمل بعينه ليس بإطلاق، بل الأمر راجع في التحـقيق إلى حال المخاطب: ما هـو في حاجة إليه، أو يصلح له في حال دون حال، وفي شخص دون شخص، وفي زمن دون زمن.

ب - سؤاله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس: فكان جوابه يختلف كما هـو الحال في جوابه عن أفضل الأعمال ولنفس الأسباب:

- فمن ذلك ( ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ) [7] . [ ص: 62 ] - ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المسلمين خير؟ قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده»[8] .

2 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم للصحابة بأدعية مختلفة: فقد دعا لأنس بن مالك رضي الله عنه بكثرة المال؛ لما رأى فيه متانة الدين وقوة النفس، وأنه سيجعل المال في يده لا في قلبه، يتخذه وسيلة لخدمة الإسلام والمسلمين لا درك فتنة يسقط فيه، فبورك له فيه، بينما أعرض عن الدعاء لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء بكثرة المال؛ لما خشي عليه من فتنة الدنيا، ( وقال له: «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) [9] .

3 - نهيه صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عن تولي الإمارة وتولي أموال الأيتام مع أن أبا ذر كان أصدق من أقلت الغبراء، ( فقال صلى الله عليه وسلم : « يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ) [10] ، «ومعلوم أن العملين كليهما من أفضل الأعمال؛ لمن قام فيه بحق الله، وقد ( قال صلى الله عليه وسلم في الإمارة والحكم: « إن المقسطين عند الله ) [ ص: 63 ] ( على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )[11] .

( وقال: « أنا وكافل اليتيـم كهاتين في الجنة ) [12] . ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصا في ذلك من الصلاح» [13] .

4 - عطاؤه صلى الله عليه وسلم للناس بحسب إيمانهم وخصائصهم النفسية بما يكفل لهم من صلاح أو يدفع شرهم، وفي ذلك ( يقول صلى الله عليه وسلم : « إني أعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدعه أحب إلي من الذي أعطيه، أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير ) [14] .

وسياق الحديث وارد في غزوة حنين حين أغدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم الكثير على رجال من قريش، ووكل الأنصار إلى إيمانهم وقناعتهم، فاعترض رجل من الأنصار بما يبدو ظاهره الصواب؛ حيث رأى أن الأنصار الذين آووا ونصروا وجاهدوا قريشا أولى بالغنائم ممن كان بالأمس عدوا للإسـلام والمسلميـن، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بثاقب بصيرته وبما ألهمه الله تعالى رأى أن الصواب عكس ذلك، فخص بالغنائم رجالا [ ص: 64 ] من قريش حديثي عهد بالإسلام يتألفهم، ويدفع عن قلوبهم ما بقي فيها من آثار الجاهلية من هـلع وجزع، ووكل الأنصار الذين ملأ الإسلام قلوبهم بالإيمان والغنى والخير إلى ما في قلوبهم.

5 - تفريقه صلى الله عليه وسلم في قبول الصدقات بين الصحابة رضوان الله عليهم كل بحسب حاله، وبما فيه صلاحه: فقبل صلى الله عليه وسلم من أبي بكر كل ماله، واعترض على كعب بن مالك لما عرض عليه، بعد أن تاب الله عليه، أن ينخلع عن كل ماله صدقة إلى الله ورسوله، وأمره أن يمسك عليه بعض ماله ( فقال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ) [15] .

وجاء آخر بمثل البيضة من الذهب فردها في وجهه، ثم ( قال: «يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هـذه صدقة. ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ) [16] .

ثانيا: من آثار الصحابة وفتاويهم

فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم ما لا يكاد يحصى من صور وأمثلة تحقيق المناط في اجتهاداتهم وفتاويهم، ومن ذلك:

1 - " ما أثر عن عـلي رضي الله عنه أنه قـال: «حـدثوا الناس بما يفهمون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسـوله. " " وفي رواية: حدثوا الناس [ ص: 65 ] بما يعرفون، ولا تحدثوهم بما ينكرون؛ فيكذبوا الله ورسوله» " [17] ، فجعل إلقاء العلم مقيدا؛ فرب مسألة تصلح لقوم دون قوم.

2 - " مارواه يزيد بن هـارون ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن سعد بن عبيدة قال: «جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال: لا، إلا النار. قال فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة؟ قال: إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل رجلا مؤمنا. قال: فبعثوا في أثره فوجـدوه كذلك» " [18] . فأدرك ابن عباس بثاقب بصيرته خصوصية عارض الغضب على ذلك الشخص، وأن حاله يقتضي استدعاء حكم آخر لنشوء مناط يختلف عن المناط العام للتوبة أصالة؛ لكون ظاهرة الغضب تنم عن نية الإقدام على جريمة القتل المحرم، والسؤال لم يكن غير التماس للمبرر الشرعي من المفتي، مما حـمل ابن عباس على مراعاة الاقتضاء التبعي لدليل التوبة بدلا من الاقتضاء الأصلي لحكم التوبة النصوح.

وعلى العكس من ذلك حال المستفتي الذي تعتريه حالة اليأس والقنوط من رحـمة الله؛ لاستعظامه توبة الله عليه، وهو تائب فعلا، فهذا [ ص: 66 ] ينبغي مراعاة حاله، وفتح باب الأمل أمامه بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك، وأن حكم التوبة بالنسبة لهذا يجري عليه اقتضاء حكمها أصالة لانتفاء العوارض المنافية لها [19] .

ثالثا: جريان التطبيق الفقهي لأحكام كثيرة بناء على هـذا الأصل

1 - حد الحرابة: في قوله تعالى: ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) (المائدة:33) ،

حيـث ذهب: مالك ، وأبو ثور ، ورواية عن ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، ومجاهد ، والضحاك ، والنخعي إلى أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعـالى من القتل والصـلب، [ ص: 67 ] أو القطع، أو النفي بظاهر الآية [20] ؛ وذلك بحسب اجتهاد الإمام ومشورة الفقهاء بما يراه أتم للمصلحة وأدفع للفساد وليس على هـواه.

2 - التخيير في الأسارى بين: القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء، وضرب الجزية عليهم، على خلاف بين الفقهاء، بحسب ما يراه الإمام الأصلح والأوفق لمصلحة الإسلام والمسلمين [21] .

3 - ما نص عليه الفقهاء من سريان الأحكام الشرعية الخمسة على الزواج، وذلك تبعا لحال الشخص وظروفه: فيكون واجبا في حق القادر على نفقات الزواج والقيام بحقوقه الشرعية؛ إذا تيقن الوقوع في الزنا، ولم يستطع دفعه إلا بالزواج. ويكون حراما في حق من تيقن العجز عن تكاليفه وعن القيام بحقوقه؛ ويكون مكروها لمن خاف عدم القدرة على القيام بحقوق الزوجية وكان بإمكانه منع نفسه عن الحرام. ويستحب الزواج في حالة الاعتدال. وقال الشافعي : يكون مباحا [22] . [ ص: 68 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية