الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول: التوبة

التوبة مبدأ مقامات السالكين وأول مراحل الطريق إلى الله، بل هي المدخل المفضي إلى ذلك الطريق، والقرين المتنقل في مدارجه من البداية إلى النهاية، ومن لا توبة له لا سير له، وهي رجوع عما كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه. يقول ابن القيم: «ومنـزل التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منـزل آخر ارتحل به واستصحبه معه ونـزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك، وقد قال الله تعالى: ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) [1] (النور: 31) .

- حقيقة التوبة ومكانتها

ويبين ابن القيم حقيقة (التوبة) ومكانتها في الإسلام، فيقول: «إن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتـزام فعل ما يحب وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر. ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها، فقال: ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه [ ص: 58 ] المؤمنون لعلكم تفلحون ) (النور:31) ، فكل تائب مفلح، ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه،

وقال تعالى: ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) (الحجرات:11) ،

وتارك المأمور ظالم؛ كما أن فاعل المحظور ظالم. وزوال اسم (الظلم) عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين.

فالناس قسمان: تائب وظالم، ليس إلا،

فالتائبون هم ( العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ) (التوبة:112) ،

فحفظ حدود الله جزء من التوبة، والتوبة هي مجموع هذه الأمور. وإنما سمي تائبا لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته، كما تقدم.

فإذا (التوبة) هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى (التوبة) ، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه.

فإذا (التوبة) هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات، ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته -كما تقدم- وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق. والأمر والتوحيد جزء منها، بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها» [2] . [ ص: 59 ] ويقول: «و (التوبة) لها مبدأ ومنتهى. فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده، موصلا إلى رضوانه،

وأمرهم بسلوكه بقوله تعالى: ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) (الأنعام:153) ،

وبقوله: ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) (الشورى:52–53) ؛

وبقوله: ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ) (الحج:24) ؛

ونهايتها: الرجوع إليه في المعاد، وسلوك صراطه الذي نصبه موصلا إلى جنته، فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة رجع إليه في المعاد بالثواب،

وهذا هو أحد التأويلات في قوله تعالى: ( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) (الفرقان:71) ؛

قال البغوي وغيره: (يتوب إلى الله متابا: يعود إليه بعد الموت متابا حسـنا يفضـل على غيره) ، فالتوبة الأولى -وهي قوله (ومن تاب) - رجوع عن الشرك. والثانية: رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة» [3] .

ويقول أيضا: «حقيقة التوبة: هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل. والثلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التوبة، فإنه في ذلك الوقت يندم، ويقلع، ويعزم. فحينئذ يرجع إلى العبودية التي خلق لها. وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة» [4] . [ ص: 60 ]

- علامات التوبة الصحيحة

ويحدد ابن القيم علامات التوبة المقبولة الصحيحة، فيقول: إن «منها: أن يكون [التائب] بعد التوبة خيرا مما كان قبلها. ومنها: أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين. فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه ( ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) (فصلت:30) ؛

فهناك يزول الخوف. ومنها: انخلاع قلبه وتقطعه ندما وخوفا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها» [5] .

- النصح في التوبة

ويتناول ابن القيم التوبة النصوح ويبين أن: «النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:

الأول: تعمـيم جميـع الذنوب واستغراقها بـها، بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.

والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها.

والثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها. ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، ولحفظ حاله أو لحفظ قوته [ ص: 61 ] وماله، أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل» [6] .

- الآثار الحسنة للتوبة

ويؤكد ابن القيم أن للتوبة آثارا حسنة كثيرة، فيقول: «إن التوبة توجب للتائب آثارا عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدونها، فتوجب له من المحبة والرقة واللطف وشـكر الله وحمده والرضـا عنه عبوديات أخر، فإنه إذا تاب إلى الله تقبل الله توبته فرتب له عـلى ذلك القبول أنواعا من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها ويفسدها» [7] . [ ص: 62 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية