ثانيا: في ساحة العلوم الكونية:
قلة الاهتمام بالعلوم الكونية أبعدت الأمة عن فرص التسخير المتاحة للإمكانيات المكنونة تحت الأرض، بشكل خاص، سواء لأغراض البناء والتعمير وتوفير وسائل الراحة وأسباب العيش الكريم للإنسان، أو لأغراض الدفاع، الأمر الذي جعل الأمة متطفلة عالة على الآخرين في مجال الصناعة.. ورغم وفرة الأموال التي استودعت البنوك الغربية، إلا أننا نستخدم الصناعة الغربية، من المكنسة وحتى السيارة والطيارة.. وحتى وقت قريب كان بعض علماء الدين يرى أن العلوم التطبيقية البحتة لا تدخل في إطار الاهتمام الديني، وكان يمنع أبناءه عن الدراسة في المدارس غير الدينية قائلا: «إن العلم [ ص: 61 ] الواجب هـو علم الشريعة وبالطريق التي ورثها عن آبائنا في الكتب ذات الهوامش المعوجة»، ومنهم من يقول الآن: «إن الله عزوجل قد سخر لنا غيرنا ليتعب ويصنع، فهم يصنعون السيارة ونحن نركبها، وهم يصنعون الطائرة ونحن نسافر بها» (!) .
هذه العقليات الدينية، كان لها كبير الأثر في تخلفنا عن القيام بالواجب الكفائي ، في مجالات العلوم الكونية، والإفادة منها لسد احتياجات الأمة، بما يتناسب مع التحدي الحضاري الذي تواجهه، الأمر الذي أدى إلى تأخر أمتنا عن الأمم، التي اهتم أبناؤها بصورة بالغة بالاكتشافات، وسخروا طاقاتهم وقدراتهم لاكتشاف خصائص وعناصر المنظومة المسخرة للإنسان، للاستفادة منها في تحقيق رفاهيتهم وقهر الآخرين وإذلالهم واستلاب ثرواتهم ثم ربطهم، فكريا وجسديا، بالأغلال الحديدية، بحيث تستحيل معها محاولات النهوض والتقدم. [ ص: 62 ] يقول الأستاذ منير شفيق معلقا على أزمة التنمية الاقتصادية في بلدان العالم الثالث: «إن جميع هـذه الضغوط التي مارستها الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ومؤتمرات قمم حركة عدم الانحياز والقمم الإفريقية والعربية والإسلامية، وعشرات المؤتمرات والندوات العالمية والإقليمية، لم تؤد إلى النتائج المرجوة، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى تغيير النظام الاقتصادي العالمي الحالي أم بالنسبة إلى النجاح في تحقيق تنمية سريعة في بلدان العالم الثالث، ويجب أن يوضع موقف البلدان الرأسمالية المتقدمة على رأس الأسباب التي أدت إلى عرقلة كل تلك القرارات والتوصيات، وإقامتها الأسوار العالية التي تحول دون تحويل العلوم والتكنولوجيا إلى بلدان العالم الثالث، وتعرقل تصنيعها، فقد راحت البلدان الرأسمالية المتقدمة، تسعى بكل السبل إلى إبقاء كل التطلعات، التي تعبر عن إرادة الغالبية الساحقة من شعوب العالم، حبرا على الورق» [1] .
وقد كتب د.أحمد العماري عن المرجعية الفكرية (الأيديولوجية) للغزو الأوروبي الاستعماري كما تشخصها « نظرية البقاء » في الفكرالأوروبي، باعتبارها تؤكد بجلاء كامل الطبيعة «الحضارية» للغزو الأوروبي المعاصر، ذلك أن «نظرية البقاء» في النظرية الليبرالية (اللاتينية الجديدة) هـو مضمون شامل للهيمنة، يحمل مضمون التغيير الحضاري (للآخر) ، ودمج جميع خصوصياته الحضارية في الخصوصية [ ص: 63 ] الحضارية اللاتينية وحدها، وبالنتيجة فمضمون « نظرية البقاء» يعني تحقيق العالمية اللاتينية من أجل الاحتفاظ لشعوب الجامعة اللاتينية بالتفوق، عن طريق احتكار شروط القوة المطلقة (التقنية والعلمية والمالية والاقتصادية والفكرية ... ... ) والتعامل مع بقية الشعوب الأخرى على أساس قانون المنفعة، الذي يقوم على مبدأ إضعاف (الآخر) ، وربطه بسلطة الجامعة الحضارية اللاتينية عن طريق التبعية والخضوع المطلق. [2] يقول الشيخ أبو الحسن الندوي ، رحمه الله، في تعليقه على حضارة الأوروبيين: إنهم، بناء على مرتكزاتهم العقدية، يحسبون أنه ليس للإنسان وراء اللذة والراحة والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها والتغلب على أهلها والاستئثار بخيراتها وخزائنها، مقصد ولا غاية، فاستعملوا هـذه القوة والعلم في حصول اللذات، والتغلب على الناس، وقهر المنافسين، وتنافسوا في اختراع الآلات التي ينالون بها وطرهم ويعجزون بها غيرهم [3] . [ ص: 64 ] وقد أكد التقرير المعروف باسم «تقرير لجنة برانت» - وهي لجنة مستقلة حول قضايا التنمية الدولية برئاسة ويلي برانت - عمق الأزمة التي تجتاح العالم، خصوصا فيما بين بلدان العالم الثالث والبلدان الصناعية الرأسمالية المتقدمة، وهي أزمة تتمحور حول النظام الاقتصادي العالمي الحالي وضرورة تغييره، ويشمل ذلك حق بلدان العالم الثالث في القيام بدور اقتصادي - سياسي أكبر في المجال الدولي، وحقها كذلك في استرداد حقوقها التي سلبها النظام الاقصادي - السياسي الدولي الراهن.
ولم يستطع «تقرير برانت» إلا أن يعترف بالدور المعرقل الذي تقوم به دول الشمال في وجه التصنيع بدول الجنوب، وعدم مساعدتها على ذلك، فهو ينتقد مثلا «قصر النظر» و «ضيق الأفق» من قبل الأوساط الحاكمة في بلدان الشمال فيما يتعلق بمخاوفها المبالغ فيها من التصنيع في بلدان الجنوب.. ولا ينسى التقرير أن يلفت انتباه مواطني بلدان الشمال إلى حتمية مواجهة مشاكل العالم، وضرورة تبني سياسة حاسمة بخصوص المساعدة، مؤكدا لهم أن مثل هـذه السياسة ليست في التحليل النهائي عبئا اقتصاديا عليهم، وإنما هـي عبارة عن استثمار في [ ص: 65 ] جو اقتصادي عالمي أفضل وفي حياة دولية أكثر أمنا. [4] وهنا لا بد من ملاحظة الفرق الحاسم بين الإسلام الذي يحرم بيع العلم والتقنيات بالمال أوحجبها واحتكارها، وبين حضارة الغرب العلمانية التي حولت العلوم والتكنولوجيا إلى احتكار وإلى طريق للسيطرة والتحكم بالشعوب الأخرى. [5] وعلى كل، فإن الأمة الإسلامية، سواء بفعل الذات من الخمول والجهل وسوء الإدارة وضعف التعليم أو بفعل (الآخر) الذي يحتكر المعرفة ويستغل الضعيف وموارده، لم تتمكن من الاستفادة من طاقاتها في تكوين «مجتمع المعرفة» الذي يوظف المعرفة لإنتاج المعرفة ثم التقانة، وهذا أمر في غاية الأهمية، على مستوى الواجبات المجتمعية، وحفظ الأمن القومي، والتوازن الحضاري، وهو من أهم الواجبات الكفائية ، في عصر المعرفة والتقانة، وهما عصب الحياة، وسر البقاء.
إن الأمة الإسلامية تخلفت كثيرا عن البلدان الناهضة في العالم الثالث، ناهيك عن تلك الرائدة في مجال إنتاج المعرفة، وعجزت عن [ ص: 66 ] امتلاك مقومات «مجتمع المعرفة»، سواء كان ذلك على مستوى امتلاك رأس المال البشري راقي النوعية، أو على مستوى كم الإنتاج المعرفي المطلوب، كما تدل إحصاءات واستخلاصات تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وهذا لا يعني أن البلدان العربية والإسلامية عليها أن تتعلق بوهم الوصول أول الأمر إلى مؤشرات المعرفة، ولا أن تقعد عن العمل الحثيث لإقامة بنى مؤسسية قادرة، وبلورة إرادة سياسية ناجزة، تسندها موارد كافية، وصولا لامتلاك الخواتيم المعرفية المقدرة، كما أفلحت في ذلك دول لا تبعد عن الدول الإسلامية كثيرا في قيم مؤشراتها المعرفية، [6] بل يعني ذلك أن السعي في هـذا المجال من الضروريات الاستراتيجية للأمة، وأنه يجب، دينيا، صرف الجهود والإمكانات لسد الثغرات المعرفية والتقنية.
لذلك لا بد من ضرورة السعي نحو تكوين «مجتمع المعرفة»، والسعي نحو نقل وتوطين التقانة، الذي يتطلب فعالية السياق التنظيمي [ ص: 67 ] لإنتاج المعرفة، بما يضمن قيام نسق للابتكار [7] يقوم على إدارة تتميز بالكفاءة لنقل التقانة من خارج المجتمع، واستيعابها في النسيج الاجتماعي وتنشيط إنتاج المعرفة المؤدي إلى توليد تقانات جديدة بما يحقق غايات الكفاءة الإنتاجية والتنمية الإنسانية في آن واحد. [ ص: 68 ]