- التحدي الحضاري
المصطلحات، أولا وأخيرا، وسيلة لا غاية؛ وهي حتى لو تحققت لها كل المواصفات التي تطرقت إلى عرضـها- تقييسا ومنهجـية ودقة وضبطا، لن تكون إلا طـولا وعرضا في الفـراغ، بلا عمـق، وبالتالي غيـر فاعلة حقا ما لم توضع موضع التطبيق اليومي العملي والعلمي في قاعات الدرس وأوساط الدارسين والمدرسين والعلماء- في المدرسة والجامعة والمختبرات ومعامل الأبحاث- في محاضراتهم ومؤلفاتهم، وكتبهم، ومداولاتهم، والبيئة من حواليهم. وأنى لنا ذلك وجامعاتنا التي قاربت المائة في العالم العربي، إلا أقل القليل منها تدرس مواد العلوم لا سيما التقانيات والطب والهندسات باللغات الأجنبية. فيتخرج الجيل الطالع غريبا لا عن المصطلحات فقط بل عن لغته القومية أيضا؛ حتى ليأنف الاختصاصي منهم، أو هـو في الواقع يعجز، عن [ ص: 119 ] استخدامها في محاضراته وكتاباته حتى في موضوع اختصاصه، كما قد يتهرب من التدريس بها معلما أو أستاذا فيما لو طلب إليه ذلك.
إن مستقبلنا العلمي والحضاري مرتبطان بقضية تعريب العلم والتعليم، فلا يعقل أن نخوض مجالات العلم الحديث ونواكب تقاناته وننعم بمنجزاته، وتبقى لغتنا غريبة عن أجواء العلم وديناميكيته وتقنياته وإبداعه. لقد آن أن تصبح اللغة العلمية العربية جزءا من حياتنا اليومية، في المدرسة والبيت والمصنع، وأن تغدو الثقافة العلمية جزءا من ثقافة الصانع والطالب والمعلم والصحافي والأديب وصاحب الاختصاص الفني. المسئولون في العالم العربي يكثرون الحديث عن التنمية في هـذه الأيام، ويركزون مشاريعها على النواحي المادية. ويا ليتهم لا يتناسون أن تنمية الإنسان العربي هـي الأساس في عملية التنمية؛ ديمقراطية العلم وديمقراطية المعرفة وتكافؤ الفرص مقفلة حتما دون اللغة القومية ؛ من المحال أن تنقل الأمة كلها إلى العلم، لكن من الممكن أن تنقل العلم كله إلى الأمة، بإتاحته لهم باللغة القومية. إنه لا تنمية دون تعريب التعليم، تعريبا شاملا في مختلف القطاعات، لا الجامعية والأكاديمية فقط بل الصناعية والتجارية والزراعية والحياتية عامة. وإلا كيف يصل العلم إلى الفلاح والنجار والبناء والحداد والصانع والسمكري وسائق السيارة وغيرهم من أفراد المجتمع؟ كيف يصل العلم إلى هـؤلاء إذا كانت كليات الزراعة والصيدلة والصناعة والهندسة والكيمياء تخرج لهم من لا يستطيعون إيصال ما يتعلمونه إليهم؟ كلياتنا تؤهل خريجيها ليخدموا بيئة أخرى غير بيئتهم. التحدي الذي يواجهنا كأمة، اليوم وغدا، القريب والبعيد، هـو تحدي استنبات العلم وتوطين التكنولوجيا عربيا؛ فاللغة أي لغة -حسبما يؤكد [ ص: 120 ] العارفون – هـي المهد الذي ينبت فيه العلم، وما استفاد قوم علما إلا علما زرعوه بلغتهم. اللغة العربية لا ينقصها خصائص اللغة العلمية ولا مقوماتها. والذين يتهمون العربية بالعجز عن مجاراة التطورات الحضارية العلمية إنما يعترفون بعجزهم هـم، بل بعجزنا نحن في دنيا العرب؛ نتيجة لبيئات الجهل والتجهيل والكسل العقلي والانهزامية التي نشئنا عليها، مرسخة من عهود الظلمة والقهر، ولا تزال فاعلة فينا بقوى لا ندريها أو لعلنا ندريها، ولأسباب متباينة لا نتحمس لتغييرها. اللغة العربية نالت اعتراف العالم منذ 1973م، وأصبحت لغة رسمية مع اللغات الخمس الكبرى في مؤسسات هـيئة الأمم المتحدة كافة عام 1982م؛ لكن العالم العربي مع الأسف يتنكر للغته. إنك لا تكاد تجد بين أمم العالم، صغيرها وكبيرها، أمة تقدم العـلم لأبنائها بغير لغـتهم سـوى في عالمنا العربي المتعثر؛ فلا صعوبة كتابة اللغة اليابانية أو الصـينية، ولا صغر حجم بعض دول أوروبا، ولا فقر بعض دول آسيا، ولا شح مصطلحات اللغة التركية، ولا موات اللغة العبرية، حالت دون أن تكون اللغة القومية هـي لغة تدريس العلوم في تلك البلاد. في إحدى الندوات أخبرنا زميل زار شمال أوروبا في جولة تربوية في فنلندة ، أنه في إحدى المدن، وسكانها لا يتجاوزون الربع مليون، 93% منهم يتكلمون الفنلندية و7% يتكلمون السويدية، وكلتاهما لغة رسمية في فنلندة ، هـناك كليتان للطب، إحداهما تدرس السويدية والأخرى باللغة الفنلندية. والتعريب كذلك ضرورة قومية يقتضيها ترابطنا أفقيا كأمة، أو على الأقل كشعوب، على امتداد الوطن العربي، ويقتضيها ترابطنا عموديا مع تاريخنا وجذورنا وتراثنا وعروبتنا. لقد نجح الاستعماريون، والمنتدبون [ ص: 121 ] الأوصياء قهرا، في تقسيم الوطن العربي سياسيا وإداريا واقتصاديا وحتى ثقافيا، لكنهم رغم محاولاتهم المتعددة لم ينجحوا في تمزيق اللغة العربية، فظل الرابط القومي الروحي؛ والتعريب تمتينا لهذا الرابط. والتعريب حتى يتجاوز كل ذلك، لأنه قضية كرامة؛ كرامة لغة، وكرامة أمة. إن الاستمرار في تدريس العلوم والتقانيات وسواها من المواد الرئيسية في برامج معظم جامعاتنا وبعض مدارسنا بلغة أجنبية، إضافة إلى أنه مخالف لكل المبادئ التربوية، هـو إذلال للغة العربية وهدر للكثير من جهود التنمية العلمية العربية، ولكل الجهود التي تبذل في مجال المصطلحات العربية، بل هـو إذلال للشخصية العربية، ومركب نقص يصب في هـدم المعنويات والطموح العربي.
إن الشاب العربي؛ الطالب اليوم والمثقف والمثقف غدا، الذي يرى المواد الرئيسية في بلده تدرس بلغة أجنبية، وأنه يتقدم للامتحانات الحاسمة في مصيره بها، وأن المكانة الاجتماعية والرفاه أيضا مرتبطان وثيقا بها، يتأصل في قرارة نفسه، بالإشراط النفسي البافلوفي، شئنا أم أبينا، دونية اللغة العربية وثانوية أهميتها، مهما نتكلم عن فضائل العربية وجلالها، ومهما نمجدها بالكلام والشعارات. وهذا الموقف المؤسف لا يقتصر على الطالب وحده، بل إنه تأصل إلى حد كبير في لا وعي الأهل في الكثير من البيئات -وأحيانا حتى في لا وعي الأساتذة والمسئولين، فغدوا يتقبلون هـذا الواقع الشاذ وكأنه الأمر الطبيعي. خيار التعليم باللغة الأجـنبية ما كان خـيارا عربيا، بل أمر فرض علينا استعماريا، بالانتداب العسكري أولا، ثم استمر بالانتداب الفكري النفساني تاليا. أليس مؤسفا، ولعلي أقول: أليس معيبا، إنه بينما العدو الغاصب يحيي، بالحس القومي أولا وبالعمل الجاد ثانيا، لغة ماتت منذ عشرين قرنا ونيف [ ص: 122 ] لتغدو لغة حضارة وعلم، تعقد بها الندوات في علوم الطب والنوويات والتكنولوجيا ، على اختلافها، ونحن أهل لغة القرآن، أهل العربية الفصحى، رباط الوحدة والكرامة، نعمل على تخلفها وإبعادها عن ميادين العلم الحديث والمعاصرة. والذين يحتجون لإعاقة حركة تعريب التعليم الشامل بانتظار أن تتوافر لها ولهم المصـطلحات وتتكامل، إنـما يضعون العربة أمام الحصـان، كما يقولون. فالتعريب ووضع المصطلحات، بل والترجمة -ترجمة المراجع والمناهج وأمهات الكتب- والتأليف، تسير معا؛ هـكذا كانت في مدارس محمد علي في الهندسة والزراعة والطب، وهكذا كانت الحال في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية فيما بعد) ، وهكذا كانت الحال؛ ولا تزال في المعهد الطبي في دمشق منذ العام 1919م، وحديثا في كليات الطب في السودان وليبيا ، ولدى بعض النشطاء في بعض كليات الوطن العربي. وليس يلزمنا إلى تحقيق ذلك إلا العزم الصادق والحس القومي على جعل العربية لغة التعليم في كل المعاهد على كل المستويات، مدعوما بتأهيل الجهاز البشري المؤهل للقيام بما يتطلبه ذلك من مهمات. ولا يعني تعريب العلم والتعليم بحال من الأحوال حربا على اللغة الأجنبية بل على العكس؛ التعريب، وبخاصة تعريب العلوم، يفترض استمرارية التواصل باللغات الأجـنبية على الطـلاب كما على الأساتذة، فلا أحد يجهل البون الشاسع بين ما وصلت إليه علوم الحضارة الحديثة وتقاناتها وما استوعبناه منها نحن حتى اليوم. فكما يفترض التعريب أن يـمارس المهندس أو الطبيب أو الزراعي أو حتى الجيولوجي مهنته على الناس، وللناس، باللغة القومية، رابطته بهم، [ ص: 123 ] ووسيلة تفاهمه معهم، فإن مستقبل مسيرة التعريب ونجاحها المستمر يتطلبان أن يكون هـذا المهندس أو الطبيب أو الخبير الزراعي ضليعا بلغة أجنبية يتواصل فيها وبها مع العلماء أو مع منجزاتهم لمتابعة الركب العلمي في تخصصه، والوقوف على آخر ما توصـل إليه زملاؤه في العالم من حوله، فلا تحصل فجوة علمية حضارية بين ما درسه هـو كطالب وبين ما تم من تقـدم بعد تخرجه كممارس، ويكون هـو في الوقت نفسه مؤهلا لأن يؤدي ما يجد من مسميات علمية في تلك اللغة بمصطلحات عربية سليمة. مقولتنا بالتعريب ليست ضد تعزيز تعليم اللغة الأجنبية، فالحاجة إلى إتقان لغة أجنبية عالمية معاصرة هـي اليوم مطلب تربوي أساسي لكل مثقف عربي أو غير عربي، عالم أو غير عالم، إنما الاعتراض الشديد هـو على إحلال اللغة الأجنبية محل العربية كلغة لتعليم العلوم. اللغة الإنكليزية هـي اليوم حاجة ضرورية يومية للعالم الفرنسي والفنلندي والألماني والروسي والياباني والكوري وأي عالم من أي قومية كان؛ لكن لا الفرنسيون ولا الكوريون ولا اليابانيون ولا الفنلنديون طرحوا مسألة اعتماد اللغة الإنكليزية في تدريس مواد العلوم في بلادهم. المؤسف أنا نرى أنه كلما قاربت حركات التعريب النجاح في بلد عربي أو كادت، تنقض عليها حركات التغريب فتعرقلها وتجهضها، والأمثلة على ذلك في مشرق العالم العربي ومغربه غير خافية، مما يذكر بالحروب المعلنة وغير المعلنة على اللغة العربية؛ لغة الدين والتراث والتاريخ المشترك. الكل متفقون على رفض الفتوى الاستعمارية بعدم صلاحية العربية لتعليم مواد العلوم؛ والكل متفقون على أن التعريب، تعريب العلوم، وتعريب البحث العلمي، والتأليف العلمي، والتقانات العلمية، ضرورة حتمية لخلق [ ص: 124 ] لغة علمية عربية، هـي في الواقع المدخل الوحيد لامتلاك القدرة العلمية العربية واقتحام آفاق المعاصرة. والكل متفقون على أن الإصرار على تعليم العلوم والتقنيات باللغات الأجنبية هـو حصار على العربية يمنعها من التطور والنمو؛ وأنه بدون رفع هـذا الحصار ستئول العربية لغة للحياة اليومية فقط، وهو أمر مناف لكافة الأهداف القومية والحضارية. والكل متفقون على أن التعريب مطلب أساسي يحفظ للأمة تاريخها وشخصيتها وكرامتها، ويؤهلها للمشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية، لتحفظ لها موقعا مشرقا في شمس عالم الغد المرموق. إن تحديات القرن الحادي والعشرين أمامنا شاخصة
– تحدي مواكبة الركب الحضاري المتسارع، لحاقا ومجاراة ومشاركة.
- تحدي أن تكون العربية لغة العلم ولغة البحث العلمي والتقانات.
- تحدي أن نتجاوز أعباء التخلف على مدى القرون الخوالي، وأعباء الجغرافيا التي خلفها لنا الانتداب والاستعمار والغزو الصهيوني بممالأة القوى الدولية المسيطرة.
- تحدي أن نعمل ونخطط وننفذ بمنطق العلم والتاريخ، لا بمنطق الاستراتيجيات القبلية والإقليمية الضيقة ، لضمان أن تدخل أجيال العرب الجديدة، علميا وتقانيا وحضاريا، القرن الحادي والعشرين دون إبطاء. تحديات كثيرة كبيرة نأمل أن نتجاوزها بنجاح يعيد إلى نفوسنا الثقة وإلى تاريخنا الأمجاد.
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) (التوبة:105) . [ ص: 125 ]