الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.

لقد عالج هـذا البحث أبرز أصول الاجتهاد في تطبيق (تنـزيل) الأحكام الشرعية؛ دراسة وتحليلا ومناقشة، من خلال التركيز على ضرورة فهم الواقع وكيـفية إحكامه بالشرع، وذلك بالاسـتعانة بما أنتجه علماؤنا عبر مسيرة تاريخ التشريع الإسلامي؛ فهما وتنـزيلا. وتبين أن تنـزيل الأحكام الشرعية وتكييف الواقع الإنساني بها هـو ثمرة الخطاب الشرعي، وبقدر ما يكون هـذا التطبيق قائما على أصول منهجية بقدر ما يحقق مقاصد الشريعة، ويجنب الفقيه مواقع الزلل في الفهم والتطبيق.

فكان الأصل الأول: تحقيق مناطـات الأحـكام، والذي شهدت له السنة النبوية وفتاوى وتطبيقات الصحابة بالاعتبار، وهو إثبات مضمون الحكم الشرعي التكليفي المستفاد من نص أو إجماع أو اجتهاد في الوقائع الجزئية أثناء التطبيق، والتحقق من مدى اشتراك الأصل والفرع في العلة عند القياس.

ونظرا لكون الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، بل أتت غالبا بقواعد كلية وعبارات مطلقة، متناولة داخلها أعدادا غير منحصرة من الوقائع والجزئيات المتمايزة والمتشابهة، فما على المجتهد إلا أن يبذل جهده في تنـزيل هـذه العمومات والمطلقات الحكمية على الأفعال والأحداث التي لا تقع مطلقات بل معينة؛ زمانا ومكانا وشخصا. [ ص: 162 ] ومن ثم فتحقيق المناط يتم عبر مرتبتين؛ الأولى: تحقيق المناط العام في أنواع الوقائع والأفعال المشمولة بالحكم فيناط بها؛ لكون الحكم المنطوي عليه النص يتجه أساسا إلى أجناس الأفعال، ويكون دور من يتولى التطبيق تحقيق الحكم في الأنواع لإلحاق كل منها بجنسه.

وتعد مرتبة تحقيق المناط النوعي مدخلا وإطارا محددا لتحقيق المناط في أفراد النوع الواحد عبر مراعاة ظروف وملابسات الزمان والمكان والشخص.

وتبين أن الغرض من تنـزيل الحكم عبر تحقيق مناطه هـو طلب إصابة مقصد الشارع، وذلك من خلال أصل التحقيق في حصول «المقاصد الشرعية»، المتمثلة في القيم المصلحية المغياة من الأحكام الشرعية، والمرتبطة في تحققها واقعا بالقصد الإرادي من المكلف.

وقد شهد لاعتبار هـذه المقاصد الشرعية شواهد كثيرة منها: حكمة الله تعالى من الخلق وإرسال الرسل، التي لم تكن عبثا بل لمقصد الاستخلاف والعبادة، ثم إن استقراء أدلة الأحكام الشرعية كتابا وسنة أفاد كون أحكام الشريعة منوطة بمقاصد آيلة لتحقيق الصلاح الفردي والجماعي في الدارين، والتي عمل الصحابة رضي الله عنهم على تحريها وتحقيقها في تحركهم بهذا الدين؛ استنباطا لأحكامه وإيقاعا لها.

وهدف تحصيل المقاصد الشرعية عند التنـزيل منوط بمدى فهم الواقع عبر آليات الفهم المختلفة والمتجددة، وفهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله فيه، وإن مما يعين على تحصيل هـذه المقاصد التفريق بين ما هـو مقصد من الحكم الشرعي مما هـو وسـيلة إليه [ ص: 163 ] أو وسيلة إلى وسيلته؛ حتى لا يقع خلل ناقض لمقصد الشارع عند الموازنة بين المصالح والمفاسد، مما يتطلب أيضا الموازنة بين مقصد التكليف وقصد المكلف، حتى إذا تبين أن قصد المكلف تعطيل تحقيق هـذه المقاصد عومل معاملة القصد الفاسد؛ إذ كل من ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل.

ولم يكن ما سبق ليعني تنـزيلا آليا للأحكام دون اعتبار لما قد يئول إليه ذلك التنـزيل وما يسببه من تداعيات خطيرة تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل ذلك محكوم بأصل التحقيق في مآلات التطبيق الذي هـو مهيع متسع ومسلك غير ممتنع، أصله القرآن وشهدت له السنة وتطبيقات الصحابة والفقهاء ببيان.

واعتبار المآلات أريد به صرف الأفعال من أحكامها الأصلية إلى أحكام أخرى تلافيا لما قد ينتج عن الأولى من مآلات فاسدة وتوجيهها إلى مآلات الصلاح، وهذا الصرف ليس منطلقه الاعتباط والتحكم لإفضائه حينها إلى تبديل شرع الله وتحريف الكلم عن مواضعه، بل لابد أن يجري عبر مسالك شرعية اقتضاها أصل اعتبار المآلات، والتي تعد ضابطة لهذا الصرف للسير به على مسلك لاعوج فيه ولا شطط.. وتبين أن أبرز هـذه المسالك هـي: سد الذرائع، والاستحسان، ومنع الحيل.

وقد تبينت معالم وآليات إعمال أصول الاجتهاد التطبيقي (التنـزيلي) من خلال تطبيقات فقهية في جانبين أساسين في نظام التشريع الإسلامي: النظام الاقتصادي، والنظام السياسي.

وبالله التوفيق. [ ص: 164 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية