الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الخامس: الرجاء

- حقيقة الرجاء والفرق بينه والتمني

« (الرجاء) حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير. وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وقيل: هو الثقة بجود الرب تعالى» [1] .

والفرق بينه والتمني، في نظر ابن القيم: «أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد. والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل.

فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها.

والثاني: كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع.

ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل» [2] .

ويؤكد ابن القيم على هذا الفرق الدقيق، فيقول: «الفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز. والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه، قال تعالى: ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في [ ص: 84 ] سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله ) (البقرة:218) ؛ فطوى سبحانه بساط الرجاء إلا عن هؤلاء» [3] .

- قيمة الرجاء وفضله

ويبين ابن القيم قيمة (الرجاء) وفضله وعلو منـزلته، فيقول: «هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشـرفها. وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم،

فقال: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21) ؛

وفي الحديث الصحيح الإلهي ( عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عن ربه عز وجل : يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ) [4] ، وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، رضي الله عنه ، ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي [ ص: 85 ] ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) [5] . وقد أخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله تعالى: أنهم كانوا راجين له خـائفين منه، فقال تعالى: ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ) (الإسراء:56-57) ؛ يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني هم عبادي يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي، فلماذا تدعونهم من دوني؟، فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحب والخوف والرجاء» [6] .

ويقول أيضا عن (الرجاء) : «هو عبودية وتعلق بالله من حيث اسمه (المحسن البر) ، فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الذي أوجب للعبد الرجاء من حيث يدري ومن حيث لا يدري، فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح، وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر [ ص: 86 ] الإرادات، ولي من أبيات:


لولا التعلق بالرجاء تقطعت نفس المحب تحسرا وتمزقا     وكذاك لولا برده بحرارة الـ
أكباد ذابت بالحجاب تحرقا     أيكون قط حليف حب لا يرى
برجائه لحبيبه متعلقا؟!     أم كلما قويت محبته له
قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا     لولا الرجا يحدو المطي لما سرت
بحمولها لديارهم ترجو اللقاء» [7]



ويقول أيضا: «الرجاء ضروري للمريد السالك والعارف، لو فارقه لحظة لتلف أو كاد، فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنـزلة عنده يرجو وصوله إليها، ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها» [8] .

- أنواع الرجاء

ويبين، رحمه الله، أن «الرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع غرور مذموم. فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه. ورجاء رجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه. [ ص: 87 ] والثالث: رجاء رجل متماد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب [9] .

ويرى «أن من رجا شيئا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:

أحدها: محبة ما يرجوه.

والثاني: خوفه من فواته.

والثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان» [10] .

- الجمع بين مقامي الخوف والرجاء

كما يرى أنه ينبغي للسالك أن يجمع بين مقامي الخوف والرجاء، وأن يغلب الخوف في حال الصحة، ويغلب الرجاء في حال دنو الأجل، ومما قاله في هذا الشأن: «القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنـزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف» [11] ، وفي صحيح مسلم ( عن جابر رضي الله عنه ، أنه قال: سمعت [ ص: 88 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -قبل موته بثلاث-: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ) [12] [13] . - فوائد الرجاء

ويبين أن للرجاء فوائد كثيرة، منها:

1- إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.

2- أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحق الجواد، أجود من سئل وأوسع من أعطى. وأحب ما إلى الجواد: أن يرجى ويؤمل ويسأل، ( وفي الحديث: من لم يسأل الله يغضب عليه ) [14] . والسائل راج وطالب، فمن لم يرج الله يغضب عليه.

3- أن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله ويطيب له المسير ويحثه عليه ويبعثه على ملازمته، فلولا الرجـاء لما سـار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء. [ ص: 89 ] 4- أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة ويلقيه في دهليزها، فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى وشكرا له ورضى به وعنه.

5- أنه يبعثه على أعلى المقامات، وهو مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية، فإذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.

6- أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعـلق بها، فإن الراجي متعـلق بأسمـائه الحسـنى، متعبد بـها، داع بها،

قال تعالى: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) (الأعراف: 180) ...

7- أن الخوف مستلزم للرجاء، والرجاء مستلزم للخوف، فكل راج خائف، وكل خائف راج...

8- أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه فأعطاه ما رجاه، كان ذلك ألطف موقعا، وأحلى عند العبد، وأبلغ من حصول ما لم يرجه. وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار، فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم.

9- أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته، من الذل والانكسار والتوكل والاستعانة والخوف والرجاء والصبر والشكر والرضى والإنابة وغيرها. ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة التي هي من أحب عبوديات عبده إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف» [15] . [ ص: 90 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية