الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني عشر: الذكر

فضل الذكر وقيمته

يقول ابن القيم -مبينا فضل الذكر وقيمته وأسراره-: «الذكر: منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورا. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب:


إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانا فننتكس

به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم، وإذا نـزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا، ويوصل الذكر إلى المذكور؛ بل يدع الذاكر مذكورا.

وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة، والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة، بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال: قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور خراب وهو عمارتها وأساسها... [ ص: 136 ] زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، فاللسان الغافل كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء. وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لـم يغلقه العبد بغفلته، قال الحسن البصري، رحمه الله: «تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق».

وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان... وهو روح الأعمال الصالحة، فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه» [1] .

ويقول كذلك: «والذاكرون هم أهل السبق، كما روى مسلم في صحيحـه من حديث العلاء عن أبيه ( عن أبي هريرة، رضي الله عنه ، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان فقال: سيروا، هذا جمدان سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات ) [2] .

وفي المسند مرفوعا من ( حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من [ ص: 137 ] إعطاء الذهب والفضة، وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟، قال: ذكر الله عز وجل ) [3] ... ويكفي في شرف الذكر: أن الله يبـاهي ملائكته بأهله، كما في صحيح مسلم عن معـاوية، رضي الله عنـه، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحـابه، فقال: ما أجلسكم؟، قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسـلام ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟، قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة ) [4] ...

( وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أتشبث به، فقال: لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل ) [5] . [ ص: 138 ] وروى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أنه قال له: ( أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) [6] . وفي الصحيحين من حديث أبي موسى، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ) [7] [8] .

- حقيقة الذكر وأنواعه

يقسم ابن القيم الذكر إلى قسمين رئيسين:

القسم الأول: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنـزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى.

وهذا القسم نوعان:

الأول: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع -كما يقول ابن القيم- هو المذكور في الأحاديث، نحو: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكـبر»، و «سبحان الله وبحمـده»، و «لا إله إلا الله وحده [ ص: 139 ] لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، ونحو ذلك، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه، نحو: «سبحان الله عدد خلقه»، فهذا أفضل من مجرد «سبحان الله».

الثاني: الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: «الله عز وجل يسمع أصوات عباده ويرى حركاتهم ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم به من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير.

وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسوله ( من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وهذا النوع أيضا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد.

فالحمد لله: الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضى به، فلا يكون المحب الساكت حامدا ولا الـمثني بلا محبة حامدا حتى تجتمع له المحبة والثناء. فإن كرر المحامد شيئا بعد شيء كانت ثناء. وإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدا.

وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول سورة الفاتحة، فإذا قال العبد: «الحمد لله رب العالمين» قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: «الرحمن الرحيم» قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: «مالك يوم الدين» قال: مجدني عبدي [9] . [ ص: 140 ] القسم الثاني من قسمي الذكر الرئيسين: ذكر أمره سبحانه ونهيه وأحكامه.

وهو أيضا نوعان:

أحدهما: ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضي كذا.

والثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فذكره أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر. فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدة.

فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.

ومن ذكره سبحانه وتعالى: ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، ومواضع فضله على عبيده، وهذا أيضا من أجل أنواع الذكر.

فهذه خمسة أنواع. وهي تكون:

- بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.

- وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية.

- وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.

فأفضل الذكر: ما تواطأ عليه القلب واللسان. وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن [ ص: 141 ] التقصير في الطـاعات والتهاون في المعاصي والسيئات. وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئا من هذه الآثار، وإن أثمر شيئا منها فثمرة ضعيفة [10] .

أوجه ورود (الذكر) في القرآن الكريم

يقول ابن القيم: ورد (الذكر) في القرآن على عشرة أوجه هي:

الأول: الأمر به مطلقا ومقيدا،

كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ) (الأحزاب:41-42) .

الثاني: النهي عن ضده من الغفلة والنسيان،

كقوله تعالى: ( ولا تكن من الغافلين ) (الأعراف:205) .

الثالث: تعليق الفلاح باستدامته وكثرته،

كقوله تعالى: ( واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) (الجمعة:10) .

الرابع: الثناء على أهله والإخبار بما أعده الله لهم من الجنة والمغفرة،

كقوله: ( إن المسلمين والمسلمات ) إلى قوله: ( والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) (الأحزاب:35) .

الخامس: الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره،

كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ) (المنافقون:9) . [ ص: 142 ] السادس: أنه سبحانه جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له،

كقوله: ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) (البقرة:152) .

السابع: الإخبار أنه أكبر من كل شيء،

كقوله تعالى: ( اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) (العنكبوت:45) .

الثامن: أنه جعله خاتمة الأعمال الصالحة،

فقد ختم عمل الصيام بقوله: ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) (البقرة:185) ؛

وختم به الحج في قوله: ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) (البقرة:200) ؛

وختم به الصلاة في قوله: ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) (النساء:103) .

التاسع: الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته، وأنهم أولوا الألباب والعقول،

كقوله تعالى: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) (آل عمران:190-191) .

العاشر: أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها، فإنه سبحانه قرنه -مثلا -بالصلاة،

فقال: ( وأقم الصلاة لذكري ) (طه:14) ؛

وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه، بل هو روح الحج ولبه ومقصوده، وقرنه [ ص: 143 ] بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الأعداء،

فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) (الأنفال:45) [11] .

فوائد الذكر

ذكر ابن القيم للذكر نحو مائة فائدة. منها -على سبيل المثال-:

أنه يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان ويقمعه، ويزيل الهم والغم عن القلب ويجلب له الفرح والسرور، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويورث الذاكر المحبة والإنابة والمراقبة حتى يدخله في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ويورث الهيبة والإجلال لله تعالى، كما يورث جلاء القلب من صداه، ويحط الخطايا، ويزيل الوحشة بين العبد وربه تبارك وتعالى، ويجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وعزومه، كما أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين [12] . [ ص: 144 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية