الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا: حياة ابن قيم الجوزية [1] :

- اسمه ونسبه ومولده

هو الإمام الرباني والعالم والفقيه الجليل أبو عبد الله شمس الدين محمد ابن أبي بكر أيوب بن سعد بن حريز الزرعي [2] الدمشقي الحنبلي، ولد بدمشق في اليوم السابع من شهر صفر سنة 691هـ، ونشأ في بيت علم ودين وفضل:

فوالده أبو بكر بن أيوب، عالم جليل ورجل تقي صالح، كان قيما على المدرسـة الجوزية بدمشق [3] ، ولذا اشتهـر بلقـب (قيم الجوزية) ، كما اشتهر به أبناؤه وذريته من بعده، فيقال للواحد منهم - ولا سيما إمامنا شمس الدين محمد بن أبي بكر- (ابن قيم الجوزية) . [ ص: 39 ] - وأخوه زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي بكر إمام عالم، تتلمذ على يديه كثير من العلماء، منهم الحافظ ابن رجب الحنبلي.

ولزين الدين عبد الرحمن هذا ابن فاضل هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل، اقتنى أكثر مكتبة عمه شمس الدين ابن القيم بعد وفاته.

وقد امتد هذا التوجه العلمي في أبناء الإمام شمس الدين بن القيم، فابنه شرف الدين عبد الله، كان مفرط الذكاء، ومن العلم والصلاح بمكان، تتلمذ على والده وتولى التدريس في مكانه بعد وفاته؛ وابنه برهان الدين إبراهيم علامة نحوي فقيه متقن، أخذ العلم عن أبيه وغيره، وأفتى ودرس وألف وناظر.

- تحصيله العلمي

توجه ابن القيم لطلب العلم وتحصيله منذ صغره، فقد بدأ السماع من شيوخه وهو في السابعة من عمره [4] ، ثم لم يزل يثابر في طلب العلم ويترقى في درجاته حتى حاز علما جما وبلغ فيه منـزلة رفيعة.

وقد هيأ الله سبحانه له جملة من الأسباب مهدت لبروزه، وأسهمت في تفوقه في العلم ورسوخ قدمه فيه، منها:

1- قوة حافظته، ووفور عقله، وسلامة فكره، وتعدد مواهبه. [ ص: 40 ] 2- رغبته الصادقة الجامحة في العلم، واجتهاده البالغ في تحصيله، وافناؤه عمره في ذلك [5] .

3- كثرة الكتب والمؤلفات ووفرتها في عصره.

4- ما تهيأ له من كبار العلماء الراسخين في مختلف العلوم والفنون، الذين تتلمذ على أيديهم ونهل من علومهم، فكان لهم الأثر القوي في تكوينه الفكري ونضجه العلمي.

ومن أشهر هؤلاء العلماء ما يلي [6] :

أ- أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم المقدسي الحنبلي، المعروف بالشهاب العابر، المتوفى سنة 697هـ، وهو أقدم شيوخ ابن القيم.

ب- أبو الفتح شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلبكي الحنبلي الفقيه اللغوي المتوفى سنة 709هـ.

ج- أم محمد فاطمة بنت الشيخ إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي البعلي، المسندة المحدثة، المتوفاة سنة 711هـ.

د- صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأربوي الهندي، الفقيه الأصولي المتوفى سنة 715هـ.

هـ- تقي الدين أبو الفضل سليمان بن قدامة المقدسي الحنبلي، مسند الشام وكبير قضاتها، المتوفى سنة 715هـ. [ ص: 41 ] و- أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 716هـ.

ز- أبو بكر زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، المتوفى سنة 718هـ.

ح- شرف الدين عيسى بن عبد الرحمن المطعم، المتوفى سنة 719هـ.

ط- والده أبو بكر بن أيوب (قيم الجوزية) ، المتوفى سنة 723هـ، أخذ عنه الفرائض.

ي- شـرف الدين أبو محمـد عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، المتوفى سنة 727هـ.

ك- تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، شيخ الإسلام المتوفى سنة 728هـ، وهو أجل شيوخه وأكثرهم أثرا في تكوينه الفكري ونضجه العلمي وتوجهه السلفي، لازمه حتى تفقه به وأخذ عنه علما جما.

ل- مجد الدين إسماعيل بن محمد الفراء الحراني، شيخ الحنابلة بدمشق، المتوفى سنة 729هـ.

م- زين الدين أيوب بن نعمة النابلسي الكحـال الدمشقي، المتوفى سنة 730هـ.

ن- بدر الدين بن إبراهيم بن جماعة الحموي الشافعي، قاضي القضاة والإمام الخطيب المفسر، المتوفى سنة 733هـ. [ ص: 42 ] س- جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن زكي الدين الدمشقي الشافعي، المعروف بالحافظ المزي، إمام المحدثين، المتوفى سنة 742هـ.

وقد درس ابن القيم على هؤلاء العلماء المتبحرين علوم الشريعة وعلوم الآلة: التوحيد، وعلم الكلام، والتفسير، والحديث، والفقه وأصوله، والفرائض، واللغة والنحو، وغيرها من العلوم، حتى برع فيها وعلا كعبه وفاق الأقران.

يقول عنه ابن رجب: «تفقه في المذهب، وبرع وأفتى...، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفا في التفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين، وإليه فيهما المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى، [وعلم] الكلام، والنحو وغير ذلك، وكان عالما بعلم السلوك وكلام أهل التصوف وأشاراتهم ورقائقهم، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولى» [7] .

ويقول ابن كثير: «سمع الحديث واشتغل بالعلم وبرع في علوم متعددة، سيما علم التفسير والحديث والأصلين» [8] .

ويقول ابن حجر: «كان جرئ الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف» [9] . [ ص: 43 ] ويقول ابن تغري بردي: «وكان بارعا في عدة علوم ما بين تفسير وفقه وعربية ونحو وحديث وأصول وفروع» [10] .

ويقول السيوطي: «صنف وناظر واجتهد، وصار من الأئمة الكبار في التفسير والحديث والفروع والأصلين والعربية» [11] .

ويقول الشوكاني: «برع في جميع العلوم وفاق الأقران واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف» [12] .

- عقيدته ومذهبه

سلك ابن القيم، رحمه الله، مسـالك علماء السلف في عقيدته، فقررها في عامة كتبه أحسن تقرير، ودعـا إليها ورد على المخالفين لها، وبين ذلك أحسن بيان في قصيدته النونية المشهورة المعروفة بـ (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية) ، ولقـد كانت كتبه وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية -ولم تـزل- مرجعا معتمدا في تقرير عقيدة السلف في مسائل التوحيد والغيب والنبوات وأركان الإيمان وأفعال العباد وغيرها من قضايا الاعتقاد. [ ص: 44 ] وأما مذهبه الفقهي فهو مذهب الحنابلة كأسلافه وعقبه من العلماء، ووصفه بعـض من ترجـم له من العلماء بالمجتهد المطلق [13] . وقد امتاز، رحمه الله، في دراساته واختياراته الفقهية باتباعه للدليل وترك ما خالفه كائنا من كان قائله [14] ، ومحاربته للتقليد وتشنيعه على المقلدة [15] ، واحترام الأئمة ومعرفة فضلهم ونصحهم لله ورسوله، واجتناب تنقصهم أو الوقيعة فيهم، مع ترك ما جانب الصواب -في نظره- من أقوالهم [16] .

- أخلاقه وعبادته

نشأ ابن القيم في أسرة ذات علم وفضل -كما تقدم-، وكان حريصا على مجالس العلماء من ذوي التقى والصلاح والخلق الكريم، يتقلب فيها ويقتبس منها العلم والخلق والفضيلة، فنشأ نشأة كريمة على أخلاق عالية وصفات حميدة، وتقى وصلاح وورع، واجتهاد في الطاعة والعبادة.

كما كان لطيب نفسه وعلو همته وعنايته الفائقة بالفضائل الخلقية؛ بحثا وتحقيقا ودراسة أثرها القوي في حسن سيرته.

ولذا فقد أشاد مترجموه بأخلاقه الفاضلة وزهده وعبادته، ويقينه بالله وحبه له وإنابته إليه، ودأبه في السير إلى الله والدار الآخرة. [ ص: 45 ] يقول ابن كثير: «كان حسن القراءة والخلق، كثير التودد، لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وكنت أصحب الناس له وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصـلاة يطيلها جدا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع ولا ينـزع عن ذلك رحمه الله...، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة» [17] .

ويقول ابن رجب: «وكان، رحمه الله، ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والانكسـار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديتـه، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه...، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا عنه، ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ، وكان مدة حبسه مشتغلا بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر، ففتح عليه في ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحـة،... وحج مرات وجاور بمكـة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمرا يتعجب منه» [18] . [ ص: 46 ] ويقول ابن حجر: «وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: (هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي) ، وكان يقول: (بالصبر والفقر تنال الإمامة في الدين) ، وكان يقول: (لابد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه) » [19] .

- أعمـاله

ارتبطت أعمال ابن القيم، رحمه الله، بحياته العلمية فلم تخرج عنها، وأهم هذه الأعمال التي أمضى فيها عمره:

أ- الإمامة بالمدرسة الجوزية، التي كان والده قيما عليها، وقد أم الناس فيها مدة طويلة، وكذا الخطابة في بعض جوامع دمشق.

ب- التدريس، وقد بدأ الجلوس له أيام ملازمته لشيخه ابن تيمية إلى وفاته، وقد عني في دروسه بتقرير مسائل الاعتقاد، كما درس الحديث والتفسير والفقه وأصوله، وغيرها من العلوم.

وقد أخذ عنه العلم جمع غفير من كبار الحفاظ ومشاهير العلماء من الحنابلة وغيرهم، كشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي، العالم الحافظ المتوفى سنة 744هـ، والمحدث البارع محمد بن أحمد الذهبي الشافعي المتوفى سنة 748هـ، وابنه عبد الله المتوفى سنة 756هـ، ومحمد بن محمد بن أحمد المقري القرشي المتوفى سنة 759هـ، وابنه إبراهيم المتوفى سنة 767هـ، وعلامة التفسير والفقه والحديث الحافظ ابن كثير الشـافعي المتوفـى سنة [ ص: 47 ] 774هـ، والحافـظ ابن رجب الحنبلي المتوفى سنة 795هـ.

ج- الإفتاء والمناظرة، حيث سعى من خلالهما إلى نشر السنة وبيان الحق للناس، مستشعرا في ذلك نعمة العلم، ومسؤولية تبليغه للناس، ووجوب الصبر على تبعات ذلك من المحنة والابتلاء والأذى.

د- التأليف، حيث أولاه جل عنايته، فجاءت مؤلفاته وافرة العدد [20] ، كثـيرة النفـع، قيمة المحتـوى، وعـلى درجـة عـالية من التحرير والإتقان والتأصيل.

ومن أشهر هذه المؤلفات مما هو مطبوع ومتداول ما يلي:

1- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.

2- روضة المحبين ونـزهة المشتاقين.

3- طريق الهجرتين وباب السعادتين.

4- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.

5- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة.

6- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.

7- الفوائد.

8- الروح. [ ص: 48 ] 9- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.

10- تحفة المودود في أحكام المولود.

11- أحكام أهل الذمة.

12- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.

13- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.

14- أعلام الموقعين عن رب العالمين.

15- هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.

16- شفاء العليل في مسائل القضاء والحكمة والتعليل.

17- الرسالة التبوكية.

18- الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية.

19- زاد المعاد في هدي خير العباد.

20- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام.

21- الوابل الصيب من الكلم الطيب.

22- الصلاة وحكم تاركها.

23- تهذيب مختصر سنن أبي داود.

24- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.

25- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.

26- بدائع الفوائد.

27- التبيان في أقسام القرآن. [ ص: 49 ] 28- الفروسية.

- محنتـه

أوذي ابن القيم، رحمه الله، لصدعه بالحق وإنكاره بعض ما كان شائعا في عصره من مخالفات، فقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل، كما أثارت بعض آرائه واختياراته بعض علماء عصره ممن جمدوا على التقليد، وضاقت نفوسهم عن تقبل الخلاف وتقدير الرأي المدعوم بالدليل، فسعوا إلى إيذائه والنيل منه وتأليب الولاة عليه.

وسجن مع شيخه ابن تيمية بالقلعة منفردا عنه، وظل بالسجن حتى وفاة شيخه سنة 728هـ.

وجرى له بسبب فتواه في مسألة الطلاق، وفتواه بجواز المسابقة بغير محلل محن طويلة مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي المتوفى سنة 756هـ وغيره.

- وفـاتـه

توفي ابن القيم ليلة الخميس في الثالث عشر من رجب سنة 751هـ وقت أذان العشاء، وصلى عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع الجراح، وقد كانت جنازته حافلة شهدها القضاة والأعيان والصالحون، وتـزاحم الناس على حمل نعشه، ودفن بمقبرة الباب الصغير بدمشق عند والدته، رحمهما الله تعالى. [ ص: 50 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية