المبحث السابع: الإخلاص
- تعريف الإخلاص وبيان حقيقته
يذكر ابن القيم أقوال العلماء السالكين المحققين في تعريف هذا المقام العظيم وبيان حقيقته، حيث يقول: «هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة»، وقيل: «تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين»...، وقيل: «الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن»...، وقيل: «هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق»...، ومن كلام الفضيل [1] : «ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما».
وقال الجنيد: «الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله». وقيل لسهل [2] : أي شيء أشد على النفس؟، فقال: «الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب». وقال بعضهم: «الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله ولا مجازيا سواه». [ ص: 93 ] وقال مكحول [3] : «ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»... وقال أبو سليمان الداراني: «إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء» [4] .
ويقول، رحمه الله، في بيان طبيعة (الإخلاص) : «لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار... فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس، واقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص» [5] .
- قيمة الإخلاص وأهميته
ويقول في بيان قيمة (الإخلاص) وأهميته والنصوص الواردة فيه: «قال الله تعالى ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) (البينة:5) ؛
وقال: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ) (الزمر:2-3) ؛ وقال لنبيه: ( قل الله أعبد مخلصا له [ ص: 94 ] ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ) (الزمر:14-15) ؛
وقال له: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (الأنعام:162-163) ؛
وقال: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2) ؛
قال الفضيل بن عياض: «هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟، فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صـوابا ولم يكن خـالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة»،
ثم قرأ قوله تعالى: ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف:110) ؛
وقال تعالى: ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) (النساء:125) ،
فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
وقال تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) (الفرقان:23) ؛
وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله. ( قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به خيرا ودرجة ورفعة ) [6] ، وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه ، ( قال [ ص: 95 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ) [7] ، أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة؛ بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه: بتجريد الإخلاص والنصح، ومتابعة السنة.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل رياء ويقاتل شجاعة ويقاتل حمية، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [8] . وأخبر عن أول ثلاثة تسعر بهم النار: قارئ القرآن والمجاهد والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصة لله [9] . وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء ) [ ص: 96 ] [10] ...، وفي الصحيح عنه: ( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) [11] ، وقال تعالى: ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) (الحج:37) [12] .
- آفات الإخلاص وكيفية التخلص منها
ويحدد ابن القيم آفات (الإخلاص) ويبين كيفية التخلص منها، فيقول: «يعرض للعامل في عمله ثلاث آفات:
1- رؤيته وملاحظته.
2- وطلب العوض عليه.
3- ورضاه به وسكونه إليه.
فالذي يخلصه من رؤية عمله: مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه، وأنه إنما أوجب عمله مشيئة الله لا مشيئته هو،
كما قال تعالى: ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) (التكوير:29) ،
وأن الخير الذي يصدر من النفس البشرية إنما هو من الله وبه، لا من العبد ولا به، [ ص: 97 ] كما قال تعالـى: ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء ) (النور:21) ؛
وقال أهل الجنة: ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الأعراف:43) ؛
وقال تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) (الإسراء:74) ؛
وقال تعالى: ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) (الحجرات:7) ؛
فكل خير في العبد فهو مجرد فضل الله ومنته وإحسانه ونعمته، وهو المحمود عليه، فرؤية العبد لأعماله في الحقيقة كرؤيته لصفاته الخلقية من سمعه وبصره وإدراكه وقوته، بل من صحته وسلامة أعضائه ونحو ذلك، فالكل مجرد عطاء الله ونعمته وفضله. فالذي يخلص العبد من هذه الآفة: معرفة ربه، ومعرفة نفسه.
والذي يخلصه من طلب العوض على العمل: علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة، إذ هو يخدمه بمقتضى عبوديته، فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه وإنعام عليه، لا معاوضة، إذ الأجرة إنما يستحقها الحر أو عبد الغير، أما عبد نفسه فلا.
والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران:
أحدهما: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره في عمله، وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان. فقل عمل من الأعمال إلا وللشيطان فيه نصيب [ ص: 98 ] وإن قل، وللنفس فيه حظ. ( سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في صلاته؟ فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) [13] ، فإذا كان هذا التفات طرفه أو لحظه، فكيف التفات قلبه إلى ما سوى الله؟ هذا أعظم نصيب الشيطان من العبودية.
الثاني: علمه بما يستحقـه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابـها الظـاهرة والباطنـة وشـروطها، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقـا، وأن يرضى بها لربه. فالعارف لا يرضى بشيء من عمـله لربه، ولا يرضى نفسـه لله طرفـة عـين، ويستحي من مقابلة الله بعمله» [14] . [ ص: 99 ]